لا التاريخ ولا الجغرافية ولا الدستور اللبناني ولا القانون الدولي ولا إرادة اللبنانيين بأكثريتهم الساحقة تقول بأي حق لسوريا في لبنان، بما يتجاوز علاقات الأخوة والجيرة في إطار جامعة الدول العربية. وعدا ذلك يندرج في إطار التعدي والافتئات على السيادة اللبنانية، وعلى مبدأ الأخوة بحد ذاته. ولذلك إن مقاربة مسألة النزوح السوري غير الشرعي لا تحتمل التأويل ولا تبرير هذا النزوح الذي سقطت معظم مبرراته من زمان.
لقد سلّم اللبنانيون، بل حسموا خيارهم بنهائية الكيان اللبناني في اتفاق الطائف وثبتوا هذا الخيار دستوريًا في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وثبتوه سياسيًا وشعبيًا مع انتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005. أما في ما خص المعاهدة المسمّاة معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق، فهي في الأصل وُلدت مشوّهة وتعاني خللاً بنيويًا لأنها تمّت بين بلد وصي بل محتل وبلد يخضع لوصاية النظام الأمني المشترك، وهي معاهدة في أي حال لا ترتب أي حقوق استثنائية للبناني في سوريا أو للسوري في لبنان.
وإذا كان حزب البعث الحاكم في سوريا يعتبر أن لبنان مجرد إقليم تابع للقُطر السوري، فيما يعتبر الحزب السوري القومي الاجتماعي أن لبنان جزء من سوريا الكبرى وليس كياناً أو دولة مستقلة، فإن هاتين المقولتين سقطتا من زمان، كما ستسقط مقولة لبنان جزء من محور الممانعة ويمثل الحدود الغربية للإمبراطورية الفارسية الجديدة في ظل عباءة الولي الفقيه.
وانطلاقًا مما تقدم، فإن التعاطي مع النزوح السوري غير الشرعي كمسألة تحتاج إلى حل يحترم الدولة اللبنانية ودستورها وحقوق الشعب اللبناني، هو بمنزلة الواجب للحفاظ على ما تبقى من وطن ومن دولة ومن قانون. وللكنيسة ولا سيما المارونية كلمتها في هذا المقام، من خلال ما عبّر ويعبّر عنه سيد بكركي من رفض لمخاطر اللجوء السوري وتداعيات إهمال معالجته بشكل حازم وسليم، إذ اعتبر أن “بعض اللاجئين السوريين هو الذي يتصرف بشكل لا إنساني، فيما بات النازحون يشكلون خطرًا على اللبنانيين في عقر دارهم، ومن الملّح إيجاد حل نهائي لضبط وجودهم، لأن لبنان الرازح تحت أزماته الاقتصادية لا يتحمّل إضافة أعباء ما يعادل نصف سكانه”م، كما قال في جنازة الشهيد باسكال سليمان.
بل إن البطريرك مار بشارة بطرس الراعي طالب المسؤولين اللبنانيين بعدم الرضوخ للضغوط الدولية والأوروبية وأساليبها المغرية، بهدف تجنّب عودة النازحين السوريين إلى بلادهم وإبقائهم في لبنان لأهداف سياسية.
إن موقف الكنيسة لا يمكن إلا أن يكون وفق ما أعلنه البطريرك الماروني، لأن بكركي هي المعنية الأبرز بالحفاظ على لبنان الوطن والدولة، وهي التي كان سيدها وراء ولادة لبنان الحديث، بما نمثله من توازنات وشراكة فعلية تتخطى الأعداد والأرقام، فكم بالحري عندما يجد اللبنانيون في ما بينهم نحو مليوني نازح، أي ما يعادل نصف اللبنانيين من المقيمين بالإضافة إلى مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين.
ولذلك إن الخطر الداهم اليوم هو على لبنان في علّة وجوده، وتاليًّا إن أي خلل في بنيته وتركيبته الحساسة بالنسبة للنازحين، لا سيما من باب التوطين المقنّع وافتعال حالة من التفلّت القانوني والولادات غير المسجلة لفرض أمر واقع، يعني نهاية لبنان وتحوّله إلى ريف لريف دمشق، وجزءًا من المشروع الإيراني التوسعي. وإلا ما معنى محاولات “الحزب” التحريض وافتعال الفتنة وخصوصًا بين المسيحيين والسوريين إلا بخلفية استجرار فتنة مسيحية سنية تريحه وتشيح بالأنظار عن قضية سلاحه وما يعنيه من دويلة تستقوي على الدولة.
عندما سعى البطريرك الحويك إلى لبنان الكبير، عبر المطالبة باستعادة عدد من الأقضية والمناطق الشمالية والبقاعية والجنوبية إلى الحضن اللبناني، فقد تماهى في ذلك مع الحدود التاريخية للبنان، الذي مثل دائمًا كياناً متمايزًا ولو بأشكال مختلفة، من كونفدرالية المدن الفينيقية إلى خصوصية الجبل مع الفتح العربي، والنزاع المرير بين المماليك واللبنانيين، وصولاً إلى تبلور الإمارة ومن ثم نظام المتصرفية، لحل مسلسل النزاعات الطويلة والدامية في انتظار الوصول الى الاستقلال الناجز.
ولذلك، إن أي محاولة للعب على أوتار العواطف والتلاعب بالمعطيات التاريخية والقانونية والموضوعية لتبرير استمرار النزوح السوري غير الشرعي، لا يمكن التسليم بها، ولا يسع بكركي إلا أن تتصدى لها بالوسائل الشرعية والمشروعة مع جميع اللبنانيين السياديين وعلى رأسهم “القوات اللبنانية” التي تجد الكنيسة فيها القوة الدافعة ورأس الحربة في منع تحوّل لبنان إلى ما يناقض المقولة الشهيرة: لبنان للبنانيين وسوريا للسوريين، والتي يسعون إلى استبدالها بمعادلة لبنان للبنانيين والسوريين، وسوريا لمن بقي فيها من السوريين!
أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة
“المسيرة” ـ العدد 1753
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]