لبنان بلد عبور لا نزوح ولا لجوء.. الخارج يتصرف بموجب مصالحه و “النزوح” الى أزمات!
تتوالى المخالفات والجرائم الموقعة باسم “نازحين سوريين” في لبنان، وترتفع نسبتها بوتيرة متسارعة باتت تهدِّد الأمن القومي والأمان الاجتماعي بقوة، بعد ما حصل من جرائم مروّعة ومتنقلة، وما شكلته من ضغط على فرص العمل والبنى التحتية وغيرها، الأمر الذي كلّف الاقتصاد أكثر من ثلاثة مليارات دولار سنويًّا. وربما كانت قضية باسكال سليمان الشعرة التي قصمت ظهر البعير، مع اعتراف الجميع بأن أزمة النزوح قائمة قبل ذلك ومستمرة بعده، وإن بات الكثير من الإجراءات مطلوبًا وملحًّا.
وبما أن المعلومات المتوافرة عن جرائم ارتُكِبت خلال نيسان أشارت إلى أن مرتكبيها سوريّون، فإن هذا يشكّل نذيرًا ونفيرًا للإسراع في معالجة الموضوع قبل فوات الأوان.
في نهاية أيار المقبل ينظم الإتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية مؤتمر بروكسل الثامن حول النازحين السوريين، تحت عنوان: “دعم مستقبل سوريا والمنطقة”. طبعًا لا آمال كبيرة معلّقة عليه استنادًا إلى التجارب السابقة، لكنه يبقى في أي حال فرصة للبنان للمطالبة بحل هذه الأزمة وتقديم اقتراحات الحلول لذلك. ففي مؤتمر بروكسل السابع الذي عقد في حزيران 2023، تعهّد المجتمع الدولي بما يقرب من 5.6 مليارات يورو لدعم النازحين عن العام 2023 وما بعده، منها أكثر من 3.8 مليارات يورو تعهد بها الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه. فهل يصل الصوت هذه المرّة؟ وهل يسمع الأوروبيون؟ أو بتعبيرٍ أكثر موضوعية، هل يرفع المسؤولون اللبنانيون الصوت حقًّا؟
أرقام مخيفة
لم تعد الأرقام المقلقة عن حجم النزوح وخطره واستنزافه لكل شيء، سرًّا على أحد. لم يعد ثمّة مجال لمن يطالب بتنظيم النزوح، لاتهامه بالعنصرية أو بالخلفيات غير البريئة (باستثناء البعض طبعًا) وهؤلاء باتوا مكشوفين. فمقابل كل لبنانيَين موجودَين في لبنان هناك نازح سوري، ومقابل كل ولادة لطفل لبناني هناك 4 ولادات لأطفال سوريين من دون أوراق ثبوتية. اللبنانيون يزيدون واحدًا في المئة سنويا، بينما النازحون السوريون يزيدون 4 في المئة سنويًّا. ووفق هذه النسب، ستتساوى أعداد النازحين السوريين بأعداد اللبنانيين في يوم لم يعد ببعيد.
أما كلفة النزوح المباشرة على لبنان فهي، وفق البنك الدولي، بحدود مليار ونصف مليار دولار سنويًا، فيما الكلفة غير المباشرة تصل إلى 3 مليارات دولار، أي ما مجموعه 4 مليارات ونصف مليار دولار في السنة، وهذا يعني أن كلفة النزوح على لبنان خلال 13 سنة تقدر بـ 58 مليار دولار.
في المقابل بات توسُّع الاقتصاد غير الشرعي عبر الزحف المستمر للمؤسسات التي يقيمها النازحون في مناطق لبنانية مختلفة، يمثل ما بين 55 و60 في المئة من حجم الاقتصاد الوطني. وهذا مؤشر مُقلق وغير مسموح به في كل دول العالم. ولعدم السماح هذا عوامل وأسباب تتصل بالدورة الاقتصادية نفسها وما يعود من نشاطها سواء على المواطنين الأفراد أو على خزينة الدولة. وهذا العائد يصبح مفقودًا في ظل الاقتصاد الموازي. والأمر لا يقتصر على المؤسسات فقط، بل يمتد أيضًا إلى سوق العمل، حيث ينافس النازحون اللبنانيين على فرص العمل ما يدفع الشباب اللبناني إلى الهجرة.
أمنيًا، وهو المسألة التي تقدّمت إلى الواجهة بين مسألتي العمالة والديموغرافيا، تفيد التقارير الأمنية اللبنانية أن بين النازحين 100 ألف عسكري مدربين في خدمة التجنيد أو الخدمة الفعلية في الجيش السوري، وغالبا ما تضبط المداهمات بحوزتهم على أسلحة. وهذا الموضوع يشكل قنبلة موقوتة وقابلة للانفجار وسط اضطراب الواقع اللبناني ومحاولة جهات معينة الاستثمار في هذا العامل الخطر لتمرير ما لديها من مشاريع خارج حسابات البلد والدولة.
وصولًا إلى العامل الديموغرافي حيث يهدد استمرار واقع النزوح إلى خلل بنيوي على صعيد السكان والهوية الوطنية، نظرًا إلى أن ولادات النازحين تفوق تلك المسجلة لدى اللبنانيين. يقابلها تصاعد الهجرة لدى المواطنين مقابل ارتفاع وفادة السوريين الذين باتوا يقصدون لبنان للحصول على الرفاه الاقتصادي وليس هربًا من الواقع الأمني السوري.
قيومجيان يوضح
مسؤول العلاقات الخارجية في حزب القوات اللبنانية ريشار قيومجيان لفت في حديث لـ”المسيرة” إلى أن “النزوح السوري موضوع ساخن قبل اغتيال باسكال سليمان. الناس باتوا مشمئزين من الممارسات التي يقوم بها نازحون سوريون، فغالبًا ما تحصل جرائم ومؤخرًا بوتيرة عالية، ليتبين بعد التحقيق أن مرتكبيها سوريون. مسألة النزوح ضاغطة منذ البداية، لكن كانت المسألة اقتصادية وديموغرافية لتتحوّل مع الوقت إلى أمنية. وهي لم تكن يومًا طائفية بل إنّ جميع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين يطالبون بضبط النزوح والتحذير من مخاطره المحدقة”.
وأضاف أنه “بسبب تفكك الدولة من جهة وتحلل العديد من البلديات كسلطات محلية لها دور في هذا الموضوع من جهة ثانية، فإن ارتفاع أعداد النازحين إلى أكثر مما يتحمله أي مجتمع، رفع معه نسبة الجريمة والفوضى على المستويات كافة. ويجب أن يعلم الجميع أن النازحين المستهدفين من النظام ولا يستطيعون العودة، هم قلّة، وأن الغالبية يذهبون إلى سوريا ويعودون، وبإمكانهم العودة الآمنة إلى بلادهم. لكن تحقيق ذلك لا يتم تلقائيًا بل يتطلب مبادرة السلطات المعنية وتعاونها وهناك قرارات صادرة عن وزير الداخلية بهذا الشأن ما على المعنيين إلا تطبيقها، وحيث تم تطبيق تلك القرارات كانت النتائج ملموسة وإيجابية”.
وعمّا فعلت القوات بهذا الشأن، أكّد قيومجيان أن «حزب القوات نبّه منذ البداية إلى مخاطر النزوح وقدّم خططًا عملية بذلك، ودفع البلديات بقوة إلى القيام بدورها بهذا الخصوص. وحيث هناك بلديات استجابت لهذا المسعى كانت النتائج جيدة ويمكن أن تُعتَمَد مثالًا. لكن لا يُمكن للأحزاب في أي حال أن تحلّ محل الدولة. فمن يحصي؟ ومن يرحِّل؟ ومن يضبط المعابر لضمان عدم الدخول من جديد؟ كل ذلك يتطلب وجود دولة سيدة وسلطة فاعلة هي غير متوفّرة في الوقت الحاضر جراء سيطرة “حزب الله” على المعابر. وإذا كان غياب الدولة يشكل عقبة أمام العودة، وكذلك عدم توافر رغبة دولية بذلك، فإن العقبة الثالثة والأساسية هي رفض النظام السوري عودتهم ووضع الشروط لاستثمارها في مصلحته. لكن يبقى الأهم وجود قرار لبناني بهذا الخصوص وقرار سريع وملح، لأن المسألة عدا عن تداعياتها المعروفة باتت تمس الهوية الوطنية للبنان».
وكشف في هذا السياق أنه التقى مؤخرًا السفير الفرنسي لدى لبنان هيرفيه ماغرو وبحث معه ضرورة عودة النازحين، وأن ثمّة مناطق آمنة في سوريا يمكن العودة إليها. كذلك ضرورة اقتناع الإتحاد الأوروبي بضرورة العودة وأن الدعم المعطى للنازحين في لبنان يمكن أن يتحول إليهم في المناطق التي سيقيمون فيها داخل بلادهم. ولفت إلى أن “مطلب القوات اليوم على مستويين: الطلب إلى الدول الأوروبية أن تُعلِن أن هناك مناطق آمنة داخل سوريا، سواء أكانت خاضعة للنظام أو المعارضة أو لنفوذ أجنبي. والثاني، إيقاف تمويل النازحين في لبنان، وهذا ما يشكِّل عاملًا مهمًّا يحملهم على العودة، مدفوعة بالإجراءات التنظيمية المحلية الأخرى”.
وأشار قيومجيان إلى أن “معاهدة 1959 صنّفت لبنان بأنه بلد عبور وليس بلد نزوح أو لجوء، علمًا بأن لبنان فيه اليوم أعلى مستوى نزوح نسبة إلى عدد السكان بين الدول المتلقية للنازحين مثل تركيا والأردن وألمانيا…” وذكّر بهذا الخصوص بالقوانين والخطط التي قدمها حزب القوات لكن لم يتم الأخذ بها. «أما خارجيًا ولنكن واقعيين، فللدول الخارجية مصالح وهي تتصرف بموجب مصالحها بهذا الخصوص»!
خطة أبو سليمان
تتحدث خطة الوزير كميل أبو سليمان، والتي أتت تحت عنوان: “خطة مكافحة العمالة الأجنبیة غیر الشرعیة على الاراضي اللبنانیة”، عن الأسباب الموجبة لتنظيم العمالة السورية في لبنان، ما يؤدي إلى تنظيم وضع النازحين في شكل عام. وتشتمل على الإطار القانوني الذي ینظّم العمالة الأجنبیة والسوریة في لبنان. وتستند الخطة على المرتكزات التالیة: إطلاق حملة إعلانیة وإعلامیة. إعطاء مھلة شھر للمخالفین لتسویة أوضاعھم بحسب القوانین والأنظمة. التعاون مع القطاع الخاص والإتحاد العمالي العام والنقابات. تفعیل العمل الإداري وجھاز التفتیش في وزارة العمل. إنشاء غرفة عملیّات مشتركة بین وزارة العمل وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة لمواكبة ومؤازرة مفتشي وزارة العمل خلال مھمّتھم. التعاون مع البلدیات والمحافظین، والتعاون والتنسیق مع كافة الوزارات التي لدیھا أجھزة تفتیش. والتعاون مع وزارة الشؤون الإجتماعیّة. وأشارت الخطة إلى القرارات المطلوب إتّخاذھا من مجلس الوزراء.
وبما يخص العمالة السوریّة، اعتبرت أن لبنان يعاني من أزمة حادّة في العمالة الأجنبیّة وخاصّة السوریّة، وقد تفاقمت هذه الأزمة بعد تدفق النازحين السوريين. ونتيجة لهذا النزوح أصبح مئات الآلاف من العمال السوريين من ذوي المهارة والكفاءة ينافسون العمال اللبنانيين في مختلف القطاعات، ولم يعد يقتصر وجودهم فقط على الأعمال الزارعیّة والبناء كما كان الحال قبل الحرب السوریّة. فأصبحت بذلك العمالة السورية موجودة في الفنادق والمطاعم وفي خدمات الإستقبال والإدارة والمستشفیات والصیدلیّات والمھن الخاصة بالكھرباء والتجارة والخیاطة وغیرھا. بالإضافة إلى ذلك انتقلت مؤسسات بأسمائها التجارية إلى العمل على الأراضي اللبنانية. حتى أن أسواقًا انتقلت بأسمائها إلى كسوق الحميدية. بالإضافة إلى آلاف المحلات غير الشرعية التي يملكها أو يديرها سوريون.
ورأت الخطة أن الإشكالية الكبيرة هي أن اللبنانيين لا يعملون بشروط العمل نفسها التي يقبل بها السوريون أكان لناحية دوام العمل أو الأجر، فضلا عن رغبة أصحاب العمل في الربح السريع وعدم تحمل أعباء اشتراكات الضمان، وغياب شبه تام لإدارات الدولة في التنسيق في ما بينها. مما أدى إلى فوضى التوظيف وفلتان في سوق العمل.
وباستثناء بنود قانون العمل المرعية بما يخص العمالة الأجنبية، يخضع العامل السوري إلى المرسوم 17561 تاريخ 18 أيلول العام 1964 الذي يفرض على العمال الأجانب الحصول على إجازة عمل من وزارة العمل.
ھذا فیما یخصّ فئة العمّال الذین یرتبطون بصاحب عمل معیّن بموجب عقد عمل والذین یستطیعون الحصول على إجازة عمل. وتبقى فئة العمّال الذین لا یرتبطون بصاحب عمل معیّن وبالتالي لا یوقّع فیھا العامل عقد عمل مع صاحب العمل.
ويقول مسؤول في وزارة العمل رافق عن كثب تلك الفترة، إن الوزارة وخلال تولّي الوزير أبو سليمان حقيبتها، طلبت من الوزارات الأخرى المختصة مؤازرة مفتشيها، لكن أيًّا منها لم يتجاوب. وكشف أنه كان لدى وزارة العمل يومها عشرون مفتشًا وهذا طبعًا غير كافٍ لتنفيذ أي خطة بهذا الحجم. وعلى الرغم من ذلك أخذت وزارة العمل على عاتقها ضبط العمالة السورية، ونجحت في العديد من المهمات. أما مسألة إعادة النازحين فتتطلب قرارًا أعلى أولًا، وثم توافقًا لبنانيًا وتعاونًا مؤسساتيًّا، وبعد كل ذلك تسهيلًا من المجتمع الدولي ومن النظام السوري نفسه. لكن بحسب تجربتنا في الوزارة يمكن البدء، بل يجب البدء من مكان ما والسير قدمًا بالموضوع، وثمّة عقبات كثيرة يمكن تذليلها إذا توفّرت الإرادة والقرار.
تعويل محلي ودولي
ثمّة من يقول إن أزمات لبنان قائمة ومتشعّبة قبل النزوح السوري وستستمر بعده، وهذا صحيح. لكن صحّة ذلك لا تُبرِّر في أي حال استمرار النزوح، ولا تُعفي الدولة من القيام بواجبها لإعادة التماسك الوطني ما أمكن، وحماية المجتمع، وتنشيط الاقتصاد. وكل هذه الأهداف البديهية أصلًا والملحّة حاليًّا، تتطلب قرارات سيادية تبدأ بإمساك الدولة بزمام المبادرة وتنتهي بتنفيذ قراراتها وحماية حدودها مهما كلف الأمر. وهو لا يكلّف أكثر من قرار وطني، والباقي ثمّة مِنَ القوى الأمنية من هو جاهز لتنفيذه.
فالسوريون في لبنان ينقسمون إلى فئتين: أولها اللاجئون الذين هربوا من بلدهم بسبب الاضطهاد الذي تعرضوا له من قبل النظام. والثانية من جاؤوا إلى لبنان بحثًا عن فرص اقتصادية أفضل وللاستفادة من المساعدات التي تقدمها المنظمات الدولية. وهنا لا بد من الإضاءة على العقبات التي تواجه مطالبة لبنان بإعادة النازحين وهي متمحورة حول ثلاثة اتجاهات:
دوليًا: يطالب لبنان بإعادة اللاجئين إلى بلادهم أو مدّه بالمساعدات. وهذه المطالبة لم تلقَ حتى الآن صدى إيجابيًا لدى المجتمع الدولي.
حكوميًا: فشل مساعي حكومة تصريف الأعمال في إرسال وفد وزاري إلى دمشق للتفاهم مع الدولة السورية، نتيجة الخلافات داخل الحكومة، وكون هذا المسعى ستستفيد منه دمشق من غير إعطاء لبنان ما يريد.
حدوديًا: يبدو ممنوعًا على الجيش اللبناني بسط كامل سيطرته على المعابر البرية غير الشرعية. والموانع معروفة.
بعدما وصل عبء النزوح إلى الإتحاد الأوروبي نفسه، عرض الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس خلال زيارته الرسمية إلى بيروت مؤخرًا أن تقوم قبرص بمسعى لدى الاتحاد الأوروبي لوضع ما أسماه بـ”إطار عملي” مع لبنان على غرار ما حصل بين الاتحاد وكل من مصر وتونس. وهذا ما من شأنه أن يمنح لبنان المزيد من المساعدات الضرورية وإعطاء النازحين السوريين حوافز للعودة إلى بلادهم.
يعوّل لبنان اليوم على مثل هذا المسعى وعلى مؤتمر بروكسل على أمل إمكانية التعديل في مقاربة هذه القضية لجهة عدّ بعض المناطق في سوريا آمنة ومن الممكن أن تستقبل النازحين. فيما يعوّل اللبنانيون على دولتهم وينتظرون منها، على رغم تلاشيها، أن تأخذ المبادرة وتعتمد الطرق السليمة لا الملتوية والمباشرة بحل هذه الأزمة قبل أن تتفاعل أكثر وتنفجر إلى أزمات خارجة جميعها عن السيطرة.
“المسيرة” ـ العدد 1752
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]