لن نبكي يا باسكال.. سنثور

حجم الخط

باسكال سليمان

صباحك رفيقي الغالي باسكال. كيف هي شلوح السنديان من صوبك؟ هل عبق الربيع يكفيك في غابة الشهيد في ميفوق؟ كيف استقبلت صباحك الجديد هناك، ومع من ارتشفت قهوة الضياء؟ هل التقيت والرفاق كافة والآن تحتفلون معا بحرية السماء؟ هل أخبرتهم أنهم جعلوك “شهيدًا” بالقوة ومن دون متراس ولا بارودة ولا حتى حق الدفاع عن النفس؟ هل أخبرتهم أن لبنان ما زال منذ استشهادهم يعاني لأجل من استشهدوا لأجلها، الحرية والكرامة لوطنهم؟ هل تعرف يا رفيقي أنك خربطت كل مشاريعي المقررة للكتابة عن ذكرى حرب 13 نيسان؟ إذ كان من المفترض أن نكتب عن الذكرى كي تبقى ذكرى وما تنعاد، وإذ يدوي فينا اغتيالك، وكاد استشهادك وجنازتك ان تتحولا الى 13 نيسان جديدة لولا.. حكمة الحكيم بالتأكيد يا رفيقي.

كان يومًا صعبًا قاسيًا مريرًا حزينًا غاضبًا متناقض المشاعر، يوم الوداع. كان الوضع فائق الصعوبة على رفاق ورفيقات صار كل منهم مشروع شهيد، مشروع اغتيال. اغتالوا باسكال وقالوا لنا ما قالوه لتشويه الحقيقة، ومعالم الجريمة كما هي العادة، وما كان علينا سوى تحضير جنازة لائقة والقاء الخطابات النارية الشعبوية التي توقد الفتنة المتوثبة على الانفجار، وما حصل.

“وداعًا رفيقي باسكال. الرفيق، ابن القضية، المناضل الحقيقي، الصادق، المستقيم، المؤمن، والذي يضحّي في كل شي حتى بحياته من أجل القضية. هذا أنت يا باسكال وهذه هي القوات. من الممكن يا باسكال أنك تسأل اليوم، مع العلم أنني لا اعتقد ذلك لأنك من عليائك أصبحت ترى وتدرك كل الأمور وتعرف ما الذي سيحصل، ولكن أيضًا من الممكن أن كثرًا يسألون طيب وهلق شو؟، الجواب بسيط وواضح جدًا، وقت الخطر قوات”، قال الحكيم للشهيد في كلمة الوداع. لم تعجب الكلمة كثرًا، لأنها لم تحمل التحريض على الفتنة، ولا الدعوات للثأر كما كانوا يتوقعون، ولم تطلب من الشباب التسلح والنزول الى الشارع وما شابه، بينما كان كل املهم أن يفعلها لتعود 13 نيسان 1975 بـ13 نيسان 2024 وخاب أملهم جدًا جدًا.

ليس أصعب من أن نكتب “كان يومك باسكال سليمان”، كيف تُكتب الأيام على حساب يوم دفن شهيد؟! أصلًا لماذا صار اسمه شهيدًا؟ لأنه قتل، لأنه مناضل في “القوات اللبنانية”، ولو لم يكن كذلك لما اغتالوه. هو واحد من كثر، هو ليس الأول ولا يريدون أن يكون الأخير، لمجرد أنه قواتي مناضل يحمل مبادئ النضال وقيم المواجهة لأجل حرية لبنان، لذلك اغتالوه، ولذلك سيسعون بكل ما أوتيوا من إجرام وإرهاب وتفلت من قيم الانسانية، سيسعون لاغتيال سواه.

لن أصف الجنازة المهيبة، ولا ذاك التنظيم الفائق الاحترام للشهيد وأهله ورفاقه، ولا فائض العواطف تلك والراحات التي استقبلته في القرى كمن يستقبل قلبًا نابضًا بالحب وليس أقل، لن أحكي عن ألم أم مفجوعة، لم تجد سوى حافة التابوت الحادة لتحني اليها رأسها المدمم بالأسى. “أنا أم باسكال أنا صرت أم الشهيد مثل آلاف الأمهات في لبنان، منذ ذاك الـ 13 نيسان”، حسبتها تقول بينها وبين باسكال، كانت توشوشه، تهمس اليه بأسرار قلبها، كانت تدلله طفلًا صغيرًا في حضنها الدافئ. لعلها كانت تخبره بأنها صارت الآن في عداد أولئك البطلات اللواتي تحمّلن فراق الأبناء، وبقين في الرجاء والأمل لأن لبنان بسبب دمائهم، بسبب دمائهم دمائهم دمائهم، الاف المرات نكتبها، بقي لبنان يا قتلة يا منافقين يا تجار الأوطان والمناصب والسلاح والاحتلال…لا أعرف ماذا همست أم باسكال في اذن النعش، ولن أكتب تفاصيل اليوم الدامي، ولكن ما أعرفه أن خشب النعش البارد تجمّد في صقيعه، لأن الابن صار عنوة في غير مكان.

منذ الصباح، ساعة انطلاق المواكب وحتى لحظة الوصول الى ميفوق، وهناك عند باب القبر، حيث انهارت الأم والزوجة والأبناء، رغم محاولات الصمود طيلة النهار، رفضتُ البكاء، يبست الدمعة في الغضب الكبير، كنت أريد أن ألملم كل الدموع التي ذُرفت لأحوِلها الى بحر هائج بالغضب والثورة. لم نعد نريد البكاء على شبابنا، لم نعد نريد نشر أوراق النعوة على صفحاتنا وتعداد مزاياهم، في حين يجلسون هم من خلف جحورهم، يمزمزون ألمنا ودمعنا وحرقتنا ويسخرون من نضالنا، ومن عنادنا على المواجهة السلمية، وإصرارنا على مبدأ الجمهورية القوية والدولة القوية. في غمرة الشجن والحزن كانت أقلامهم تزغرد عبر صفحاتهم السوداء بحقدها، تسخر منا، من أهل الشهيد، من الرفاق كافة، حتى من الشهيد نفسه. أي شعب هذا، أي حضارة أي قيم أي انسانية تلك، تجعل من دم شهيد سخرية، ومن وجع أم وزوجة وأولاد استخفاف؟! هذه حضارة القتلة. ونقطة على السطر.

“مواجهتنا ليست للأخذ بالثأر أو ردة فعل أو مواجهة طائفية أو مناطقية أو عرقية، بل هي من أجل الانتقال من الواقع المرير، المؤلم، المجرم، الفاشل الذي نعيش فيه منذ سنوات، الى الواقع الجديد المرتجى ككل مجتمعات العالم المتحضّر… مواجهتنا مستمرة لتغيير سلطة فاشلة فاسدة، وكي ننجح في كشف الحقيقة في جريمة بحجم جريمة المرفأ، أو اغتيال لقمان سليم والياس الحصروني وباسكال سليمان، وكي ينال المجرمون عقابهم الذي يستحقونه ويكونوا عبرة لـكلّ حدا بيفكّر يمدّ إيدو ع لبناني”، قال لهم الحكيم. لم يفهموا الكلام بالطبع، اعتبروه استسلامًا، أو لعلهم فهموه جيدًا جدًا، بأنه آخر صيحة انذار لهم اذا ما تجرأوا بعد وامتدت أياديهم الآثمة على أحد منا، فسيرون الوجه الآخر إذ “وقت الخطر قوات” يا رفيقي يا باسكال، ولتكن غابة الشهيد في ميفوق على ما نقول أكبر الشهود.

إقرأ أيضًا

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل