مع مواراة جثمان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الثرى اليوم في مسقطه مدينة مشهد، تُطوى صفحة من الجمهورية الإسلامية بدون أن تطوي معها أسرار مقتله. لم يحمل رئيسي سره معه ويرحل، بل تركه يتفاعل تحت الأسئلة الثقيلة والشكوك المتلاطمة ما بين دور إسرائيلي وتصفية داخلية في الصراع على خلافة المرشد علي خامنئي، فيما دور الضباب والعاصفة في تحطّم طائرته يزيد الحقيقة ضبابيّةً وغموضاً.
رؤساء دول كثيرة رحلوا في حوادث جوّية أو أرضية أو بحرية، وظلّ رحيل معظمهم طيَّ التأويل والتحليل، ولم يستقرّ التحقيق في مصرعهم على حقيقة دامغة وثابتة.
ولا يختلف رحيل الرئيس رئيسي عن سواه في هذا المجال، غير أنه يتميّز بأنه حصل في غمرة الانغماس الإيراني في صراعات إقليمية ودولية مصيرية، وفي تجاذبات داخلية شديدة. وهذه الصراعات والتجاذبات مفتوحة على تغيير كبير لا يشمل فقط موازين النفوذ والخرائط والأدوار، بل يدقّ أبواب الأنظمة والعقائد وأسس قيام بعض الدول.
بالنسبة إلى النظام الديني الإيراني ومتشدّديه، كما بالنسبة إلى أذرعه في المنطقة العربية ومريديه، هو نظام فولاذي مُحكَم الاغلاق لا يهزّه حدث داخلي أو خارجي مهما بلغت قسوته وخطورته، ويستدلّون على ذلك بالاختبارات الصعبة التي عاشها، منذ حرب صدّام حسين عليه في ثمانينات القرن المنصرم، مروراً باختبار الاتفاق النووي وانهياره وقسوة العقوبات والانتفاضات الشعبية الداخلية، وبحروب لبنان وسوريا والعراق واليمن، وصولاً إلى حرب غزة وانخراطه المباشر فيها ولو بالصواريخ والمسيّرات ضد إسرائيل.
هذا الثبات في وجه الصعوبات والمخاطر يُطمئن النظام الإيراني وحلفاءه حول مصيره، إلى درجة التخفيف والتهوين لوقع الكارثة بمقتل رئيس الجمهورية ووزير الخارجية ومسؤولين آخرين كبار، وكأنه حادث عرضي رغم خطورته، تعود بعده حياة النظام إلى سياقها المرسوم بملء الفراغ وفقاً للدستور، ثمّ إجراء الانتخابات ضمن مهلة الخمسين يوماً المقررة.
لكنّ هذا الاطمئنان يبقى ضمن إطار ردة الفعل العاطفية والثقة العمياء أكثر ممّا هو قائم على معطيات سياسية وعلمية ثابتة.
فلا شكّ أن الحدث في حدّ ذاته، إذا كان من باب القضاء والقدر ومسؤولية الطقس العاصف، كشف جانباً من هشاشة النظام الأمني العسكري الإداري، ما استدعى تدخّلاً تركياً بتقنيات أميركية للمساعدة في تحديد مصير المروحيّة المنكوبة، وهي للمفارقة أميركية الصنع أيضاً.
ويؤكّد هذه الهشاشة وزير الخارجية السابق محمّد جواد ظريف في تحميله المسؤولية للعقوبات الأميركية التي حجبت قطع الغيار عن الطائرات. فالسؤال هنا: كيف يتباهى النظام بصناعاته العسكرية المتطورة، والصواريخ البالستية العابرة للدول، والتقنية الدقيقة على عتبة إنتاج القنبلة النووية، وهو لا يزال يعتمد على طوّافات أميركية متقادمة ومتهالكة يزيد تاريخ صنعها إلى أكثر من ستين عاماً؟
وهنا تُعيدني الذاكرة إلى العام 1996، حين لبّينا كمجموعة إعلامية وثقافية دعوة كريمة لزيارة إيران، وكيف نقلتنا طائرة شحن عسكرية من طهران إلى أصفهان ومشهد، في رحلات جوّية ذهاباً وإياباُ محفوفة بالقلق والخطر، وكأننا ثلّة من “الحرس الثوري”. ولكن، ما بين 1996 و2024 ثمانية وعشرون عاماً كفيلة بتحقيق نقلة هائلة في تطوّر الطيران المدني والعسكري لتفادي كارثة كالتي حصلت.
وإذا لم يكن تحطّم الطوّافة نتيجة القضاء والقدر والضباب والنقص في قطع الغيار، بل بفعل فاعلٍ ما، إسرائيلي أو أميركي وبمشاركة أذربيجانية وفق بعض الشروح والإشارات، فسيكون للحدث بعدٌ آخر يؤدّي إلى تأجيج الصراع الإقليمي والدولي، ويُعيد خطر المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب بعدما نجحت واشنطن في احتواء تجربة الصدام الأول قبل شهرين.
وهل تتجاسر إيران في حال ثبوت المسؤولية الإسرائيلية على خوض مغامرة حربيّة غير مأمونة العواقب بعد انكشاف هشاشتها العسكرية على الأقل في مجال طوارئ الإنقاذ والإغاثة ولوجستيات الحرب، أو تكتفي بردّ استعراضي كما فعلت بعد مقتل اللواء قاسم سليماني وتدمير قنصليتها في دمشق؟
في هذه الحال، يمكن استحضار تجربة تفجير مرفأ بيروت حيث يُمنع التحقيق من تحديد المسؤوليات وكشف الحقيقة منذ قرابة ٤ سنوات، فلا مصلحة لإسرائيل في تبنّي قصف النيترات، ولا مصلحة ل”حزب الله” في الاعتراف بتجميعها. وليس مستبعداً تكرار السيناريو نفسه بين طهران وتل أبيب بالصمت المتبادل حول إسقاط مروحية رئيسي.
وتلقى الفرضية الثالثة التي تتقاطع عندها معطيات وقرائن وتحليلات كثيرة، وهي ربط تفجير الطوّافة بالصراع الإيراني الداخلي على السلطة، خصوصاً حول خلافة المرشد الأعلى ما بين نجله مجتبى خامنئي والضحية إبراهيم رئيسي.
في هذه الحال، ليست هي الضحية الأولى ولا الأخيرة، ففي الأنظمة المقفلة، وحتى أحياناً في الأنظمة المفتوحة، يكون شبَق الاستيلاء على الحكم ضريراً إلى حدّ الجريمة وتصفية الخصم المنافس.
وأيّاً تكن خلفية انتهاء مرحلة رئيسي، مصادفةً أو تخطيطاً، فإن مرحلة جديدة بدأت في الجمهورية الإسلامية الإيرانية محفوفة بالمفاجآت، من بينها العودة إلى التحرك الشعبي دفاعاً عن الحريات وفي طليعتها حرية المرأة والحرية السياسية، واحتدام الصراع بين متشدّدين وإصلاحيين، وداخل صفوف المتشدّدين أنفسهم.
والمنطق السياسي يقول بأن جمهورية الآيات والملالي، بعد ٤٥ سنة من تجارب مريرة، بما فيها من نجاحات وإخفاقات، لم تعد قادرة على إكمال المسار نفسه، فالداخل يتوق للتحرر من القمقم، والمجتع الدولي يدعوها إلى المصالحة معه، والإقليم من حولها يريد الاستقرار والمعاصرة بعد الحروب المزمنة، ويبحث عن “يومه التالي”، خصوصاً فلسطين والعرب وإسرائيل، ولا بدّ لها من الانخراط في حركة تجديد نفسها مع هذا الإقليم، كي تدخل مخاض التغيير، وتخرج من نفقها الطويل وعزلتها الدولية إلى “يومها التالي” المختلف.