حين يروي الرفاق حكايات الإعتقال والإضطهاد

حجم الخط

القوات اللبنانية ـ الحكيم

حين يروي الرفاق حكايات الإعتقال والإضطهاد

صرخات الرفاق لا تزال تدوِّي…

 

بعض الأشخاص يختارون قدرهم وآخرون تفرض الأقدار نفسها عليهم فيصبحون جزءًا منها، ويتحولون معها قصصًا وشهادات حيَّةً تُروى عن  مناضلين تحدّوا الموت، لتبقى في ذاكرة الأجيال القادمة شاهدةً على عمق نضالٍ لم يتوقف يومًا.

ثمة من يسأل كيف استمر حزب “القوات اللبنانية” بهذه القوة، على رغم الصعوبات التي واجهها منذ أيام الحرب حتى يومنا، مرورًا بالإعتقالات والإغتيالات في زمن الوصاية؟ الجواب عند رفاق استشهدوا، وآخرون يتذكرون ويروون للتاريخ: طوني داوود، ومارون القزّي، وبربر عيسى الخوري، وسعد جبراييل، الذين اعتُقلوا ويستذكرون محطات لتبقى في ذاكرة الأجيال.

12 نيسان 1994 نُفّذ أمر سلطة الوصاية، اعتُقل قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع. التهمة كانت جاهزة ومفبركة سلفًا، تفجير كنيسة سيدة النجاة! لتتوالى بعدها حملات الإعتقالات والمضايقات والقمع، بحق مناضلي “القوات اللبنانية”. حُلّ الحزب، صودرت الأملاك، قُمعت الحريات، وسيطر الخوف على قلوب الكثيرين، وحدهم رفاق حملوا مشعل النضال، تجمعهم قضية لم يقبلوا المساومة عليها، ليحوّلوا الضحية لتصبح أقوى من الجلّاد.

 

داوود: أصوات الرفاق تحت التعذيب تصمّ الآذان

اعتُقل طوني داوود قبل أن يدخل الحكيم الى السجن بحوالي 20 يومًا تقريبًا، بسبب معرفته الشخصية بشاهد الزور في تفجير كنيسة سيدة النجاة جريس الخوري، كونه يملك بعض المعلومات عنه. يومها كان النظام الأمني يُطوِّق غدراس، ويروي طوني لـ”المسيرة” أنه في ذلك النهار خرج من غدراس للحصول على بعض الأوراق، وعند عودته إليها مساءً إلتقى برفيقه جهاد سليمان الذي طلب منه أن يوصله بالسيارة كي يغادر.

ويضيف: “نزلنا بالسيارة من دون إنارة المصابيح، وعندما وصلنا الى المكان المقصود نزل جهاد، وفيما كنت أغادر أضيئت مصابيح السيارة خطأ، فوقعت في الكمين الذي أقامته القوى الأمنية الموجودة هناك، فلحقوا بالرفيق جهاد وتم اعتقاله، وأخذونا الى التلة الواقعة فوق غدراس حيث تتمركز قيادتهم، ومن هناك أرسلونا مباشرةً الى وزارة الدفاع.

كان يوم إثنين، بحسب ما أذكر وكان اليوم الأول في أسبوع الآلام. وهناك بدأت رحلة التعذيب والتحقيق، بداية سألوني عن مهامي في “القوات”، فقلت لهم بأنني في جهاز الحرس، علمًا أنني كنت في عداد عناصر مواكبة الحكيم. كما أنكرت معرفتي بجهاد سليمان الذي أعطاهم إسم غير إسمه عندما قبضوا عليه، وبقيت على أقوالي ولم أغيّرها طيلة فترة الإعتقال”.

من يوم الإثنين لغاية يوم الخميس تعرّض طوني للضرب المبرّح والتعذيب، وكان كل همهم أن يعترف بأنه فجّر الكنيسة. يوم الخميس، وكان “خميس الغسل”، إصطحبوني مع جهاد سليمان الى التحقيق في ثكنة صربا، وكان المحقق هناك يعرف جهاد معرفة شخصية، وبالتالي عرفوا أنه أعطاهم إسمًا وهميًا، فطلب مني في حال أُخلي سبيلي، أن أتصل بوالدته وأخبرها أنه موقوف. وعند المساء أُعيد نقلنا الى وزارة الدفاع، وطيلة هذا الوقت كنا معصوبي الأعين.

في الوزارة بدأت مرحلة التعذيب لثلاثة أيام متواصلة، من الجمعة حتى يوم الأحد، إستعملوا فيها كافة أنواع وأساليب التعذيب التي كانت موجودة لديهم. وقتها لم يكن قد تم اعتقال الحكيم بعد، لذلك كانوا يضغطون علينا بشكل كبير، للحصول على معلومات وتفاصيل عن مقرّ جعجع في غدراس.

لا يتذكر طوني المدة بالتحديد التي قضاها في أقبية وزارة الدفاع، والتي امتدت بين 17 والـ20 يومًا. “وضعوني في غرفة إفرادية، وفي بعض الأوقات كانوا ينقولنني الى غرفة فيها حمام تفوح منها روائح كريهة”، ويضيف: “لاحقاً بدأت حملة الإعتقالات، وبدأت الغرف تمتلئ بالرفاق، وأصوات الرفاق تحت التعذيب تصمّ الآذان. عندها وضعونا في ممر طويل وأيدينا مربوطة الى الخلف، وكنا معصوبي الأعين. وكما العادة، كان التحقيق مستمرًا تحت التعذيب إما بالضرب بآلات حادة، والتعليق على بلانكو، أو خلع الظهر على بساط الريح. وعندما يرحل المحققون كان السجانون يتسلّون بتعذيبنا بالصاعق الكهربائي، الذي كنت عندما أسمع صوته ترتجف عظامي”. بعد حوالى 15 يومًا، طلب طوني من السجانين أن يسمحوا له بالإستحمام، ففعلوا، لكنهم قطعوا عنه الماء قبل أن ينتهي من الإستحمام.

ذات صباح نادى السجان بإسم طوني كاحله، “هنا بدأت أرتجف خوفاً، لأن الأخير كان معنا في جهاز المواكبة والمهمات التي كنا نقوم بتنفيذها سويًا. وبعد أن تأكدت من خلو الممر الذي كنّا فيه، حيث كنت أستطيع الرؤية من تحت العصبة عندما أستلقي على ظهري، ناديت طوني وطلبت منه عدم التكلّم بأي شئ، لأنهم لا يعرفون شيئًا، ولكن بعد حوالى ساعتين أو ثلاث ساعات إستدعوني مرة جديدة الى التحقيق، وهناك أعطوني أوراقي وأخلوا سبيلي وأنذروني بأن لا أخبر أحدًا بما حدث معي في الإعتقال، وجعلوني أوقع على أوراق بعدم تعاطي العمل السياسي، وأرسلوني الى أحد المراكز الأمنية  في عين الريحانة، ليعيدوني بعدها الى مركز آخر في الزلقا. هناك أبلغني الضابط أن عليّ أن أمرّ عليهم كل 15 يومًا لإعطاء إفادتي، وهذا كان  يوم الجمعة الذي أُخلي سبيلي فيه من المعتقل. وعشت هاربًا طيلة مدة إعتقال الحكيم، بعد أن  قرأت في الجريدة  خبر تسطير بلاغ بحث وتحرٍ بحقي، وبقيت هكذا الى حين خروج الحكيم من الإعتقال”.

 

القزي: التعذيب النفسي كان أقسى من الجسدي

يعيش مارون القزي اليوم في كندا مع عائلته، فما عاشه في فترة إعتقاله ترك فيه ندوبًا نفسية لا تُشفى، تسمع وجعها في رنة صوته وخوفه المستمر على رفاقه الموجودين في لبنان من إستدعائهم مرة جديدة للتحقيق، “لا أريد ذكر أي إسم من أسماء رفاقي، لا أريدهم أن يتأذوا من جديد”، يقول مارون في سياق حديثه، ويتذكّر ما حدث في ذلك النهار الأسود. بعد اعتقال الحكيم تم اعتقاله مع عدد من شباب مجموعة من المواكبة كان مسؤولًا عنها.

ويروي مارون: “ليلتها نقلونا في شاحنةٍ عسكريةٍ الى ثكنة صربا، كنا معصوبي الأعين، وبمجرد وصولي الى هناك بدأت التعرّض للضرب المبرّح، ثم نقلونا الى اليرزة، لنصل بعدها الى وزارة الدفاع”. يخبر مارون، حيث بدأ التحقيق معي.

“كانت الأسئلة تدور حول تفجير كنيسة سيدة النجاة، والمهمات الأمنية التي كانت توكل إلينا، وكأنهم يريدون جمع المعلومات مني، كي يستطيعوا إغراق الحكيم بالتهم، حتى وصل بهم الأمر الى الطلب مني شتم الحكيم أمام شباب مجموعتي، بهدف تحطيم معنوياتهم، وهذا ما رفضته، فكيف سأشتم قائدًا أعتبره رمزًا كبيرًا، فانهالوا عليّ بالضرب والركل على بطني، وحاول أحدهم من شدّة حقده وغضبه خنقي، ليأتي زميل له ويرفعه عني”.

أمضى مارون ثمانية أيام في أقبية وزارة الدفاع لا يعرف ليله من نهاره، كانت يداه دائمًا مكبّلتين خلف ظهره، معصوب العينين كحال كل رفاقه المعتقلين، الذين كان يسمع صوت صراخ بعضهم من شدّة التعذيب.

“كانوا كلما أرادوا إصطحابي الى التحقيق يضربونني بالعصي على رأسي قبل الوصول الى مكتب المحقق، وهناك كانوا ينهالون عليّ بالصفعات عندما أرد عليهم بأجوبة لا تتطابق مع الأجوبة الجاهزة والمحضّرة سلفًا لأسئلتهم.

التعذيب النفسي كان من الوسائل المعتمدة بشكل كبير بهدف تحطيمنا وتحطيم معنوياتتا. أذكر أنه في أحد الأيام رفعوا العصبة عن أعيننا وأنذروننا بعدم التحدث، وجعلونا نمر أمام الباب المفتوح لزنزانة الحكيم. رأيناه واقفًا إلى الحائط، مكبل اليدين ومعصوب العينين ورأسه مردودٌ الى الخلف. كان هدفهم إذلال القائد وضرب معنوياته لكنهم أخفقوا”.

أُخليَ سبيل مارون بعد ثمانية أيام من إعتقاله وتوقيعه على تعهد بعدم التعاطي بأي عمل سياسي أو الإجتماع برفاقه، وظلوا يستدعوه الى التحقيق في أحد المراكز الأمنية في الزلقا، ليغادر بعدها لبنان هربًا منهم الى كندا.

 

الخوري: عندما صرخ بهم الحكيم…

كان بربر عيسى الخوري الذي يعمل كأمين السر لمكتب الحكيم يعيش في جو ما يحدث من محاولات لضرب “القوات” وإخضاع الحكيم، الذي طلب منه أن يبقى مع زوجته ستريدا عندما أتوا لاعتقاله، ولكنهم اعتقلوه مباشرة بعد اعتقال الحكيم بحوالى أربع أو خمس ساعات، واقتيد الى ثكنة صربا، ومن هناك مباشرةً الى وزاره الدفاع.

“هناك استقبلوني بعبارة “سبقك صاحبك” أي الحكيم، يقول بربر، “ليبدأ بعدها التحقيق معي، الذي امتد حتى ظهر اليوم التالي، وقد علمت ذلك من خلال سؤال أحد الحراس عما إذا قدموا لي طعام الغداء.

12 ساعة متواصلة من التحقيق، ولم يحصلوا مني على أية معلومة، لأنني أساسًا لا أملك أية معلومات أمنية، إذ كان عملي يقتصر في غدراس على تنظيم جدول مواعيد الحكيم، واستقبال زواره. وكانت هذه المرة الوحيدة التي حققوا فيها معي  خلال الـ16 يومًا التي قضيتها موقوفًا في وزارة الدفاع.

مرميًا على الأرض في الممر مع عدد كبير من الرفاق، افترش بربر أرض الكوريدور، “كنا ننام “راس وكعب”، ممنوع علينا التكلّم مع بعضنا البعض، وكانت زنزانة الحكيم في الجهة المقابلة لنا. في أحد الأيام قال لنا أحد الحراس “شفتوا يا شباب لو سمعتوا منا من الأول ما كان صار فيكم هيك”، ليرد عليه الحكيم من داخل الزنزانة “أترك الشباب بحالهم ما إلك شغل معهم”.

أصعب المحطات التي مر بها بربر في أقبية وزارة الدفاع، كانت عند سماعه صراخ الرفاق تحت التعذيب، كثيرون تم تعذيبهم مثل جهاد سليمان، طوني كاحله، رفيق الزين الذي صلبوه. وفي أحد الأيام، أتى واحدٌ من الحراس وقال له: “حضّر حالك، رح يشوفك القاضي، ورح يخلو سبيلك”، وبالفعل تم إخلاء سبيله بعد أن وقّع على أوراق بعدم التعاطي بالعمل السياسي، ولكنهم ظلوا يستدعونه لشرب فنجان قهوة للتحقيق معه في إحدى المراكز التابعة للنظام الأمني الذي كان قائمًا في ذلك الوقت، وبعدما ضاق ذرعًا من الإستدعاء أبلغهم نيته بالسفر الى البرازيل حيث عاش هناك لمدة 11 سنة، وعاد الى لبنان بعد خروج الحكيم من المعتقل.

 

جبرايل: 12 سنة في روميه

اعتُقل سعد جبراييل من عناصر فرقة الصدم بعد اعتقال الحكيم بتاريخ 16/5/1994، يومها داهموا منزل صهره في بلدة دوما ظنًا منهم أن هذا منزله، فإصطحبوا صهره ليرشدهم الى منزله في بلده محمرش، ولكنهم لم يجدوه لأنه لم يكن ينام في تلك الفترة في المنزل.

ويروي: “أخبرني أخي الصغير وصهري بما حدث، عندها اتصلت بأخي الذي كان معاونًا أول في الجيش ويخدم في أمانة سر وحدة المكافحة في وزارة الدفاع، وأخبرته بما حصل ليتبيّن له بعد سؤاله عن الموضوع وجود وشاية بحقي بتهمة المتاجرة بالأسلحة، فطلب مني ملاقاته في مقر عمله في الوزارة، حيث التقينا بالضابط المسؤول عنه الذي أخبره بأنني غير مطلوب من قبل مخابرات الجيش، قد يكون تحري جونيه. ذهبت مع أخي الى هناك وعند وصولنا وتعريفنا عن أنفسنا، طلبوا من أخي الذهاب لأنهم سيستبقونني عندهم.

بعد 24 ساعة من التوقيف بدأ التحقيق معي في قضية بيع الأسلحة، يتابع سعد، الأمر الذي أنكرته جملةً وتفصيلًا، فما كان منهم إلا أن إصطحبوني الى إحدى الغرف حيث قضيت أكثر من ساعتين فيها أتعرض للضرب المبرّح. وعلى الرغم من ذلك بقيت على أقوالي بأنني لا أعرف شيئًا عن هذا الموضوع، وأنا إنسان معروف أنني مدرب عسكري من فرقة الصدم، وعلى هذا الأساس كان سيتم إخلاء سبيلي بسند إقامة، الى أن صدر قرار باستمرار توقيفي بتهمة “مشاركتي في جريمة قتل الكاهن في عجلتون وبأمر من جعجع”.

أنكرت هذا الأمر أيضًا، وقلت لهم إنني أدرب عناصر في القوات ولا أتعاطى في المسائل الأمنية، فبقيت تحت التعذيب والضرب لمدة خمسة أيام متواصلة، وعند مواجهتي بالمتهمين الآخرين بهذه القضية أنكرت معرفتي بهم جميعا لأنني أساسًا لا أعرفهم.

من جديد، أخذوني الى التحقيق وكانوا يسألونني الأسئلة ويجيبون عني، ليطلبوا مني في النهاية التوقيع على محضر الإستجواب، وهذا ما فعلته لأنني لم أعد أستطيع تحمّل التعذيب والضرب، وكنت أعاني من نزيف داخلي ولا أستطيع الوقوف أو التنقل على قدميّ من شدة الورم بهما، بالإضافة الى أنهم كانوا يحاولون إلصاق العديد من التهم الأخرى بي كي أبقى موقوفاً لديهم.

وبقيت على هذه الحال أتعرض للضرب الى أن نقلوني الى قصر العدل في بعبدا للمحاكمة، وهناك خضعت للتحقيق من جديد من القاضي (المتقاعد) فوزي داغر، ولم أرتح من الضرب والتعذيب إلا عندما نُقلت الى سجن روميه، حيث التقيت بالكثير من الشباب القواتيين الموقوفين أيضًا بتهم مفبركة، وطمأنوني إلى أنني لن أتعرض للضرب هنا.

مع بدء المحاكمات تبيّن لنا أنه مهما تكلمنا ومهما قلنا، هناك قرار نهائي صادر بتحميل هذا الملف لـ”القوات اللبنانية”، يقول سعد، وصدر الحكم بحقي بالسجن لمدة 12 سنة، فبقيت في السجن منذ عام 1994 لغاية 2006.

بعد خروجه  بقي سعد في لبنان حتى العام 2009 ليغادر بعدها الى الولايات المتحدة الأميركية، حيث استقر هناك وأسس عائلة قوامها زوجة وولدان، ومنذ ذلك الحين لم يزر لبنان سوى مرة واحدة ولمدة قصيرة.

“المسيرة” ـ العدد 1751

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل