لطالما التاريخ أحمل ثقل شوكه بشكلٍ يناقض عدالة الأرض والسماء. فبين أسطره نقرأ ما لا تقرأه العيون ونسمع ما تهامست به الغرف المغلقة، مسدلة الستار فوق طاولاتها وخفاياها. فبين وطن شاءت المعادلة “الجيو ـ سياسية” أن يصبح كتلة أوطان تفتقد للأمن والأمان وبين جارٍ لطالما تحمَّل أعباء موقعه، فرضت أزمة “النزوح” بشكلها الإنساني أولاً، لتصبح مع الوقت جزءاً من تفاقم أزمات الوطن وعنصراً يفقد الاقتصاد والأمن مفهوم الاستقرار.s
أكثر من مليونين و100 ألف نازح، بحسب أرقام “الأمن العام”، ينتشرون على كافة الأراضي اللبنانية. باتوا خطراً واقعياً ومستمراً على “الهيكلية الإقتصادية” والتي هي قاعدة العيش لكل مواطنٍ في كل وطن. بالتالي، ضخامة “الرقم” المطروح تضعنا أمام ضخامة الإشكالية، إذ هل بات “اقتصاد” لبنان بين فكَّي “النزوح”؟ وهل بات رغيف المواطن موضوع صراعٍ تحت سقف الإنسانية؟
أولاً، في صلب جمالية البحث اتضح لنا أن مصطلح “الاقتصاد” ينبثق من مفهومه الأصلي أي المصطلح اليوناني “أويكونوميا”؛ ويقصد به التدبير المنزلي، إذاً إنه تدبير الدولة بالموارد والحركة. كذلك، من الجدير بالذكر أن كافة تعريفات الاقتصاد تشير إلى أنه ذلك العلم الذي يسعى جاهداً إلى الكشف عن ماهية الثروات المتوفرة لدى الشعوب والأمم وطبيعتها ليصل إلى إنتاجها ثمّ استخدامها وفقاً لـ”آدم سميث”. بالتالي، للشعوب أحقية إدارة اقتصادها، وحمايته واستغلاله، إذ أنه “درع الوقاية” أمام استمراريتها واستكمالها المسيرة.
في هذا السياق، نوجّه مجهر البحث نحو ذاك الوطن الملقى على حافة الشرق. ذاك الوطن المعروف بـ”مرفأ الحضارات” والذي أراده الزمن جاراً لأوطان افتقدت للسلام والحرية. إنما على الرغم من ظرفه الجيو ـ سياسي، كان لبنان “فينيقيا” بعظمة تجارتها والتي لم تترك للتاريخ سوى أنظمة اقتصادها. كان دائماً اقتصاده بمواجهة الحروب، فلبنان من صدَّر الحرير والصابون والتفاح. هو من قاوم الجوع العام 1914 ليعود بعد فرنسا بـ”سمة فوقية” إذ أنه سبق من كان منتدباً عليه وبات باقتصاده سويسرا الشرق. بالطبع لم تنته الرحلة بل أنه واجه الصعاب خلال حرب الـ1975 وبعدها، كذلك مع الاحتلال السوري، كذلك على ضوء أزمة الـ2019 الاقتصاديةـ ليكون اليوم في صدارة المواجهة مع أزمة “النزوح” التي تهدد كيانه الاقتصادي إذ أنها خرجت من إطار الأمان الإنساني لتكون سيفاً حاداً يهدد الوطن الذي أعطى من أرضه يوماً إكراماً للإنسانية.
في ظل هذه الأزمة عاش لبنان الركود الاقتصادي بمعدلات نمو سلبية (أدنى من الصفر) تهدد استقراره. بالتالي، ملف النزوح بات يشكل مسماراً جديداً في نعش لبنان، إذ أنه خلال المتابعة الحثيثة للملف وبعد التواصل الإستشاري الذي تم مع عدد من الباحثين في المجال الاقتصادي اتضح أن “للنزوح أبعاد سلبية على المستوى الاقتصادي”.
أولها، مشكلة البطالة التي تمثل أزمة “إقتصادية ـ إجتماعية” وتطاول بشكل أساسي الفئة العاملة اللبنانية وذلك نتيجة المنافسة غير المتكافئة بين الأجور على مستوى العامل السوري والأجور على مستوى العامل اللبناني، وذلك في عدد من المجالات خصوصاً “البناء ـ الزراعة ـ المفروشات ـ الترميم…”. مشكلة البطالة تفرض نفسها بشكلها “البنيوي” إذ أنها تضرب القاعدة اللبنانية انطلاقاً من مشكلة اقتصادية كبرى تكسر مجرى الدورة الاقتصادية.
هذا بالإضافة إلى الأعباء الاقتصادية التي يحملها لبنان على مستوى البنى التحتية المتمثلة بـ”الماء والكهرباء”. في هذا السياق، مع غض النظر عن عدم توفر الماء والكهرباء من خلال تغذية سليمة مستمرة، غير أن الساعات القليلة والتغذية القليلة يطالها الهدر الناتج عن استغلال مخيمات اللاجئين لهذه الموارد بدون حد أدنى من “الفواتير” وقانونية “العدادات”، في ظل “هرج ومرج” من خطوط السرقة و”التعليق” وتحت رحمة “القساطل” المطمورة الموظفة لتهريب المياه واستخدامها. كل ذلك موجودٌ أيها السادة، لا بل أيها الساسة!. يمكن قراءة الأرقام الخيالية على فاتورة المواطن اللبناني الذي تحمّل “الكفر” تحت شعار “الإنسانية”.
أما على المستوى الثالث، فالأزمة “أمنية” وبدون تفصيل دقيق إذ أنه ملف يتابع بذاته، إنما ارتفاع عدّاد “الجرائم” المرتبطة بالنازحين، خصوصاً على مستوى السرقة والقتل أدى الى تحريك بوصلة هذه النتائج التي تحمل أيضاً الاقتصاد أرقاماً، اذ أنها تضرب بالعمق الاستقرار الأمني ـ الاقتصادي ما يؤدي إلى هروب “الإستثمار” والمستثمرين وإلى ضعف الإنتاج والإنتاجية بالتالي ضعف الحركة الاقتصادية وإنخفاضها التدريجي.
في النهاية، نتائج النزوح الاقتصادية “لا تحصى”، إذ أن دراستنا استندت على تحاليل اقتصادية حول المستويات الثلاث ” البطالة ـ البنى التحتية ـ الإستثمار”. هذا ولم نتكلم حول التهريب الذي يرعى جزءاً منه الإطار السوري واليد السورية في لبنان، ذلك تحت إطار “حزبي” معين وفي خدمة معابر سياسية وبرية والتي تخطى عددها الـ124 بحسب بيان للمجلس الأعلى للدفاع وتُقدّر خسائر الدولة من الرسوم الجمركية نتيجة التهريب عبر المعابر غير الشرعية بنحو 600 مليون دولار.
تؤدي هذه المعابر بدورها إلى منافسة الانتاج اللبناني، إذ تبرز البضائع السورية في الأسواق اللبنانية “على عينك يا تاجر” لا بل “على عين الدولة والجمارك”. هذا الواقع يؤدي إلى الإخلال بالتوازن الاقتصادي ـ المالي. كل ذلك في ظل الأرقام التي تدل على أن العائلات السورية في لبنان على ارتباط وثيق مع العائلات القاطنة في سوريا، في ظل أرقام تدل على أن الحد الأدنى للأجور في سوريا “50 دولاراً” وهذا رقم بوسع النازح إنتاجه خلال أيام في لبنان على الرغم من أزمته الاقتصادية. بالتالي يا ساسة الوطن، كيف لبلد لا تتعدى مساحته عشر سوريا أن يموّن أهلها ويشغّل معابرها ويغذّي صناديقها؟ لا شيء يعلّل “شيطنة” النزوح، سوى ما تشاؤه طوابير السياسة ومصالح الدول.
نهاية، لبنان جارٌ أمين.. لا شك! لبنان أول من تعاطى مع “النزوح” إنسانياً، عندما كان الأمر يستوجب الإنسانية. إنما “أمن لبنان الاقتصادي” ليس للنقاش والعبث خصوصاً في ظل كل أزماته، إنسانيته لا يعلى عليها وعلى الرغم من موارده الضئيلة غير أنه تحمّل أعباء دول بأسرها. أما الآن فبات الوقت للعودة الآمنة إلى المناطق الآمنة لتأخذ الإنسانية حقها ويكون للبنان حقه.