شهيد البلانكو وأقبية التعذيب.. فوزي الراسي هكذا قتلوه!

حجم الخط

فوزي الراسي فوزي الراسي

بعد 11 عامًا من الصمت والخوف، قصدنا منزل الشهيد فوزي الراسي. كان ذلك في أيلول 2005. يومها كانت زوجته غرّة الدويهي في انتظارنا لتتكلم للمرة الأولى عن زوجها الشهيد واللحظات التي عاشتها وعائلتها قبل أن تتبلّغ خبر “وفاة” فوزي الراسي. نعم هكذا أبلغوها، لكن نتائج تشريح الجثة أظهرت أن فوزي مات تحت التعذيب.

“المسيرة” تعيد نشر التحقيق (الصادر في العدد 1038)، في ذكرى حلّ حزب “القوات اللبنانية” في 23 آذار 1994، واعتقال رئيسه سمير جعجع في 21 نيسان من العام نفسه.

الى تلك السطور نعود لنشهد مع شهادات الأبطال أنهم بتضحياتهم وشهاداتهم كتبوا التاريخ وما زالوا…

لأنهم كانوا مهددين.

لأنهم كانوا خائفين،

لأنهم كانوا ملاحقين … سكتوا.

إستُدعي للتحقيق. أوقف 24 ساعة. إستُجوب. وخرج… جثة في لغز!

 

في 20 نيسان 1994، قبل أيام قليلة على اعتقال الدكتور سمير جعجع، سلّم فوزي نفسه. بعد 24 ساعة كان الدكتور جعجع في الرانج العنابي يجتاز طريق جونيه الى وزارة الدفاع وكان فوزي الراسي جثة في صندوق خشبي مسمّر يعبر الإتجاه المعاكس… “هنا المحكمة العسكرية نبلّغكم أن فوزي الراسي توفي”! فسقطت كؤوس شمبانيا الإستقبال وذبُلت ورود الترحيب بالعودة! فخيّم الخوف بل الرعب، وانعقدت الألسنة: إنه زمن حكم الطغاة! كيف استشهد فوزي الراسي في السجن؟

11 عامًا وخمسة أشهر عضّت خلالها زوجته غرّة الدويهي على الجرح حفاظًا على حياة وحيدها هاني وشقيقته مارلين، وفضّلت العيش مع الوجع النازف والذكريات التي حملتها من لبنان الى الولايات المتحدة وحفنة الصور للبطل المؤمن.

ذنب فوزي الرأسي أنه كان ينتمي الى “القوات اللبنانية” بإيمان وصلابة، وأرادوا من خلال عصر المعلومات التي حاولوا إستخراجها منه بالقوة وتحت الضغط والتعذيب الإيقاع بمسؤولين في الحزب وعلى رأسهم الدكتور سمير جعجع الذي اعتُقل في اليوم ذاته الذي أسلم فيه فوزي الروح.

11 عامًا لم تجرؤ عائلة الراسي على الكلام عن ظروف الوفاة، ولا عن كيفية تسليمها جثة فوزي التي شُرِّحت مباشرة بعد حصول الوفاة من دون علمها، ووُضعت في صندوق خشبي محكم الإقفال. اليوم قررت الكلام وفاء لروح الشهيد.

الكل سمع قصة فوزي الراسي وصُدم بالفاجعة. كان ذلك في 20 نيسان 1994، وتحديدًا قبل ساعات من إعتقال الدكتور سمير جعجع بعدما اتخذت الحكومة قرارًا بحل حزب “القوات اللبنانية” والسلطات الأمنية التي كانت تتحكّم بمفاصل الدولة بتوقيف كل مسؤول أو عنصر ينتمي الى الحزب… وعلى رغم هول الصدمة لم يجرؤ أي من أفراد عائلة الشهيد الراسي على الكلام أو الإدعاء على المسؤولين، أو حتى عرض وقائع المأساة على أي وسيلة إعلامية، أو نشر صورة له “لأن رأس وحيدها هاني في الدق”، كما ورد في رسائل التهديد التي أعقبت الحادث، ففضلت غرّة الراسي السكوت حتى تأتي الساعة التي تنطق فيها بكل الحقائق. فماذا في التفاصيل؟

بعد أعوام من الهجرة القسرية الى الولايات المتحدة الأميركية هربًا من المضايقات والتهديدات التي كانت تتلقاها عائلة الشهيد فوزي الراسي تباعًا عبر الهاتف، أو بواسطة أشخاص يستقلون التلفريك الذي يمر من أمام شرفة المنزل المليء بالذكريات وصور فوزي، تستقبلنا غرّة في ثياب الحداد، ومن حولها ولدا هاني: يارا وفوزي الصغير، وزوجته التي حملت مع زوجها قضية عمها الشهيد فوزي بكل تفاصيلها، على رغم انتمائها للعائلة منذ خمسة أعوام فقط. تبدأ غرّة سرد سيرة إنتماء زوجها فوزي الى “القوات اللبنانية” في العام 1978، وتحديدًا بعد جريمة إغتيال طوني فرنجية وعائلته، وتتمنى على إبنها عدم الخوض في بعض التفاصيل التي تتعلّق بالسيرة الأمنية، وعدم ذكر أسماء المحققين أو الضباط الذين دخلوا المنزل قبل أن يسلّم فوزي الراسي نفسه في مقر الشرطة العسكرية في سن الفيل… “تكفيني خسارة فوزي، وكل الكلام لن يعيده إلينا… ولو كنت أقدر على ضم وحيدي بين أهدابي لفعلت، لأنني لا أتحمّل أن تمسّه شوكة”.

تولّى الشهيد فوزي الراسي (مواليد العام 1946) مهام مسؤول أمني في حزب “القوات اللبنانية”، وتنقل في مناطق عدة وكان معروفًا بولائه للقضية وإيمانه بالوطن. بعد صدور قرار حل حزب “القوات اللبنانية” في آذار من العام 1994 وبدء عملية التوقيفات في حق عدد كبير من العناصر والمسؤولين في الحزب، أرسل الدكتور جعجع رسالة الى الشهيد الراسي يطلب منه السفر الى الخارج حتى تتوضح الأمور، لكن الأخير رفض مغادرة البلاد وأكد لزوجته أنه سيسلّم نفسه طوعًا ويمثل أمام المحققين في حال إستدعائه، فضميره حر.

تصمت غرّة لثوان، تلملم دموعها، تنظر في عيني هاني وتتابع “قبل أن يسلّم فوزي نفسه بأيام، لاحظ الجيران تحركات غير طبيعية لعناصر مدنية وأخرى عسكرية كانت تجوب محيط المنزل، فطلبت من هاني مغادرة المنزل والتوجّه إلى منزل جدته في إحدى القرى الشمالية وكان سبقه فوزي الى مكان مجهول تفاديًا لمضايقتنا. صباح الخميس 14 نيسان، وتحديدًا الساعة العاشرة صباحًا، طُرق باب المنزل بقوة، فتحت وكان هناك ضابط من ضباط الجيش اللبناني وثلاثة عناصر، وعرّف الضابط عن نفسه باسم لم أعد أذكره، لكن علمنا لاحقًا أنه إسم وهمي. فدخل الجميع إلى الصالون حيث كانت تجلس إبنتي مارلين وسألني أين فوزي؟ فأجبته أنه في عمله ولا يوجد مكان محدد كونه يعمل في مجال تجارة السيارات، وعندما قرر الغوص في الأسئلة سألته إذا كان يحمل أمر مهمة في إحضار فوزي، فأبرزه على الفور. عندها سألت: ولماذا تطلبون فوزي؟ فقال: “ألا تعلمين أن زوجك ينتسب الى القوات اللبنانية”؟، وماذا يعني ذلك؟ لم يجب وأبلغني أنه مضطر للمكوث في المنزل بعدما أجرى إتصالاً مع مرجعه المسؤول في انتظار عودة فوزي. وقبل أن يغادر في الساعة السادسة مساء طلب مني إبلاغ فوزي فور وصوله التوجه الى فرع مديرية المخابرات في صربا…

ولفتت غرّة إلى أنه طيلة مدة إنتظارهم منع العناصر دخول أي شخص إلى المنزل أو الخروج منه، وأبقوا على عناصر الجيش في محيط المنزل بعد رحيلهم، واتصلوا بهم بين الساعة السابعة والنصف مساء والحادية عشرة مرتين لمعرفة مكان وجود فوزي أو إذا كان قد عاد إلى المنزل.

الساعة السادسة، صباح الإثنين 17 نیسان، سمعت غرّة طرقًا قويًا على الباب فنهضت من سريرها واكتشفت أن الضابط نفسه عاد مع مجموعة من العناصر، “لكنه كان حاسمًا وأكثر حديّة حيث بادرني قائلاً، كنت محترمًا معك في المرة السابقة لكنك لم تقدّري حسن سلوكي ولم تلبّي طلبنا في إرسال زوجك إلى فرع مديرية المخابرات في صربا”، فأجبته: “إلتزمت بكل طلباتكم، لكن زوجي لا يزال غائبًا عن المنزل وأجهل مكان وجوده”. وأخبرها أحد الجيران الذي صادف خروجه من المنزل صباحًا، حيث كان متوجّهًا إلى المطار للسفر إلى الولايات المتحدة، بأن الضابط حمّله مسؤولية هروب فوزي الراسي إلى الولايات المتحدة بعدما أبلغه عن وجهة رحلته في حال ثبت أنه خارج البلاد.

تفاصيل مهمة التفتيش التي أبرزها الضابط لزوجة الشهيد الراسي وابنته مارلين التي استيقظت من النوم مذعورة وأجبرت على الجلوس في إحدى زوايا المنزل تحت المراقبة، لا تزال تتذكرها غرّة بكل دقة “دخلوا غرفة النوم وقلبوها رأسًا على عقب واستغربوا وجود كتاب القداس الإلهي والإنجيل المقدس في الدرج المحاذي للجهة التي كان ينام فيها فوزي، إضافة إلى بعض الكتابات الروحانية الخاصة التي كان يسجلها بعد قراءة الإنجيل كل ليلة، فبادرني بسخرية الظاهر إنّو زوجك قديس”، فأجبته: “زوجي قديس وملتزم بالقوات اللبنانية”.

بعد غرفة النوم وصلوا الى المكتبة وفتشوا الكتب ولم يجدوا أي دليل يشفي غليلهم باستثناء كتاب عن علم الإستخبارات الأميركية، فتلقفه الضابط وكأنه وجد الدليل الذي يدين زوجي. ثم فتشوا كل خزائن المنزل مرورًا الى المطبخ والكبايات وكؤوس الشمبانيا والمشروبات الروحية وصولاً الى “التتخيتة”. وعند الإنتهاء من كل غرفة كان يستأذن بسخرية للوصول الى غرفة جديدة لتفتيشها وقلب أغراضها رأسًا على عقب، الى درجة أنني لم أتعرّف الى أي غرض أو قطعة ملابس في المنزل بعد الإنتهاء من مهمة التفتيش. وعندما لم يجدوا شيئاً إكتفوا بأخذ مجموعة من الصور والأغراض الشخصية الخاصة بالشهيد فوزي. وتتذكّر غرّة كيف منعها الضابط من إحضار كوب ماء مع السكر لإبنتها مارلين التي انهارت بسبب الضغط النفسي، لكن العنصر الأمني الذي أُوكلت إليه مهام الحراسة عند الباب استأذن الضابط وأحضر لها كوب ماء. وقبل مغادرة المنزل أنذرها الضابط بضرورة حضور فوزي الى فرع المخابرات هذه الليلة، وإلا سيعمد الى إرسال مجموعة من العناصر العسكرية للمكوث في المنزل حتى يحضر فوزي. وتمنّى على زوجته القيام بواجبها كاملاً مع المجموعة طوال مدة “إقامتها” في المنزل.

حسرة غرّة أنها لم تتمكن من رؤية زوجها قبل أن يسلّم نفسه إلى مركز الشرطة العسكرية في سن الفيل. لا تزال تحفر في قلبها وتعزي نفسها باللقاء السري الذي جمعه مع إبنته مارلين، وتروي: “الساعة الرابعة من عصر ذاك الإثنين تلقيت إتصالاً عبر هاتف الجيران من فوزي، وكان وصله خبر دخول مجموعة من العناصر العسكرية الى المنزل وتفتيشه والتهديد بدخوله من جديد والإقامة فيه إذا لم يحضر إلى فرع المخابرات العسكرية في صربا، فتمنيت عليه ألا يفعل. لكنه أصرّ حفاظًا على كرامة عائلته، ولأنه كان متأكدًا أنه سيمثل أمام المحقق لمدة ساعات ويعود صباح اليوم التالي. عندها قررت مارلين التوجّه إلى مكان إقامة فوزي بعد إحداث تغيير على شكلها الخارجي، وأخبرتني بعد عودتها أنه كان مطمئنًا وقال لها: “إطمئنوا سوف يستجوبوني وأخرج في اليوم التالي”.

المعلومات التي توافرت لدى عائلة الشهيد فوزي الراسي بعد ساعات على تسليم نفسه في مقر الشرطة العسكرية في سن الفيل أشارت الى أنه اتصل بأحد الأشخاص وطلب منه مرافقته الى مبنى وزارة الدفاع. ونُقل عن الأخير أنه تمنّى على فوزي عدم الإقدام على هذه الخطوة في هذا الوقت، لكنه أصرّ لأنه كان متأكدًا من براءته. ونقل لهم أنه دخل مبنى الوزارة بكل فخر واعتزاز. وتتابع غرّة، صباح يوم الثلاثاء 19 نيسان، وصل أشقاء فوزي وشقيقاته من بلدة الشيخ طابا في عكار وهم يحملون باقات الورد والحلوى لاستقبال فوزي بعد عودته من جلسة التحقيق كما وعدنا. لكنهم غادروا عصرًا للوصول الى قريتهم قبل حلول الظلام، وبعدما فقدوا الأمل من إمكانية خروج فوزي من مبنى وزارة الدفاع تلك الليلة.

صباح الأربعاء 20 نيسان رن جرس الهاتف في المنزل، وكنت أجلس مع ولديّ هاني الذي عاد الى المنزل بعد تسليم فوزي نفسه إلى السلطة ومارلين، وشقيقي، وطلب المتصل التكلّم مع أحد أفراد عائلة فوزي، فسألته عن السبب، فقال مطلوب أن تحضر زوجته مع أحد أقاربها أو الجيران إلى مقر المحكمة العسكرية للإستيضاح عن بعض الأمور وأقفل الخط. فتوجّهت مع شقيقي الى مقر المحكمة العسكرية ودخل شقيقي وحده بعدما تمنّى عليّ الإنتظار في الخارج. وعندما سأله أحد العناصر الأمنيين عن هويته قال له: “ما تجرّب تفوت لجوا، خود أختك من هون لأنو الزلمة مات”. وعندما خرج سألته غرّة عن أسباب الإستدعاء واستغربت الشحوب الذي يلف وجهه، لكنه أقنعها بأن الإتصال خاطئ ولا توجد لديهم أي معلومات عن فوزي.

فور عودتهما الى المنزل أجرى شقيق غرة إتصالات مع عدد من المسؤولين ومنهم الشخص الذي رافقه الى مبنى وزارة الدفاع، وعلمت لاحقًا من شقيقي أنه أصيب بصدمة عندما علم أن فوزي مات. وتؤكد زوجة الشهيد فوزي أنه طيلة هذه المدة لم تشكك لحظة في إمكانية إصابة زوجها بأي سوء أو تعرّضه لأي نوبة صحية.

الرابعة عصرًا، رن جرس الهاتف من جديد في منزل عائلة الراسي، فردّ إبنه هاني، فقال له المتصل حرفيا: “هنا مقرّ المحكمة العسكرية، نبلّغكم أن فوزي الراسي توفي”، وأقفل الخط… لم يستوعب هاني الخبر. ركض نحو الشرفة وحاول الإنتحار، فأمسكت به إحدى السيدات التي صودف وجودها في المنزل… نظرت غرّة الى أحد أقربائها وسألت: ماذا يجري؟ فأجابها: “راح فوزي وأجهش بالبكاء”.

حتى الساعة تخشى غرّة من العودة الى تلك اللحظة، تغرق في الدموع وتنظر الى إبنها هاني: “شو بعد بدي قول شو بعد عنك”. وتتمنّى عليه أن يطلعها على الحقيقة التي لا يزال يخفيها حرصًا على صحتها، خصوصًا أنها تعاني مشكلة إرتفاع الضغط إضافة إلى أمراض أخرى. ويطلب منها الدخول إلى غرفتها قليلا لترتاح، ويروي: “توجّهنا الى مقر المحكمة العسكرية لاستلام الجثة وفوجئنا بأنها كانت مشرّحة من دون علمنا، وأن الوفاة حصلت بسبب تعرّضه لأزمة قلبية ناتجة عن إصابته بأمراض معيّنة في القلب، علمًا أنه لم يكن يعاني أي مشاكل صحية في القلب أو سواه. ورفض الضابط المسؤول تسليمنا تقرير التشريح لكننا حصلنا عليه لاحقًا بطريقة سرية.

وروى هاني نقلاً عن شهود كانوا يخضعون للتحقيق مع والده فوزي أن المحققين مارسوا كل أنواع الضغوط النفسية والجسدية على فوزي بهدف الحصول على معلومات خاصة عن الدكتور سمير جعجع خصوصًا، لا سيما أن عملية توقيفه كانت وُضعت على نار حامية. ويضيف هاني نقلاً عن روايات الشهود، أن اللواء جميل السيد كان يشرف على التحقيق. وقبل أن يسلّم الروح طلب الشهيد فوزي حبة دواء لأنه بدأ يشعر بالإرهاق وضيق النفس، وظنوا أنه يطلب مهلة للراحة قبل إستئناف التحقيق و”تعليقه” من جديد. لحظات وصرخ يا عدرا يا يسوع وأسلم الروح… يسكت هاني ويعود إلى “هز” قدميه… عذبوه كثيرًا ولم يوفروا أي وسيلة للتعذيب بهدف الحصول على معلومات للإيقاع بالدكتور جعجع قبل اعتقاله. وتُظهر نتائج التشريح أنه تعرّض لضربات قوية على كل أنحاء الجسم، مما أدى إلى حصول نزيف قوي في الدماغ، إضافة إلى جلسات الكهرباء التي ضغطت على شرايين القلب. كما يُظهر التقرير وجود لسعات حروق عند حلمة الصدر اليمنى وكدمات في كل أنحاء الجسم… ويتذكر هاني المشهد على أوتوستراد نهر الكلب، حيث كان الموكب العسكري الذي يُقلّ الدكتور جعجع بعد اعتقاله متوجّهًا الى مبنى وزارة الدفاع في حين كان الموكب الذي يُقلّ جثمان الشهيد فوزي الراسي على الجهة المقابلة متوجّهًا نحو منزله في منطقة صربا. لن أنسى ذلك ما حييت.

مراسم الدفن كانت عادية جدًا ووُري فوزي الثرى في مدافن العائلة في بلدته الشيخ طابا في عكار. لكن الكلام عن المأساة التي قلبت موازين العائلة في أقل من 245 ساعة بقي ممنوعًا تحت طائلة المسؤولية. “كنا نتلقى تهديدات عبر الهاتف، ومن خلال كابين التلفريك الذي يمر من أمام شرفة المنزل بأن رأس هاني في الدق في حال تكلّمنا عن ظروف وفاة فوزي، حتى مصادر “القوات اللبنانية” تمنّت علينا السكوت كرمال “الحكيم”. حتى في قداس الأربعين منعنا من الصعود إلى مدفن فوزي واكتفينا بقداس متواضع في كنيسة تابعة لراهبات الفرنسيسكان قرب المنزل، واقتصر الحضور على أفراد العائلة. ومن حينه تقول غرّة لم يطرق أحد بابنا ولم يسأل أحد عنا حتى أقرب الناس إلى قلب فوزي وأصدقاؤه الذين حوّلوا المنزل في مرحلة من الزمن إلى فندق… راح الغالي ولم يبق لدي إلا الصور وعلبة الدخان مع القداحة التي اشتراها فوزي قبل صعوده إلى مبنى وزارة الدفاع واستهلك منها سيجارتين فقط… تحملها وتعصرها بين يديها “كان متأكدًا من براءته وعودته إلينا سالمًا… هذا كل ما أحتفظ به علبة سجائر مسوّسة وولاّعة وصور وذكريات… المهم سلامة ولدي”.

بعد أربعة أعوام على المأساة سافر هاني ووالدته إلى الولايات المتحدة، حيث تقيم شقيقته مارلين بعد زواجها، لكن قرار العودة إلى المنزل الذي حضن أجمل الأيام والذكريات كان أقوى، خصوصًا بعد تغيّر الظروف الأمنية. وأعلن هاني أن العائلة قرّرت إعادة فتح ملف والده الشهيد فوزي الراسي ومقاضاة المسؤولين الذين تسببوا في وفاته، عندها ترتاح روح فوزي وأرواح كل الشهداء والمعتقلين الذين عاشوا لحظات التعذيب في أقبية وزارة الدفاع…

 

تقرير تشريح جثة فوزي الراسي

ماذا تضمن تقرير تشريح جثة الشهيد فوزي الراسي الصادر بتاريخ 7 أيار 1994 عن قسم أمراض التشريح التابع لمستشفى القديس جاورجيوس برئاسة الدكتور جورج أفتيموس، والموقّع بإسم الدكتور ف. حداد؟ ولماذا أُبقي طي الكتمان قبل أن تحصل العائلة على نسخة منه وتسلّمها الى منظمة حقوق الإنسان العالمية؟

في الكشف الأولي

ـ  رجل في منتصف العمر.

ـ تبيّن وجود كدمات على مستوى المعدة بحدود 20 سنتمترًا وعلى مستوى اليد والكوع والكتف الأيسر وجلدة الرأس والكوع الأيمن والقدم اليسرى من الجهة الخلفية.

ـ وجود ورم في حلمة الصدر اليمني تبدو غير متوازية.

ـ لا وجود لأي كدمات أو عيوب تحت الإبط.

نتائج التشريح:

على مستوى البطن:

ـ حصول نزيف عند فتحة البطن تحت الجلد مباشرة ناتج عن تعرّض المعدة لكدمات ظاهرة.

ـ عدم وجود أية أضرار على مستوى أعضاء البطن والكبد والمرارة والطحال والإمعاء باستثناء حصول تقلّصات؟

ـ خلو القفص الصدري من الماء.

ـ وجود رغوة في الرئتين ناتجة عن التدخين، أما الشرايين فهي في حال جيدة.

 

على مستوى القلب:

ـ خلو القلب من الماء.

ـ إنسداد بنسبة عشرة في المئة في الشريان النصفي الفوقي لجهة الشمال، وانسداد بنسبة واحد في المئة في الشريان الذي يضخ الدم (وقد يكون ناتجًا عن التدخين).

ـ هذه الأعراض لا تؤدي الى حصول أي ذبحة قلبية، وتؤكد على عدم تعرّضه لعارض مماثل سابقًا.

 

على مستوى الرأس والدماغ:

ـ وجود تسرّب دموي لافت عند نسيج الخلايا الموجودة تحت جلدة الرأس مباشرة، ناتجة عن تعرّض هذه المنطقة للكدمات.

ـ الدماغ في وضع حرج ناتج عن إحتقان الدم في سحاياه.

ـ غياب أي نزيف بين الأنسجة الدماغية.

ـ دراسة الخلايا على المايكروسكوب.

ـ تسرّب دموي على مستوى المعدة.

ـ ظهور دم متجمّد على محيط الحلمة اليمني وتمدّد في شرايين الجلد مع ظهور إحتقان.

ـ وجود مجموعة من الكريات البيض في منطقة الحلمة والأنابيب التي تصل الى الغدد المحيطة بها.

 

على مستوى الدماغ:

ـ ظهور ورم وشحوب في لون القشرة الخارجية للدماغ.

 

على مستوى المخيخ:

ـ ورم في محيط Cellule de Purkinge.

ـ تبلل ورمي واحتقان في الشرايين ووجود سائل من الكريات البيض عند طبقة Pie-mère (أم الدماغ) الأقرب الى الدماغ.

 

على مستوى المخيخ:

ـ وجود إفرازات في قصبة الرئة.

ـ وجود سائل أسيدي في الحويصلة الرئوية.

ـ إحتقان في الشرايين مع وجود كريات بيض (ناتجة عن التدخين).

 

على مستوى الكلي:

ـ إحتقان متسرّب عن تقلّص كلي.

ـ آثار جروح في الأنابيب ونخر (أي موت موضعي للنسيج).

 

على مستوى القلب:

ـ إنسداد بنسبة عشرة في المئة وغياب أي أثر للنخر، مما يؤكد عدم حصول أي ذبحة قلبية.

ـ الغدد والطحال وغدد الكلي سليمة ولا توجد آثار لأي جروح باستثناء الإحتقان.

 

نتائج التشريح:

ـ الرجل في منتصف العمر وقد توفي في ظروف غير معروفة عاديًا.

ـ أظهر التشريح وجود جروح على مستوى الأغشية المتعددة ناتجة عن كدمات، أما الجرح الجلدي للحلمة اليمنى للصدر فقد يكون ناتجًا عن حروق.

ـ وجود آثار ورم على مستوى الدماغ وسحايا الدماغ.

ـ جروح ونخر أي موت موضعي في أنابيب الكلي وتظهر في أوضاع عيادية عدة منها الجلطة الدماغية وانحلال الدم.

ـ آثار جروح على مستوى الرئتين وماء وهواء، مما أدى إلى الإختناق لأسباب مجهولة.

ـ جروح على مستوى شرايين القلب بصورة معتدلة من دون ظهور أي آثار لذبحة قلبية، مع الأخذ في الإعتبار أن آثار الجرحة تظهر بعد 12 ساعة في العين المجرّدة، وبعد 6 ساعات من حصول الذبحة عن طريق درس الخلايا.

وترجّح أوساط طبية أن عملية التشريح حصلت بعد الوفاة مباشرة، مما ينفي الأسباب التي حُدّدت بالذبحة القلبية، إذ لا يمكن إكتشافها إلا بعد مرور ست ساعات على الوفاة عن طريق درس الخلايا و12 ساعة في العين المجردة.

“المسيرة” ـ العدد 1751

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل