“ترامواي بيروت”.. وبقيت “السكَّة دغري”!

حجم الخط


ترامواي بيروت ترامواي بيروت
ترامواي بيروت

صور وصور، بالأبيض والأسود، بالألوان… لا فرق المهم أنها بقيت للذكرى. أكثر من 50 عامًا صاروا صورًا، لناس وزحام ومحطات وزمن جميل من قلب بيروت، تفوح بعبق شوارعها وأسواقها، وتحكي الكثير الكثير عن “أبو الفقير”، ما غيره… “ترامواي بيروت” صانع بيروت الحديثة، من أنارها ونظمها و”سيّرها” على الوقت، يتنقل، يعبر بالأصفر فالأخضر فالأحمر من عهد الى عهد، متوّجًا يومها واحدًا من أهم وسائل النقل العامة في الشرق الأوسط.

لكنه أخطأ، كان دغري وبيمشي على سكة دغري، فاعدموه وباعوه بالخردة.. وما بقي منه إلّا صورًا تضحك لعهدٍ ذهبي عاشته بيروت معه وبه، وتبكي ما صار إليه حالها بعده.. وما تلبث أن تضحك وتضحك لحكايات أيام عزّه وطرائفه، تشتاق لمقاعده الخشبية والمقششة، لضوضاء ركابه، وتحنّ لمشاويره، هو ترامواي بيروت.. صانع بيروت وطريقها الى الحداثة، إغتالوه.. صورٌ وحكاياتٌ وحنينٌ لعزّ ما كان قبله ولا بعده عز. هذا ما بقيَ من ترامواي بيروت، والصور تتراقص تؤرخ، وتحكي…

كان ذلك على العهد “العثملي”، وتحديدًا في العام 1890، السلطات العثمانية “تتحنن” على بيروت بإصدارها قرارًا فريدًا يشق طريقها الى “الحداثة”، يعلن إطلاق مشروع إنشاء ترامواي في بيروت، بعدما استحصلت شركة بلجيكية مؤلفة من مستثمرين عثمانيين وبلجيكيين، على امتيازٍ لتسيير ترامواي كهربائي في بيروت بدل المقطورات التي كانت تجرّها البغال والأحصنة. وكان الامتياز يقضي بتشغيل الترام على القوة الكهربائية شرط أن لا تنقطع عنه أبدًا، وبتزويد بيروت بالإنارة.

المشروع الضخم، وبالنظر الى ضعف المعدات آنذاك، استغرق تنفيذه سنوات طويلة، وبعد إتمام الخط الكهربائي من ساحة البرج الى نهر بيروت ضمن المواصفات المطلوبة من الشركة البلجيكية، وفي شهر أيلول عام 1907 جرى الاحتفال بتدشين خط الترامواي.

الخبر السعيد تصدّر الصفحات الأولى لصحف ذاك الزمان معلنا نبأ بدء سير الترامواي لأول مرة في شوارع بيروت وفقًا للخطة المرسومة، وفيه: “تبيّن بالمعاينة أن خط الترامواي الكهربائي الممتد من ساحة الإتحاد (البرج) إلى موقع نهر بيروت قد أنشئ على الوجه المطلوب وشرع بتسيير مركباته”، نبأ أقل ما يُقال فيه، أنه قلب حياة بيروت وسكانها رأسا على عقب.

 

الترامواي “كهرب” لبنان

بعدما كان اللبنانيون يتنقلون على الدواب والبغال والأحصنة، أو العربات التي تجرّها الخيول (الحنطور)، وجدوا أنفسهم أمام عربات تسير على سكك حديدية تمددت في شوارع المدينة، محدثة انقلابًا جذريًا في حياة المدينة، وأول غيثها، وصول الكهرباء الى بيروت.

حين انطلق الترامواي عام 1908، ما كانت الكهرباء قد وصلت بعد إلى بيروت، وكانت المدينة تسهر وتنام على ضوء الفوانيس والشموع. ولمن لا يعرف، فليعرف، أن الترامواي “كهرب” لبنان، وبتعبير أوضح، الكهرباء وصلت إلى لبنان للمرة الأولى من أجل تحريك “الترامواي”، ولذلك أُطلق على الشركة التي تولّت إنشاءه وإدارته إسم “شركة الترامواي والتنوير العثمانية في بيروت”، إذ إن دورها لم يقتصر على تشغيل الترامواي بل تولّت تنوير العاصمة أيضًا.

ومما يروى، أن الكهرباء تأمنت يومذاك بالاتفاق مع أحد الأمراء الإرسلانيين الذي قدم الأرض لتوليد الطاقة في معمل “معصريتي” الذي عمل على إنتاج الكهرباء على المياه.. وعليه انطلق “الترامواي” الكهربائي، و”نوّرت” بيروت.

لكن كيف استقبل “البيارتة” هذا الإنجاز المُسمّى “ترامواي بيروت”؟

 

رعب الترامواي!

في بداياته، “أرعب” الترامواي البيارتة بشكله “الوهر الهجين”، وقد أطلّ عليهم على شكلين: الأول، مغلق وكبير وواسع، يتسّع لخمسين راكبًا ويبلغ وزنه سبعة أطنان. أما الثاني، فكان يُعرف بالشكل الوسطي ويتسّع لثلاثين راكبًا ووزنه أربعة أطنان. ويُروى أنه كان مفتوح الجانبين يصعد إليه الركاب من خلال حافة، وكان ينقسم الى جزأين، واحد للسيدات وآخر للرجال، وكان يفصل بين المقاعد المتقابلة عامود حديدي.

بكثير من الطرافة والتشويق تداول البيارتة أولى قصصهم “المثيرة” مع حدث ظهور ذاك الترامواي الذي “كهرب” حياتهم بداية، إذ وجدوا أنفسهم مذهولين غير مصدقين لما رأته عيونهم، كتلة ضخمة من الحديد تختال على طرقات مدينتهم تتنقل من مكان إلى آخر من دون أن تدفعها أيدي الناس أو تجرّها الدوابّ، ما أثار الرعب في قلوبهم، حتى وصل بهم الأمر الى وصفه بـ”دولاب الشيطان” وتارة بأنه “حارة متنقلة”، وكثيرون كانوا يفرّون لدى رؤيته أو لمجرّد سماع هديره. ويُروى أن الكثيرين ممن كانت بيوتهم قرب خط الترامواي بادروا الى نقل سكنهم للإبتعاد عن هذا الخط قائلين: “إِبعد عن الشّر وغَنِّ له”. والأطرف من ذلك، أن كثرًا من بيارتة ذاك الزمان كان يخال إليهم أن “الترام”، على غرار بغالهم وحميرهم وأحصنتهم،  قد “يجفل أيضًا شي جفلة، وعلى الكهرباء مين بيقدر يهدّيه ساعتها؟”.

الى ذاك الرعب، كانت هناك موجة استنكار واستهجان، إذ اعتبر مطلقو صفة “دولاب الشيطان” على الترامواي بأنه من صنع “الكفّار”، وقد عرف أصحاب العربات التي تجرّها الخيول كيف يروّجون لها ويستثمرونها لتعزيز نقمة الناس على ذاك الترامواي الذي امتص عددًا كبيرًا من زبائنهم وقطع برزقهم، فراحوا يغذّون هذه النقمة بلافتات تقول: “الخيل والدواب مذكورة في القرآن الكريم، أما “الترين” فإن الله لم يذكره في كتابه”.

ردود الفعل السلبية تلك حيال انطلاق الترامواي، دفعت بالشركة صاحبة الامتياز لاستخدام القبضايات لحماية الحافلات من اعتداء الناس عليها، وكان من بين هـؤلاء القبضايات عبد القادر النويري (أبو وجيه)، الذي يُعتبر أول العمال والمستخدمين الذين تولّوا العمل في الترامواي، وإكرامًا له، أطلقت الشركة اسمه على أحد المواقف في شارع البسطة، وما يزال هذا الموقف حتى اليوم معروفًا باسم محطة النويري. واللافت أن أبا وجيه النويري المذكور رافق قيام الترامواي عام 1908 وشهد نهايته عام 1964.

لكن عامًا بعد عام، اختلف شكل الترامواي وتطور، وتبدلت ألوانه من الأصفر إلى الأخضر مع زمن الانتداب. وفي عهد الاستقلال صار أحمر، وسرعان ما اعتاد البيارتة على شكله وحتى على “جفلته”، وأدمنوه حتى الثمالة وصار المنظم الأساسي لحياتهم “من الفجر وحتى النجر”، ليصبح الترامواي، قولًا وفعلًا، منظم ومحرك حياة العاصمة بكل تفاصيلها. وإن لم تصدقوا، فإليكم ما حصل..

 

على خط الترامواي.. ذهابًا وإيابًا

سهّل الترامواي حركة التنقل على البيروتيين، وانطلقت عرباته في أكثر من اتجاه امتدادًا الى كل بيروت، بتنظيم ودقة ربما ما عرفها البيارتة لا قبل ولا بعد ذاك الترامواي العجيب، كيف؟

كان الترامواي يصل الأحياء البيروتية بعضها ببعض، عبر منطقة فرن الشباك، النقطة الحدودية الفاصلة آنذاك بين متصرفية جبل لبنان وولاية بيروت، حيث تمّ تركيز المحطة المركزية، تسهيلًا لتنقّل السكان بين “الولايتين”، كما كان يصل أبناء المدينة بمحطتين للقطار في مار مخايل والمرفأ لتسهيل حركة البضائع.

وهكذا، أصبح الترامواي “شريان المدينة الحيوي”، الذي يربط مناطق المدينة كلها ببعضها، وأداة الوصل بين القطار والأسواق، ناقلًا سنويًا ملايين المواطنين من مختلف الطبقات من منازلهم إلـى مراكز عملهم وبالعكس.

ويُروى أنه في أواخر عهد السلطنة العثمانية، كان الترامواي يتنقل بركابه عبر خمسة خطوط:

– الخط الأول: فرن الشباك – باب إدريس – الجامعة الأميركية – رأس بيروت -المنارة.

– الخط الثاني: ساحة الحميدية (ساحة الشهداء اليوم) – طريق بيروت دمشق – فرن الشباك.

– الخط الثالث: ساحة الإتحاد (ساحة رياض الصلح اليوم) – البسطة – الحرش.

– الخط الرابع: فرن الشباك – شارع فوش – شارع المرفأ – محطة القطار.

– الخط الخامس: فرن الشباك – البرج – النهر – الدورة.

بعدها، طوّر الفرنسيون خطوط الترامواي وجعلوها في الاتجاهين ذهابًا وإيابًا بعد أن كانت باتجاه واحد، ووسّعوا الطرقات في الأماكن التي لا تشكّل خطرًا على السلامة العامة. ليشهد العصر الذهبي لترام بيروت تغطية 12 كيلومترًا حول مركز العاصمة في العام 1931.

 

بيروت الجديدة على سكة الترامواي

انطلاق عهد الترامواي ومعه الكهرباء، غيّر نمط الحياة في بيروت، ليصبح المحور الذي نسج حياة جديدة للمدينة من حوله، مكرّسًا حقيقة لا لبس فيها، بيروت ما قبل “الترامواي” هي غيرها ما بعده.

فوفق خط سيره، كانت تُبنى المؤسسات والدوائر الرسمية، من السراي الحكومي الى البرلمان الى وزارات الدفاع والمالية، وصولًا إلى كل المخافر الأمنية، من مخفر البسطة إلى البرج إلى حبيش… وغيرها.

ليس ذلك وحسب. فعلى امتداد طريق الترامواي، بُنيت أهم الكاتدرائيات والمساجد والمدافن، وعلى مقربة من خطه شُيِّدت المدارس والجامعات والمستشفيات. وعلى هدى خطه أيضًا وأيضًا، انتشرت المؤسسات والأسواق التجارية والمقاهي ومراكز السلوى، ودور السينما، والمسارح، وغيرها وغيرها..

ولا مبالغة بالقول، أنه على زمانه “تُرِّمت” أوقات وتحركات ومواعيد البيارتة على تواقيت مروره. وصار “على الوقت”، أو بالأحرى، وعلى مواعيد “الترام” وعلى إيقاعه. وأصبح الكل “يُترِّم” نشاطاته اليومية، من السادسة صباحًا وحتى الثانية عشرة ليلًا، حتى السهرات في المقاهي والمسارح والسينما وسط بيروت كانت تقفل مع توقيت مرور آخر ترامواي.

 

لكل طبقة مقاعدها وأسعارها

فرض الترامواي نظامًا مروريًا عرف البيارتة معه وسيلة نقل آمنة، و”كانت التذكرة رخيصة والقعدة مريحة والجو حلو”.

وإن كان ركاب الترامواي على درجات اجتماعية متفاوتة، إلا أنه كان لكل طبقة مقاعدها ولكل سعرها. ففي العهد العثماني كان ثمن التذكرة يراوح بين 30 و40 بارة للدرجة الأولى، و20 بارة للدرجة الثانية، و10 بارات للأولاد بين 5 و10 سنوات، ومجانًا للأطفال ما دون الخمس سنوات شرط أن يجلسوا في أحضان أهلهم.

وعلى عهد الانتداب الفرنسي وبداية الجمهورية اللبنانية، كانت الطبقة الشعبيّة المتواضعة من زبائن الدرجة الثانية (سوكوندو) ذات المقاعد الخشبيّة، وكان سعر البطاقة قرشين ونصف والطبقة الوسطى، موظفين وأفنديّة من زبائن الدرجة الأولى (بريمو) ذات المقاعد “المقششة”، أو “المنجدة”. ويصل سعر التذكرة الى خمسة قروش.

لكن ثمة فريقًا ثالثًا كان يشتري حق الركوب لمدة طويلة مقابل بطاقات (باس)، وهي بطاقات فصلية تخوّل صاحبها ركوب الترامواي ضمن مدة ثلاثة أشهر وقتما يشاء خلال النهار، وكان ثمن تلك البطاقة الذهبية عشر ليرات للدرجة الأولى، وسبع ليرات للدرجة الثانية، ويشترط في هؤلاء أن يكونوا إما من الموظفين في الدوائر العامة أو من فئة الطلاب.

لكن من قال إن ذاك الزمان كان منزّهًا عن المحسوبيات؟ ومن حكاياته، أن الشركة كانت تمنح بعض التذاكر المجانيّة الدائمة لنفر من أعيان بيروت وأهل الوجاهة والسياسة، وذلك مراعاة لنفوذهم، كما أن تذاكر هؤلاء المجانية كانت من الدرجة الأولى وصالحة مدى الحياة، ولكم تردد “همسا” أن بين هؤلاء المستفيدين أسماء كبيرة يتصدّرها الشيخ بشارة الخوري، رياض الصلح، وعمر بك الداعوق.

واللافت أنه حين استملكت الدولة اللبنانية الترامواي في 2 حزيران 1954، وجدّدت القسم الأكبر من عرباته، اضطرت إلى رفع ثمن تذكرة عامة الشعب من قرشين ونصف إلى خمسة قروش من دون أن تمس بثمن تذكرة الدرجة الأولى، ما فجّر غضبًا وانتفاضة شعبية، أرّخها الشاعر البيروتي الشعبي الكبير عمر الزعني منشدًا: “حفروا قبرك وأنت حيّ، حالك حال يا ترامواي”.

ومع كل ذلك، فإن التاريخ يُسجّل أن حال بيروت على “عهد الترامواي” كان بأفضل حال، والأرقام تشهد…

 

مع “الترام”.. المدينة تنمو بسرعة

أواخر القرن التاسع عشر، كان عدد سكان بيروت يبلغ 60 ألف نسمة، ولكن مع بداية القرن العشرين، ومع إختراق “ظاهرة الترامواي”، زاد عدد سكان بيروت إلى 145 ألف نسمة بحسب معلومات لجمعية “تران تران” التي تهتم بشؤون السكك الحديدية في لبنان.

نعم، تمكّن الترامواي من خدمة المدينة وأهلها بشكل جيد، محدثًا تغيّرات جذرية. ومع ازدهاره، نجحت الشركة البلجيكية بتسيير 13 حافلة في البداية، ثمّ ارتفع العدد في العام 1912 إلى 52 حافلة. وخلال عهد الانتداب الفرنسي (1920-1943) زادت العربات، فوصل عددها عام 1928 إلى 112، و124عربة في عام 1932، ليصل في العام 1934 الى 212 عربة.

عام 1922 تم تحويل معظم أسهم الشركة البلجيكية إلى أخرى فرنسية، وفي العام 1954 انتقلت إدارة الترامواي إلى الحكومة اللبنانيّة ليصبح اسمها “مصلحة النقل المشترك”.

 

متاعب.. تعديات وعدوى!

مما يُروى عن عهد ذاك الترامواي الذهبي المتمدد على خمسة عقود، أنه على الرغم من التدابير الفنيّة والاجتماعية التي كانت الشركة تتخذها لحسن سيره وحمايته، فإن ذلك لم يحل دون تعرّض منشآته للمتاعب الجمّة، وأبرزها انقطاع التيار الكهربائي أحيانًا ما يؤدي الى توقف حافلة “الترام” فـي وسط الطريق، فكان المسؤولون يستعينون على دفعها بواسطة الدواب أو بواسطة أصحاب الزنود القوية من ركابها أنفسهم الذين يستفيدون لقاء خدمتهم هذه بالتخلّص من دفع ثمن التذكرة.

