ارفعوا القلم فالجزار لم يمت بعد

حجم الخط

في التاريخ القديم قتلهم أحمد باشا الجزار. أمر بتعليق المشانق في 6 أيار 1916 في ساحة البرج، لأربعة عشر شخصية مقاومة للاحتلال العثماني، طالبوا باستقلال وسيادة لبنان. صار اسمها ساحة الشهداء، كان عيد الشهداء وتحوّل الى عيد شهداء الصحافة.

الوطن الذي لا شهداء للقلم فيه، هو وطن ميت بلا صوت بلا روح. لوهلة، ظن التاريخ ان الجزّار مات وشبع موتا ذاك المتوحش، بعد هزيمة نكراء لجيشه على يد الجيش المصري، ومقتله هاربا متخفيا ذليلا، لكن الواقع أن الجزّار الذي تسبب بتجويع اللبنانيين وموتهم بالالاف وهجرتهم بالالاف المتبقية، ما زال حيا يُرزق، وكلما حانت له الفرصة، يلتهم ضحية رأي جديدة ويشبع نهمه اللامتناهي للدم!

لم يمت الجزّار بعد، بل هو حي وأكثر مما كان عليه، وبسببه استشهد عشرات الصحافيين في لبنان، وما زالت دماؤهم حبر اقلامهم المروّسة بالحق والشجاعة.

قبل أن أنال شرف الانضمام الى قافلة مهنة المتاعب، وكنا لا نزال على مقاعد الدراسة، اغتالوا نقيب الصحافة رياض طه، والصحافي الكبير سليم اللوزي العام 1980، اذكر يومها كيف ضجّ الاعلام بخبر طريقة اغتيال اللوزي، الذي تعرّض لأسوأ انواع التعذيب من بتر الاصابع وتذويبها بالاسيد، ثم وضع عدد من الاقلام في أحشائه، للسخرية من قلمه ومواقفه التي كانت مناهضة علنا للاحتلال السوري للبنان. تباهى أزلام حافظ الاسد يومها بقتلهم لسليم اللوزي، وعرف مذذاك التاريخ صحافيو لبنان، ذوي الاقلام الحرة طبعا، ان مشوار الحرية سيكون أصعب المشاوير مع احتلال متوحش، وان قدر حبر اقلامهم أن يتغمس بالدم ثمنا لحرية البلاد.

توالت الأيام وصار الاحتلال السوري ينافس الجزار بوحشيته وتعرّضه للاقلام الحرة، صار يصطادهم، يتربّص بهم، يهددهم عبر ازلامه في لبنان، وبعد جلاء الاحتلال السوري، أيضا اعتقدنا أن الجزّار مات، واذ به يستنهض ارهابه من جديد، ويأتي هذه المرة على جياد الاحتلال الايراني، وبدأ باصطياد الاصوات الحرة، فاصطاد سمير قصير وجبران التويني وكان ما كان مع آخرين وآخرين من ثوار 14 آذار، اصطاد بيروت كلها عبر مرفئها، اصطاد وطنا من اجمل الاوطان، وجعله الاسوأ من بينها، اصطاد قلم وصوت لقمان سليم بوقاحة غير مسبوقة… وانضموا جميعا الى شهداء الصحافة.

لماذا استشهد هؤلاء، ليحيا الجزار؟! لم يمت، لم تبتلعه شياطين الارض التي اليها ينتمي، بل ما زال يغمِس يديه في دمائنا ويسكب الكؤوس ويسكر، اذا كانت دماء وطن لا تعزّ عليه، فهل سيعزّ عليه حبر الاقلام وحناجر الاحرار؟! صار الوطن منفى الحرية، وصار حبر الاقلام الحرة مقبرتها، فكيف يستمر بعض هؤلاء في كتابة وقول ما يجب أن يُكتب ويُقال؟ من أين يستمدون الشجاعة بعد لقول الحقيقة ولو على قطع الرأس؟!

على قطع الرأس أقسموا أن يكتبوا الحقيقة كما هي، ورؤوسنا كلها على المحك، لو قُدر للجزار أن يقتلنا جميعا لما تردد لحظة، لكنه وان كان لا يعترف، هو يخشى فقط تلك الأقلام الحرّة التي، وان كانت لا تردعه دائما عن ممارسة ارهابه واحتلاله للبنان، ولكنها تسلط الضوء على أفعاله الاجرامية بحق وطن وشعب بكامله. الصحافة الحرة هي من فضحت قاتل بيروت وفضحت ترهيبه للقاضي بيطار، الصحافة الحرة وحدها التي فضحت ما يفعل في الجنوب وكيف يعتدي على أمن وسلام لبنان عبر الشعارات الرنانة الفارغة من مضمونها، الصحافة الحرة وحدها تدافع فعليا عن لبنان وتنشر اصوات الاحرار ومواقفهم ولقاءاتهم ومساعيهم لتحرير لبنان من الجزار، وهو يكرهنا، ويمعن في كرهنا ويحاول ان يرهبنا ويضطهدنا، لكن، ومرة جديدة وان كان لا يعترف، حبر الأحرار يرهبه، صوت الشجعان يضيِق عليه مساحات الجريمة بحق هؤلاء.

ليس أجمل من أن تحمل صفة “صحافي” حر شريف لا يُشترى ولا يُباع، ومن استشهد منهم فلأنهم شرفاء لا يشترون المواقف بحفنة دولارات مغمسة بالذل، فهؤلاء ليسوا صحافيين بل رعاعا في بلاط الصحافة. وأيضا ليس أشرف من أن تنال صفة شهيد الصحافة رغم بشاعة الموت، وبالامس القريب جدا استشهد زملاء لنا في ساحة الجنوب، حيث الحرب العبثية المدمرة، علّمت في أجساد هؤلاء واستشهدوا في سبيل المهنة الشاقة تلك، سقطوا فداء المهنة ليرتفعوا مع الرب شهداء. وبالامس الأبعد قليلا شهدنا على مشهدية نادرة، استشهدت أمام اعيننا مباشرة على الهواء الصحافية الفلسطينية الشهيرة شيرين ابو عاقلة برصاص الجيش الاسرائيلي.

راقبنا سقوطها لحظة بلحظة، وكأنه فيلم. وبتأثر بالغ ارتفعت الشهيدة امام أعيننا لتقول لنا رسالة مدوية بدمائها، بأن الصحافة رسالة عظيمة، وكل استشهاد في سبيل الارض هي صلاة ترفعها الدماء المسكوبة الى اذن الرب مباشرة، ولا بد للرب أن يستجيب مهما ظن البعض انه لا يسمع ولا يرى.

لكل شهداء الصحافة تحية ووعد من أقلام وأصوات حرّة، بانها لن تسكت، ستبقى تكتب وتكتب وتحكي الى أن يموت الجزار عن جدّ… وسيموت ليحيا لبنان والحرية وأقلامهم الحرة أيضا، وطالما أقلامهم ما زالت حرّة، سيبقى لبنان الحر ذاك، حصرمة في عين الجزار.

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل