21 نيسان 1994 آخر غروب شمس في غدراس
جعجع: “من يحمل الحق لا تهزمه قوة وسينتصر في النهاية”
10 آذار 1994 المشهد في غدراس يذكِّر بمشهد الكرنتينا في صيف 1992. يومها حوصر الدكتور سمير جعجع في المقر الرئيسي لقيادة الحزب في المجلس الحربي سابقًا. وانتهى بدخوله وتصفية الوجود السياسي لـ”القوات” في العاصمة. يومها تم الحصار تحت غطاء قانوني هو استعادة أملاك الدولة وتحت غطاء سياسي هو إخراج الميليشيات إلى خارج حدود بيروت الكبرى. مشهد غدراس ذاك اليوم كان أشبه بالحصار العسكري من كل الجهات والجوانب. قبل إقامة التدابير بلحظات كانت قوافل آليات وملالات تتحرك في محيطه. فجأة وصل جيب “ويلليس” إلى مركز الحرس. سأل الضابط الذي في داخله، “من وين الطريق ع غدراس”؟ أجابه عنصر الحرس: “هيدي الطريق ع مقر قيادة القوات”. طلب فتح البوابة ولم يستجب له. تراجع إلى أول المفرق الذي يوصل إلى المقر. عندئذ نصب العناصر حاجزًا تمركزت عليه ملالتان ولاند روفر والجيب.
نفس السيناريو حصل عند المداخل الثلاثة الأخرى التي لا تؤدي إلا إلى مقر القوات ومنزل الدكتور جعجع وتم تطويق المقر. وفُهِمَ فورًا أن المجموعة العسكرية لم تضيّع طريق غدراس بل وصلت إلى حيث كانت تريد الوصول. من حينه كان معلومًا ماذا يريدون.
21 نيسان 1994. أيضًا كان يوم خميس. فُهِم ما كانت تريده منظومة الاحتلال السوري. “القوات اللبنانية” وسمير جعجع. خرج الحكيم من غدراس وقال جملته الشهيرة للشباب “بشوف وجكن بخير”. حصل ذلك بعد 4114 يومًا.
في الثاني من آذار أراد البطريرك مار نصرالله بطرس صفير حصر مضمون بيان المطارنة الموارنة بمجزرة كنيسة سيدة النجاة وأن يكون شديد اللهجة، وإنما في الوقت عينه يدعو الى عدم الوقوع في تجربة التفرقة واجتناب السقوط في فخ التصعيد غير المدروس. فحذّر من تعمّد تجهيل الفاعل وعدم المضي في التحقيق الى خواتيمه كما ورد في مضمونه: “أما إذا كان مصير التحقيق في هذه المجزرة، وهي تختلف عما سواها نوعًا وهولًا، سيكون ما سبق سواه من تحقيقات، فيخشى أن تسقط هيبة الحكم، وما سيستتبع ذلك من خيبات كبيرة لها أسوأ الأثر على الوطن وأمنه واستقراره وثقة أبنائه والعالم به”.
في 10 آذار 1994 وحدات من الجيش اللبناني طوّقت منطقة غدراس ومحيط مقر رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع وصدرت اتهامات عن مراجع أمنية تقول إن هناك مطلوبين موجودين في المقر. وبدا واضحًا أن كل الأجواء توحي بالتحضير لحملة اتهامات.
في 12 آذار، حاولت الدولة أن تضلل المواطنين بأن التحقيق بمجزرة سيدة النجاة يتقدّم في طريقه الصحيح، وجاء كلام على لسان مصدر عسكري ليؤكد على المؤكد: “لن نسمح لجعجع بتحضير نفسه مجددًا للانقضاض على الدولة”. أضاف: “بعض المطلوبين للتحقيق موجودون في غدراس”!
استمرت التوقيفات والاعتقالات ومداهمة منازل قواتيين ووصل عدد المعتقلين إلى 370، وكان يتم اقتيادهم إلى مراكز وثكنات عسكرية حيث يجري التحقيق معهم تحت التعذيب والضرب والترهيب والتهديد. واللافت أن الأسئلة كانت تتخطى خلال جلسات الاستجواب قضية متفجرة سيدة النجاة لتطال قضية اغتيال داني شمعون وعائلته، والرئيس رشيد كرامي، وتفجير مطرانية الروم الكاثوليك في زحلة أواسط الثمانينات، واغتيال الياس الزايك والعقيد خليل كنعان، وتفاصيل متعددة عن الحرب اللبنانية منذ العام 1975.
كان مشروع السلطة الإطباق على “القوات” لأنها كانت ولا تزال تشكّل العقبة الوحيدة في مواجهة الاحتلال السوري. كانت هناك أخبار كثيرة تتسرب من خلال التوقيفات التي طالت عددًا كبيرًا من القواتيين، بشكل مقصود من قبل مسؤولين رسميين أو بواسطة أصدقاء مشتركين أو مقرّبين من جعجع لوضعه في جوّ ما يُحاك وبأن التوقيفات ستطاله في وقت قريب. كان تمّ توقيف نشرات الأخبار وصدر في نهاية الاجتماع الاستثنائي لمجلس الوزراء المرسوم رقم 4908 القاضي بحلّ حزب “القوات اللبنانية”.
قبل توقيف جعجع بعشرة أيام نقل إليه المحامي طوني مارديني رسالة مصدرها السلطة. كانت قاسية جدًا ومصاغة بكلمات جارحة وبعبارات نابية. كان فحواها “إنو ما عاد معروض عليه شي لا السفر ولا المشاركة في السلطة ولا لجهة أنك تطلب أي مطلب. بدّك تندم كتير على المواقف اللي أخذتها لأن انفتحلك مجالات كتيرة وأبواب كتيرة للحل وإنت رفضت. بدنا نقتص منك وبدّك من هلق وبالطالع تدبّر راسك بالطريقة اللي بتلاقيها مناسبة…”.
وبعد أخذ ورد بين جعجع ومارديني استمر لساعات الفجر، انتهى الأمر بأن أبلغه جعجع قراره النهائي أنه سيمضي في المسار القضائي إلى النهاية ويريد أن يسلّم نفسه إلى القضاء ويريد أن يخضع للمحاكمة.
كان مارديني ضد هذا التوجّه بشكل قاطع. لكن جعجع كان مصرًا وإصراره مقرون بحجة أقنعت مارديني حيث قال له: “مش رح اسمح بتسجيل سابقة بتاريخ المسيحيين إنو قائد القوات اللبنانية الزعيم المسيحي يتخلّى عن شعبو وعن قاعدتو ويهرب وقت اللي الموس بتوصل لرقبتو. هيدي بدّها تكون مهتّة للمسيحيين لمئات السنين. أنا كسمير جعجع مش رح أعطي السلطة هالشرف هيدا. بعدين القضية كلفتنا الكثير من الشهدا والدم وعلى راسهم بشير الجميّل وهودي كلهم عندهم أهل وأقارب وإمات وأخوة وأخوات. ما حدا مقطوع من شجرة. ليش وقت بدّها توصل لراس المسؤول بدّو يفلّ؟ لأ. أنا بدّي واجه ومصيري بيسوا يكون متل مصيرهم. ولكن هالشي لازم يصير”.
جمّد هذا الكلام الدم في عروق المحامي مارديني، لكنه بقي مصرًا على أن المسألة أخطر مما يتصوّر، وأن التاريخ شهد على زعماء أحزاب تمّت محاكمتهم وإعدامهم بشكل غير قانوني، ومن المتوقع أن تؤول الأمور إلى خاتمة غير سعيدة. إلا أن جعجع بقي مصرًا على موقفه وكان القرار واضحًا بالنسبة إليه.
21 نيسان 1994. ذاك اليوم أخذ الوضع في غدراس شكل الصدام السياسي الإعلامي بين رئيس حزب “القوات اللبنانية” والسلطة الأمنية. سعى جعجع إلى احتواء الموقف وتهدئته من اللحظة الأولى، فأوعز إلى مساعديه وأنصاره بعدم التظاهر أو الاعتصام، واعتذر عن استقبال الوفود الشعبية، وأظهر ميلًا إلى الابتعاد عن أسلوب الإثارة والحشد الشعبي وإلى مراعاة الظرف الدقيق الذي لا يحتمل أي تحريك للمشاعر والقواعد، في ظل وضع جاهز للانحدار نحو الفوضى والخروج عن السيطرة بفعل الاحتقان.
لم يكن جعجع يبحث عن انتصار، لكنه ربح الجولة من دون عناء، وهذا ما أزعج المراجع الأمنية التي وضعت نفسها في موقف دقيق لا يخلو من الإحراج، بحيث صعب عليها التقدم إلى الأمام لأن غدراس غير الكرنتينا، ولم يكن بإمكانها العودة إلى الوراء والاعتراف بالخطأ.
في الأيام الأربعة الأولى التي تلت عملية محاصرة غدراس تمت مصادرة كاميرات وأقلام ودفاتر الصحافيين الذين ارتادوا المقرّ لتسجيل الحدث. الإثنين 14 آذار أُفرج عنها. من حينه أيقن الصحافيون أن الحقيقة كانت أيضًا مطوقة في غدراس. “لماذا يحصل ما يحصل”؟ سؤال حملته الوفود التي تقاطرت إلى مقر قيادة القوات: نواب، كهنة، نقابيون، فاعليات، طلاب، نسوة، عجزة، أطفال… وأمام الحشود التي تقاطرت لاستفقاد الحكيم، كان يقف أمامهم ويردد الثوابت ذاتها “لقد مشينا كلبنانيين أحرارًا طرقًا شائكة أكثر بكثير، وكل ما نعانيه اليوم يبدو مزاحًا ثقيلًا أمام كل ما عاناه أجدادنا… من يحمل الحق لا تهزمه قوة وهو الذي ينتصر في النهاية. المسيحيون موجودون في هذه المنطقة من 1500 سنة وبطاركتنا سكنوا مغاور قنوبين ولم يرعبهم الاضطهاد”.
عشية اليوم السابع عادت الأجهزة الأمنية إلى ملفاتها ووجدت أن في لبنان 600 شخص عملوا في مجال المتفجرات لدى الأحزاب والميليشيات. وسها عن بال الدولة المشغولة بالتدابير الأمنية حول غدراس دون سواها ما أوردته مصادر فاتيكانية عن إشارات سبق أن تلقتها دوائر الفاتيكان تلمِّح إلى عمليات إنتقامية ردًا على إحياء العلاقات الديبلوماسية بين الفاتيكان وإسرائيل.
اللافت أن أيًا من “المشتبه بهم” لم يتم توقيفه عند أي من الحواجز الأربعة التي كانت تطوّق مقر القيادة، في وقت قامت عراضة عسكرية مسلّحة في ضوء النهار لـ”حزب الله” لمناسبة يوم القدس العالمي في بعلبك. واعتبرتها الدولة على لسان وزير الداخلية آنذاك بشارة مرهج مجرد “خرق رمزي للقانون” لأن عدد المسلّحين “كان أقل من مئتين”!!
كثيرة هي الأسئلة التي طُرِحت آنذاك لا سيما من الوفود التي أمّت مقر القيادة في غدراس. نعم وفود وزوار وأهل بيت. من الأسئلة التي صدحت الأحد الأول على محاصرة وتطويق المقر “لماذا بعدما قدمنا سيوفنا للدولة لتحمينا لا تتعب من محاولة طعننا بها؟”. هذه الأسئلة كانت تتردد إلى مسامع سمير جعجع لكنه كان مصرًا على الثبات وطمأنة الرفاق والمسؤولين في الحزب والحشود الشعبية التي أمّت غدراس “لأن ليس عند القوات اللبنانية ما تخشاه. إلا إذا كانت معارضتها للشواذات وانتقادها لها هي جرمها الكبير”.
على مستوى السلطة السياسية بدا واضحًا أنها لم تكن في أجواء ما يحصل ولم تكن على نفس الموجة مع السلطة الأمنية. ولم يكن للسلطتين التقدير للوضع وطرق التعاطي، مما يثبت أن مسألة غدراس آنذاك كشفت عن تجاذب بين السلطتين وطرحت موضوع “المرجعية” السياسية للمراجع الأمنية.
أما موقف السلطة السياسية مما ورد في مذكرات البطريرك الراحل مار نصرالله صفير عندما سأل الرئيس الياس الهراوي على هامش حفل الإفطار في قصر بعبدا عما يحدث في غدراس، كان جواب الهراوي مقتضبًا وظهر أنه لم يكن على بيّنة مما يحدث. لكنه واجه حالة مسيحية ضاغطة متسائلة عن الدوافع ومحتجة على سياسة القهر والتمييز في المعاملة. والمفاجأة كانت أن الهراوي شكا أيضًا من الوضع العام أمام الشخصيات المسيحية التي زارته ولمست أنه لا يمكنه أن يحمل هذا الوضع وسيبذل ما في وسعه لتصحيحه.
أما الرئيس نبيه بري والذي كان عائدًا من دمشق حيث مكث فيها 4 أيام، فقد أرسل إلى غدراس إشارة إيجابية، وبدا أنه غير مقتنع بما يحصل وبالمنحى الذي تسلكه الأوضاع. والرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان خارجًا لتوه من “معركة” مع الأجهزة الأمنية سارع إلى مراعاة هذه الأجهزة وتجريد المواجهة من كل أبعاد سياسية.
إزاء هذا الارتباك في مواقع القرار كان بديهيًا أن يطرح السؤال حول إمكانية وجود قرار كبير بإلغاء “القوات اللبنانية” وإسكات جعجع. إلا أن الماكينة الإعلامية التي وجدت تجاوبًا نفسيًا من الناس والسياسيين والوضع العام جعلت الموضوع يكبر ويتحول مأزقًا للدولة التي لا تستطيع التراجع أمام حزب، حتى لو كان موقفها خاطئًا في الأساس، فاكتسبت المسألة طابع التحدي.
كشفت الساعات التي سبقت لحظة اعتقال جعجع وخروجه من غدراس أن هناك قرارًا استراتيجيًا كبيرًا بـ”إلغاء” القوات اللبنانية كمؤسسة وتيار، وقد بدأت مفاعيل هذا القرار تظهر بالمباشر مع تفجير كنيسة سيدة النجاة في 27 شباط 1994. فهذا التيار كان يشكل مصدر قلق بالنسبة إلى التركيبة السياسية الهشة وغير المتوازنة، فكيف إذا كانت “القوات” تعلن عند المنعطفات مواقف تزعج هذه التركيبة ولا تتحمّل سماعها مطلقًا؟
ولعل ما نقلته إحدى الصحف من كلام للوزير السابق الراحل ميشال إده في جلسة مجلس الوزراء يختصر النتيجة: “إن التدابير التي نُفذت ضد الدكتور جعجع في غدراس شبيهة بالتدابير الخاطئة التي نفذتها بعض الأجهزة الأمنية في الخمسينات والستينات ضد الرئيس كميل شمعون فحوّلته إلى بطل”. وهنا تدخل الرئيس الياس الهراوي الذي كان يترأس الجلسة وقال: “حوّلته إلى إله”. حتى خصوم جعجع شخصيًا و”القوات اللبنانية” عمومًا اعترفوا بأن ما حصل في غدراس كان خطأ وقد زاد من قوة جعجع بدل إضعافه. والحق يُقال إنه أضعف الدولة وأسقط مواقفها في ميزان الخطأ.
حتى عصر الخميس 21 نيسان 1994 كان هناك اعتقاد سائد بأن ما يحصل من توقيفات وكمّ الأفواه محدود في نطاقه الجغرافي وترجماته الميدانية. لكن تبيّن لاحقًا أنه واسع وواسع جدًا في مدلولاته ونتائجه السياسية. فما حدث أضاف عنصرًا جديدًا إلى عناصر التوتر وعدم الاستقرار اللذين كانا سائدين في البلد، وهي كانت تتكدس في الأجواء اللبنانية وتختلط فيها التفجيرات الأمنية مع الإستهدافات السياسية. والأهم أن صورة الدولة في غدراس آنذاك أعادت إلى سمير جعجع صورة الرمز والقائد المسيحي. وإذا كان كلامه قبل “صعود” الدولة إلى غدراس قد أزعجها فأرادت “إسكاته” و”عزله” ولاحقًا اعتقاله، إلا أنه أخذ حجمًا أكبر بكثير مما كان عليه ومما كانت تتوقعه تلك الدولة آنذاك.
صفير: العدالة لبعض الناس من دون سواهم لا تكون عدالة
مساء ذلك اليوم 21 نيسان 1994، وفيما كان البطريرك مار نصرالله بطرس صفير عائدًا من عيادة طبيب الأسنان الدكتور خليل كرم في المعاملتين، وكانت الساعة تشير الى السادسة، التقى قافلة من الجنود مع ناقلات جند ودبابات تتجه صوب غدراس. فقال في نفسه: “حتما إن الجيش ذاهب لإلقاء القبض على سمير جعجع”. وعندما وصل الى الصرح البطريركي بدأت المعلومات ترده عن صدور مذكرتي التوقيف وعن الإجراءات لتوقيف قائد “القوات اللبنانية”.
ابتداء من الثامن عشر من نيسان بدأت تهيئة الأجواء لاعتقال قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع بعد أن أحكمت القوى الأمنية الطوق عليه في مقرّه في غدراس وعلى محازبي “القوات” أينما كانوا على الأراضي اللبنانية. وبدأت الصحف تلمِّح الى توقيفه متوقعة صدور مذكرة توقيف في حقه بين لحظة وأخرى. وعاشت البلاد جوًا من التوتر خاصة بعد أن انتشرت حواجز وحدات الجيش اللبناني في مناطق بيروت الشرقية التي غالبًا ما كانت تُخضع المارين لتفتيش دقيق في حال اشتباهها بأن الركاب على علاقة بـ”القوات اللبنانية”. وفي الحادي والعشرين من نيسان 1994، كان اللبنانيون ينتظرون صدور مذكرتي توقيف في حق جعجع، واحدة تتهمه بالضلوع في اغتيال داني شمعون والأخرى في تفجير الكنيسة، على رغم المبدأ القانوني القاضي بسرية التحقيق.
في اليوم التالي على اعتقال جعجع، جاء جمهور من مناصري “القوات اللبنانية” واعتصم في بكركي وبينهم نساء وأطفال وشبان وقضوا الليل بكامله في باحة الصرح. وقد بُذلت جهود كبيرة لإقناعهم بفك الاعتصام إنما من دون فائدة. ولم يتفرق المعتصمون إلا بعد ظهر السبت إثر اجتماع عقدوه مع سيد بكركي الذي طلب من مندوبي وسائل الإعلام الخروج من القاعة. في هذا الإجتماع، قال البطريرك الماروني للمعتصمين: “أعرف أن المحنة كبيرة، ولكن علينا الصبر والاتكال على الله. الآن لا نستطيع أن نقول شيئًا، علينا انتظار نتائج التحقيق، الدكتور جعجع ارتضى أن يخضع للتحقيق، لو لم يكن يشعر بأنه بريء لما كان ارتضى الخضوع له، وهو يقول إنه بريء وإنه مستعد للمثول أمام القضاء، فلننتظر القضاء وليكن إيمانكم بربكم كبيرًا”. ومنذ اليوم التالي للاعتقال، أعطى سيد بكركي من زاره من وكلاء جعجع التوصية الآتية: “استعملوا كل ما أعطاكم القانون والتشريعات وعليكم أن تكونوا على مستوى التحدّي. اشهدوا للحق ولا تخافوا من الضغوط، نحن الموارنة اعتدنا الضغوط ولا نخضع لها. مارسوا دوركم بالكامل”.
عاد مناصرو “القوات اللبنانية” يوم الأحد الى بكركي وبدأوا بالتجمّع، بعد القداس، على الطريق خارج الصرح البطريركي الذي أقفلت بوابته الحديدية. ولما حاول المتظاهرون دفعها، أطلق عناصر الجيش اللبناني النار في الهواء. بعد هذه المشادة، عادت المفاوضات بين لجنة تألفت من الضباط والمطرانين رولان أبو جودة وبولس مطر وممثلين عن المتظاهرين. وفي النهاية، تم التوصل الى مخرج بأن يتم تقسيم المجتمعين أقسامًا، وإدخال الوفود بالتواتر على أن يضم الوفد نحو مائة شخص.
وأطل البطريرك من على الشرفة وسط تصفيق شديد، وألقى فيهم الكلمة التالية: “نحن نعرف لماذا أتيتم في هذا اليوم الى بكركي، مثلما أتى بعضكم أمس الأول. هذه القضية تهمنا جميعنا بل تهم كل لبنان. نحن اليوم طلبنا في القداس الإلهي من جميع اللبنانيين من مسلمين ومسيحيين أن يصلوا الى الله لكي يعطي المسؤولين والمحققين والقضاة الجرأة الأدبية ليظهروا حقيقة ما جرى ويجري. ولا يمكننا إلا أن نتخذ هذا الموقف. فنحن يجب أن نوطد ثقتنا أولًا بالله وثانيًا بالقضاء اللبناني، وذلك الى إشعار آخر (…) ما تريدون أن تقولوه لي أعرفه، ونحن نسعى بكل ما لدينا من قوة، وأكرر وأقول، لأن تظهر الحقيقة. فالحقيقة وحدها تنقذ من يسعى وراءها. المتهم بريء حتى تثبت إدانته (…) وإذا كانت العدالة لبعض الناس وليست للبعض الآخر فهي لا تكون عدالة”.
وكانت ترد الى سيد بكركي أخبار التعذيب للموقوفين واستشهاد فوزي الراسي، من جراء صعقِه بالتيار الكهربائي. كما بلغه أن المعتقلين القواتيين في زنزانات وزارة الدفاع أُجبروا على المرور أمام الدكتور سمير جعجع وهو مقيّد ورجلاه متباعدتان فوق حرام واحد وهو واقف. وكلما مر واحد منهم أمامه قال السجانون له: “هذا هو زعيمكم وقائدكم”، وتتوالى عليهم وعليه الشتائم. وكانت هذه المعلومات تزيد من استياء البطريرك صفير الذي كان يثيرها متى زاره المسؤولون الأمنيون والسياسيون، وهم كانوا دومًا ينفونها بإصرار.
في الثاني من أيار، أوفد رئيس الجمهورية الياس الهراوي المدير العام للأمن العام ريمون روفايل ليقول للبطريرك إن ما قيل عن وفاة الموقوف فوزي الراسي تحت التعذيب غير صحيح. وأعطى روفايل البطريرك صفير صورة للمعتقل المتوفى من جراء التعذيب وتقريرًا طبيًا وطلب من البطريرك إيفاد أشخاص من قبله للكشف على الجثة.
في اليوم نفسه، استقبل الدكتور جورج سعادة ودار الحديث في الوضع الراهن وما يتعرض له الشباب الموقوفون من تعذيب في سجن وزارة الدفاع. واقترح تشكيل لجنة لزيارة المساجين والوقوف على وضعهم ونقل الأمر الى رئيس الجمهورية. كما استقبل مدعي عام التمييز منيف عويدات ومسؤول العلاقات العامة في وزارة الدفاع ميلاد القارح، وأبدى عويدات عدم رضاه عن سير التحقيق في قضية متفجرة سيدة النجاة واغتيال داني شمعون، مشيرًا الى أن المحقق جوزف فريحة قد أثار غضبه.
ووسط الأجواء التي تشير الى تعرض سمير جعجع ورفاقه لسوء المعاملة، أوفد بطريرك الموارنة المطران بشارة الراعي، في الرابع من أيار، الى وزارة الدفاع للاطمئنان على وضع جعجع، بعد أن أصرّ على هذا المطلب الذي لم يستجب له فور تقديمه. وعاد الراعي ناقلًا تطمينًا عن وضعه الصحي، ومشيرًا الى أنه يعاني من انقباض قديم في المعدة. وفي اليوم نفسه، أصدر المطارنة الموارنة بيانهم الشهري الذي اعتبر أن “ما يجري حاليًا هو محاكمات سياسية أكثر منها جزائية (…) والتحقيق في أعقاب متفجرة سيدة النجاة لم يسفر عما يطمئن الرأي العام. والانتقال من ملف جريمة سيدة النجاة الى سواها من الملفات يحمل على الظن أن هذه الجريمة تمثل الدرجة الثانية من الاهتمام الرسمي. وهذا ما نربأ به أن يكون، ولا يزال القضاء موضع ثقة وتقدير (…) إن الملاحقات التي يتعرض لها عدد كبير من الشبان المنتمين الى القوات اللبنانية ويلقون معها من المعاملة ما نددت به منظمات حقوق الإنسان، من شأنها أن تؤذي سمعة لبنان وتسيء الى ما عُرف به من محافظة على القيم الإنسانية والحضارية”.
عندما زار مدير المخابرات في الجيش اللبناني ميشال الرحباني بكركي، ليؤكد لسيدها أن لا تعذيب للموقوفين في سجن وزارة الدفاع، انتفض البطريرك صفير وقال له: “لكننا نعرف أن هناك من يُعذبون وهذه حقيقة راهنة مهما أنكرت”. وكان البطريرك قد تأكد بنفسه من عشرات المعتقلين الذين أطلقوا بعد قضائهم فترة في المعتقل، أن وسائل التعذيب الممارسة متعددة وعنيفة ومنها ما يؤلم ومنها ما يمتهن كرامة الإنسان والبطريرك يدين الأمرين معًا.
طُرحت مسألة توسيع رقعة العفو العام ليستفيد منه سمير جعجع للمرة الأولى في 26 أيار 1994 عندما زار مدعي عام التمييز القاضي منيف عويدات البطريرك وتكلم معه في الموضوع. ثم زاره في الحادي والثلاثين من الشهر عينه وسلّمه مشروع قانون العفو مع الأسباب الموجبة لشطب الاستثناءين في قانون العفو أي الجرائم المحالة الى المجلس العدلي قبل تاريخ نفاذ القانون وجرائم اغتيال ومحاولة اغتيال رجال وعلماء الدين والقادة السياسيين والدبلوماسيين العرب والأجانب. وفي اليوم التالي، التقى عويدات وكيل جعجع المحامي أسعد أبي رعد، وسلّمه نسخة عن مشروع القانون، وقال له: “الكرة أصبحت في ملعبكم، حُرّرت هذه الوثيقة على ثلاث نسخ أصلية: واحدة مع البطريرك، وثانية مع عبد الحليم خدّام وثالثة مع الرئيس الهراوي أي معي. فتصرفوا، على البطريرك أن يرتب القصة مع خدّام”. ويضيف المحامي أبي رعد: “ما فهمته، أن على البطريرك أن يزور عبد الحليم خدّام ويتفق معه كي يتم تعديل قانون العفو. زرت الدكتور جعجع في سجن اليرزة ونقلت إليه ما قاله القاضي عويدات. فأجابني: “أوعا، رب ربك بيعرف السوريين شو بدن، بياخدو كل شي وما بيعطو شي”. وعندما فاتحت البطريرك بالموضوع وجدت أنه ليس في وارد زيارة خدّام”.
ولم يكن مسلسل إحكام القبضة الحديدية السورية على لبنان قد انتهى بعد، وكان في جعبة القيادة السورية مخطط آخر كان الرئيس الياس الهراوي، التائق الى تجديد ولايته، والرئيس رفيق الحريري والوزير بشارة مرهج على أتم الاستعداد لتنفيذه: مرسوم التجنيس.
“المسيرة” ـ العدد 1752
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]