كما حُكي الكثير عن متاعب واجهت الفرنسيين في إدارة الترامواي، وفي طليعتها، الأمراض التي يحملها الركاب معهم، لذلك، خصّصوا طبيبًا لكل حافلة كان يتولى فحص الركاب ومنع المصابين بالأمراض المعدية من الصعود الى الترامواي. كما عيّن الفرنسيون مراقبين لفرض القوانين في داخله وقطع التذاكر.

ومع انتقال الترامواي الى عهدة الجمهورية اللبنانية، كانت منشآت الترامواي وحافلاته تتعرّض للتعديات، فكُلّف الجيش اللبناني بحمايته ومنع قطع الكهرباء عن عرباته.

لكن هذا ليس بكل شيء… فقد كان الترامواي مضطرًا للخضوع لرغبات الزعماء وإلا حُرِم “رعايتهم وحمايتهم”. فعندما كان يمرّ من أمام بيت “راكب إكسترا”، والمقصود بذلك أحد القبضايات، أو أي زعيم شعبي نافذ، كان عليه الامتثال إذا رغب الأخير بالتوقّف ليعرّج على منزله قليلًا. والويل للترامواي وسائقه وركابه إن لم يمتثلوا لإرادته. وأكثر من ذلك، كان على الترامواي أن يتسمّر مكانه أيضًا إذا رأى وجيهًا يسير بحصانه وسط القضبان الحديدية المعدة لسير الحافلة، لأنه لا يجوز إزعاج “الفارس” بتحويله عن وسط الطريق.

والى ذلك، يستفيض معاصرو الترامواي بحكايات عن مشاكل الازدحام الكبيرة في الترامواي، فقد تحوّل بيئة ملائمة لانتشار النشالين، ومنهم من كان يستخدم شفرة أو موسى لقص جيب الضحية وسرقة محفظته، ولكم كانت تعلو الأصوات مستنجدة “حرامي حرامي”. كما أن الازدحام شكل أيضًا مرتعًا لأبناء السوء الذين كانوا دائمًا يمارسون تحرشًا جنسيًا على النساء وسط الزحمة.

وأكثر ما كان يعانيه الترامواي، هو أولاد الشارع، الذين يتحايلون بطرق عدة للتهرّب من دفع ثمن التذاكر، أو يعمدون الى لمّ التذاكر عن الأرض واستعمالها عدة مرات.

 

لا ازدحام سير.. بل ناس!

لكن أغرب ما سجّله ذاك العهد، أنه مع الترامواي، اختفت عجقة السير، وحلّت مكانها عجقة الناس، خصوصًا في بعض الأوقات التي كان يبلغ فيها الضغط على حافلات الترامواي ذروته، كموعد انتهاء عروض الأفلام في صالات السينما في وسط بيروت، وكأيام الآحاد والأعياد التي يكثر فيها ارتياد المسارح والمقاهي.

وما فاقم ذاك الازدحام هو تهافت الجميع على استعمال “الترام” وسيلة لتنقلاتهم من صغار القوم الى كبارهم، وفيما كان ركاب الدرجة الأولى يجلسون “معرّمين” متباهين بدرجتهم، لكم تفاخرت إدارة الترامواي بأن أساتذة الجامعة الأميركية كانوا يستقلّون أيضًا الترام. ويُروى أن محطات ساحة البرج وباب إدريس والجامعة الأميركية كانت الأكثر إزدحامًا، وغالبًا ما كان الركاب “يتعمشقون” على جوانب الترامواي “المفوّل” بركابه. والجدير ذكره أن الترامواي كان ينطلق من محطة ولا يتوقف إلا في المحطة التي تليها، ومن تقع منازلهم في منطقة تتوسط محطتين، كانوا يرجون السائق ويرشونه ببعض الحلوى كي يخفف من سرعته قرب منازلهم.

ومما يُروى أيضًا، أن الجابي ولدى وصول الترامواي الى إحدى المحطات، كان ينادي بأعلى صوته كي ينتبه الركاب وينزلوا حيث يريدون، ولكم كان يضحك الركاب حينما يصرخ: “سبيتال” لدى الوصول الى محطة مستشفى الجامعة الأميركية، والمقصود “أوسبيتال”. ولكم ردد أهالي بيروت حكاية أخرى هي حكاية “محطة غراهام”، عن عيادة أحد أساتذة كلية الطب في الجامعة الأميركيّة في بيروت واسمه غراهام، تقع قرب الجامعة الأميركية، وبهدف الدعاية لاسمه واجتذاب الناس لعيادته، عمد إلى إعطاء جباة الترامواي كل يوم مالًا (مجيدية) مقابل أن يهتف هؤلاء باسمه “غراهام” عند توقف الترامواي بالقرب من عيادته، ما أدى فعلا إلى التصاق المحطة باسم هذا الطبيب الأميركي، وصارت “محطة غراهام”، وبقيت كذلك إلى حين الاستغناء عن الترامواي بعد موت غراهام نفسه بمدة طويلة.

 

“الترامواي” من بيروت إلى الصين!

لكن، حتى بريق الذهب مصيره أن يخبو في لبنان، ومن كان ليصدق أن ذاك “الترامواي”، شريان بيروت الحيوي لعقود، سيُحال الى التقاعد! فعلتها دولتنا العلية واغتالت “أب الفقراء” مدججة قراراها بذرائع واهية ما اقنعت أبناء المدينة، لكنها مضت به غير عابئة.

كان ذلك في أيار سنة 1964، حين أصدرت الحكومة اللبنانيّة قرارًا بإلغاء ترامواي بيروت، مسيّرة مكانه مجموعة سيارات النقل الكبيرة (على البنزين) المعروفة باسم “أوتوبيس”، بعد أن دربت سائقي الحافلات الكهربائيّة والمستخدمين فيها على العمل في السيارات الجديدة، وأصبحت إدارة هذه السيارات تحت سلطة مصلحة النقل المشترك.

وتبريرًا لوضع “الترامواي” خارج الخدمة، قيل يومذاك إن مع التطوّر الكبير الذي شهدته بيروت، ازداد عدد سكانها والوافدين إليها عن النصف مليون نسمة، فلم يعد الترامواي قادرًا على استيعاب هذا العدد وتأدية دوره في النقل المشترك، وغالبًا ما اضطُر الركاب للتعلّق على النوافذ والأبواب لأن الأماكن فيه كانت ممتلئة على الدوام. وبناء عليه، ارتأت الحكومة ضرورة استبدال الترامواي بحافلات الركاب الكبرى لأن منشآته ومعداته وعرباته أصبحت قديمة، ولأن الباص غير مقيّد بخطوط ثابتة، وبالتالي تمّ اعتماده للحدّ من أزمة السير. لكن المفارقة أن الباصات الجديدة الـ150 عملت على الخطوط نفسها التي كان الترامواي يعمل عليها، وخلقت مشكلة مع سائقي السيارات العمومية، خصوصًا حين عملت خارج نطاق سير الترامواي وبدأت تزيد من خطوطها الداخلية.

وهكذا، مع اعتماد الباصات، أُزيلت سكك مسارات ترام بيروت، لتفسح المجال لإنشاء مزيد من الطرق وتوسيعها أمام تزايد أعداد السيارات، أما الترامواي الذي رافق بيروت والبيروتيين خلال ما يزيد على نصف قرن، فقد عرضت الحكومة اللبنانية معظم عرباته في مزاد علني من أجل تسديد الدفعة الأولى من ثمن الباصات الذي قُدّر بـ14 مليون ليرة لبنانية، فاشترت الصين قسمًا منها، وما تبقى منها بيع لتجّار الخردة على أنه أنقاض حديدية، وقام بعض من أهل بيروت بشراء بعض المقطورات  المتقاعدة وحوّلوها إلى مطاعم ثابته تقدم الوجبات السريعة والمرطبات الغازية وذلك في منطقة شوران تجاه فندق بيروت كونتيننتال سابقًا، وعلى الروشة.

هي حكاية ترامواي بيروت من أولها لآخرها، حكاية عزّ من أحلى وأطرف حكايات بيروت وأيامها الذهبية، قبل أن يُغتال ذاك العزّ ويتحول الى ذكريات وحكايات لا يزال البيارتة يرددونها بضحكات مغمّسة حنينًا وحزنًا، مرددين بلا ملل “رزق الله على أيامك يا ترامواي بيروت.. كنت تمشّي الحال وتسعد كل البيوت”.. نعم رزق الله.

“المسيرة” ـ العدد 1751

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل