ما أوسع الهوّة السحيقة، عندنا، بين ما يتحفنا به الزّاهدون بالصّدق، من خطابات ونظريات، وبين تطبيقاتهم الهجينة لها.
إنّ الصّدق كان، ولمّا يزل، رأس الهرم القيميّ عند الإنسان، بمعنى أنّ انتهاكه يصنّف المنتهك مشلول التفكير ومعدوم الإنتاج الخلقي. من هنا، فإنّ الممارسة المرضية لبعض الضفادع المتورّمين في العمل السياسي، هي تعسّف أرعن للصدق، وقمعٌ للشفافية، واعتداء سافر على مفهوم المصداقية. فالانتفاخ الصارخ للذين يلقون على أنفسهم ألقابًا لسنا ندري من أين فاضت عليهم، ليس سوى برنامج للزّور، ولوثة خطيرة لا تؤدّي إلا الى نتائج وخيمة وعيوب تعود على الوطن بالسّوء. وإذا كان المتوارون خلف إصبعهم يظنّون بأنّ الناس قطعان مستباحة بالسّذاجة والغباء، فهم واهمون، لأن الناس، وبخاصة الذين يميّزون الباطل من الحقّ، قد استيقظوا وباتوا يعرفون قماشة النصّابين، فالشّيطان يبقى سليل الأبالسة مهما بدّل شكله.
إنّ الأهازيج النارية التي أتحفنا بها هؤلاء، ولا يزالون من على الشّاشات الصّفراء، كشفت عن وباء الاستبداد والاستئثار والكذب والنرجسيّة، بحيث تبخرت مع هذه وعودهم بالتنوير والتغيير. فالمحاولات البهلوانية في السياسة، لجماعة المتلوّنين، مهما كانت مموهة، سوف تؤدّي حتمًا الى سقوطهم المدوّي، لأنّها ليست، في الحقيقة، إلّا براويز مخلّعة تحمل صورة فاجرة لواقع قبيح، وهو الانقلاب السّافر على الوطن، كيانًا وأمنًا واقتصادًا… وذلك بإعطاء جرعة شنيعة للحساسيات والرواسب الحقديّة، ما يدفع الى استنتاج كم حظّنا، وحظّ لبنان، بهؤلاء منكود…
إن المداهنة الرخيصة في أعلى مستواها، هي طعن لشبكة العلاقات مع النّاس والتوجّه اليهم بصدق. من هنا، فهذا الصدق، مع المداهنين النرسيسيّين، ليس سوى مجرد يافطة أو شعار فارغ، انطلاقًا من أدائهم القائم على عقلية الإلغاء والتميّز والأحاديّة. وهذا الأمر لم يعد مستغربًا، فالتجارب المتعاقبة العقيمة والمنكرة تثبت بما لا يحتمل الشكّ، أنّ النّهج الملتوي لهؤلاء الدجّالين، والذي يحمل في داخله خلفيّات سفيهة، كان ولا يزال الذهنية المرضيّة التي تسود في طباعهم، ما رسخ في مزاجهم فطرة وداع الاستقامة الى غير رجعة.
وإذا ارتفع الصوت بالملامة والتشكيك، وأحيانًا بالتسفيه والاتهام، لهؤلاء المتكسّبين الدونيّين، فلأنّ أداءهم الهجين أجهض ما وعدوا به من قيامة مرجوّة، بممارسات ومواقف نسفت قاعدة ارتكاز تحقّق الأفضل. وقد أدّت لامبالاتهم المقصودة وانحرافهم عن الأهداف الموهومة، لانزلاقهم الى مجالات الصّفقات المشبوهة وميادين النهب، وفي ذلك خيبة صارخة لما كان يترجّاه منهم المجتمع الذي غرروا به. إنّ روّاد الالتواء والتضليل الذين أعادوا جوّ التوتّر المنبوذ، حاولوا التنصّل من مسؤوليتهم الأكيدة برميها على الآخرين، كما يفعل الجلاّد مع ضحاياه، وبتبرير أعْور لا يقوم مقام حجّة، مفاده أنّ “هُم” قاموا بتعطيل مساعيهم للشّغل والإصلاح. هذا الواقع أدّى، برأيهم الأعوج، الى فشلٍ اقْتيدوا إليه بالرغم منهم، فكان أن دفّع الوطن ثمنًا باهظًا على مستوى الاستقرار والتقدّم ومكافحة الفساد وتطوير الدولة. كان البعض، ولوهلة من الزمن، يعزف على أوتار التّصديق، لكنّ الوقائع الحسيّة أثبتت أنّ التصديق تنطبق عليه نظريّة الأطلال، نقف أمامه نبكي ونسْتبكي، ولكن من دون نتيجة. وأكثر ما يشبه التصديق، ظنّ البعض بأنّ السّراب حقيقة، يركض خلفه عطشانًا، ساعيًا الى الماء، فلا يجد نفسه إلّا أمام رمْل كاذب.
في المحصّلة، يا لمغسولي الجماجم من سذّج، وقد اقتنعوا بأنّ المداهن الكذّاب سوف يتبدّل ويبادر بالصّدق، وكأنهم لا يعلمون أنّ فاقد الشيء لا يعطيه.