لا بدّ بداية من توضيح بعض المفاهيم التي تحتاج إلى تدقيق: هناك من يعتبر أن دور القوى المحلية ثانوي وهامشي، وفي المقابل ثمة من يعتبر بأن هذه القوى قادرة على صناعة المعجزات، وهناك من يعتبر أيضا أن القوى الخارجية وحدها صاحبة الحل والربط مقابل من يعتبرها غير مؤثرة ولا يجب الإكتراث لدورها.
لماذا هذه المقدمة السريعة؟ لأن التشخيص الخاطئ يقود إلى نتائج كارثية. ولا نتحدّث طبعًا عن الإستثناءات، إنما عن القاعدة كونه في التاريخ هناك دائماً إستثناءات، والقاعدة تقول بأن القوى المحلية هي أساس أي تغيير كونها تعمل على تهيئة الأرضية لهذا التغيير، ولكنها بحاجة دائمًا لعوامل خارجية من أجل أن تتمكّن من تحقيق أهدافها، خصوصًا متى كان طابع النزاع إقليميًا.
فالقاعدة الجوهرية إذاً هي التقاطع بين الداخل والخارج، لأن الرهان على العضلات المحلية حصرًا خاطئ، والرهان على العصا السحرية الخارجية حصرًا مضرّ جدًا، فعدا عن كونه خاطئ، يجعل الناس تستقيل من دورها ونضالها وواجباتها.
فالحلول الجذرية إذاً بحاجة لتقاطع بين الداخل والخارج، وهذا يستدعي من القوى المحلية الجهوزية الدائمة بانتظار تحوّلات خارجية لا بد آتية، كون الأحداث في العالم متحرّكة لا جامدة، والجهوزية تعني تحصين الداخل من خلال تنظيمه وتعبئته ووضع القوى الخارجية في صورة الخلل في الأوضاع الداخلية.
وأصحاب نظرية أن مفتاح الحلّ في الخارج لا الداخل، لا يأخذون في الإعتبار أنه لدى حصول التحوّلات الكبرى تتعامل القوى الدولية مع الوقائع على أرض الواقع، بمعنى أنه في حال لم يكن هناك من قوى محلية جاهزة لملاقاة هذه التحوّلات، فإنها قد تعبر من دون أن تحدث التغيير الداخلي المطلوب.
وأصحاب نظرية أن مفتاح الحلّ في الداخل لا الخارج يقودون مجتمعاتهم إلى الإنتحار ظناً منهم أنهم قادرون على إحداث التغيير بقدراتهم الذاتية، وهذا ما حدث مثلاً في العام 1989 عندما أعلن العماد ميشال عون “حرب التحرير”، فأسقط الستاتيكو والخطوط الحمر وخلط الأوراق وحرّك العالم لوقف الحرب فولِد إتفاق الطائف، ولم يكتفِ بهذا القدر، إنما عندما لمس بأن هذا الإتفاق لن يأتي به رئيسًا اندفع إلى الأمام بشنّه “حرب الإلغاء” ظناً منه أن هذه الحرب قد تقود إلى خلط الأوراق لمصلحته، فاستفاد النظام السوري من الحربين وجاءته ورقة لوتو إسمها غزو صدام حسين للكويت ليصبح الملف اللبناني على الرف ويتيح له الإستئثار بالوضع في لبنان.
ولا شك أن السنوات المقبلة ستكشف المزيد من أسرار وخفايا “حرب تحرير”. فهي سلّمت القرار السياسي في لبنان لمحور الممانعة، ولكن بمعزل عن ذلك فإن قائد “القوات اللبنانية” آنذاك سمير جعجع كان يعتمد سياسة الحفاظ على الستاتيكو القائم بانتظار أن تندفع القوى الدولية بحثاً عن حلول جدية للأزمة اللبنانية، وأي حلّ كان سيأخذ حكمًا في الإعتبار موازين القوى على الأرض ووجهات نظر القوى السياسية للحلول المطلوبة، وتجميد الدكتور جعجع للوضع جعل أن لا حلّ للأزمة من دون “الشرقية” القوية، كما أن لا حلّ على حسابها، ولولا “حرب التحرير” لكان التاريخ سلك بالتأكيد مسارًا مختلفا تماماً.
تخلُّص النظام السوري من “القوات اللبنانية” في تسعينات القرن الماضي لم يحصل لأسباب إنتقامية فحسب كون “القوات” حالت مرارًا دون تمكينه من السيطرة المطلقة على لبنان، إنما لكون هذا النظام يدرك تماماً معنى وجود قوة محلية قادرة في لحظة تحوّلات كبرى على التقاطع معها لما فيه مصلحة لبنان وسيادته واستقلاله، وهذا المعطى الأساس الذي دفعه إلى إلغاء “القوات” سياسيًا، لأن العقل الممانع يفهم جيدًا خطورة وجود قوة محلية وازنة معارضة لوجوده في لبنان.
فأخطاء الإدارة السورية للبنان معطوفاً عليها التحوّلات التي بدأت مع خروج الجيش الإسرائيلي وموت حافظ الأسد وبيان مجلس المطارنة الموارنة المطالب بخروج الجيش السوري وتشكيل لقاء “قرنة شهوان” ومصالحة الجبل وأحداث 11 أيلول 2001 وما تلاها من إسقاط واشنطن لنظامي طالبان في أفغانستان وصدام في العراق ولقاء النورماندي بين الرئيسين جورج بوش وجاك شيراك وولادة القرار 1559 وتوسّع المعارضة من مسيحية إلى وطنية مع لقاءات البريستول واغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبالتالي رزمة أحداث تحصل غالبًا في قرن حصلت في خمس سنوات أدت إلى إخراج جيش الأسد من لبنان.
ولكن ما يجب التنبُّه إليه أنه لولا الرعاية المباشرة للبطريرك نصرالله صفير للقاء “قرنة شهوان” كقوة محلية شكلت رافعة وطنية في مواجهة الإحتلال السوري، لما كان استفاد لبنان، ربما، من دينامية خروج الجيش الإسرائيلي ومن ثم أحداث 11 أيلول الأميركية، وبالتالي كانت توقفت التحوّلات عند الحدود اللبنانية، وهذا أمر طبيعي لأنه لماذا على الدول أن تهتم بوضع معيّن إذا لم يكن هناك من شكوى وقوى مؤثرة تدفع باتجاه التغيير.
فالنظام السوري الذي ألغى “القوات اللبنانية” للتخلُّص من قوة سياسية قادرة على التقاطع مع تحوّلات خارجية تصبّ في مصلحة القضية اللبنانية، عاد واصطدم بلقاء “قرنة شهوان” كقوة محلية تحظى برعاية بطريركية مهدّت المناخات اللبنانية بانتظار التحوّلات الخارجية، والجذور الأساسية لهذا اللقاء بدأت مع إعتقال الدكتور سمير جعجع وثباته على موقفه ومواصلة “القوات” لنضالها السياسي الذي أوصل الجميع إلى قناعة بأن الهدف من إزاحة “القوات” السيطرة الكاملة على لبنان.
والعبرة الأساسية من محطتي وضع النظام السوري يده على لبنان وخروج جيشه من لبنان أن القوة المحرِّكة بالإتجاهين هي محلية، فلولا “حرب التحرير” لكانت بقيت المنطقة الحرة، ولولا البطريرك صفير لما استفاد لبنان من الخروج الإسرائيلي وأحداث 11 أيلول الأميركية. أما عناصر الشبه بين اليوم والأمس فتتمثّل بالتالي:
أولاً، قوة فلسطينية محلية إسمها “حماس” حركّت العالم بعمليتها في 7 أوكتوبر، وردّ الفعل الإسرائيلي عليها، وقد أفضت هذه العملية إلى رسوخ قناعة إسرائيلية بأن وجودها مهدّد طالما أن إيران موجودة.
ثانيًا، دخول “الحزب” في اليوم التالي لعملية “حماس” على خط الحرب أدخل لبنان في صلب هذا الصراع، ما يعني أن أي حل للقضية الفلسطينية يجب بالضرورة أن يشمل لبنان كون أدوات الصراع هي نفسها.
ثالثاً، الشغور الرئاسي في لبنان ووجود قوة محلية وازنة إسمها “القوات اللبنانية” تشكّل العمود الفقري لمعارضة نيابية سيادية منع الفريق الممانع ويمنعه من انتخاب مرشحه.
رابعًا، ميزان القوى السياسي اليوم شبيه، مع إختلاف المرحلة، بميزان القوى في العام 1989، والتحدّي الأكبر يكمن في الحفاظ على الستاتيكو السلبي الحالي بعيدًا عن دخول أي لاعب يقود إلى دعسة ناقصة يخدم فيها الفريق الممانع، لأن المطلوب الحفاظ على هذا التوازن بانتظار لحظة الحلّ الدولية إن للأزمة الرئاسية أو الوطنية.
ولو لم تنوجد هذه القوة المحلية، أي “القوات اللبنانية”، بحيثيتها وصلابتها وبتعاونها مع قوى أخرى من الطينة نفسها لكانت نجحت الممانعة في وضع يدها على رئاسة الجمهورية وتحييد لبنان عن أي حلّ إقليمي، وهنا بالذات تكمن أهمية دور القوى المحلية التي تمنع أولاً الفريق الخصم من وضع يده على الدولة، وتُبقي ثانيًا الستاتيكو على حاله بانتظار تحوّلات خارجية تجعل لبنان في صلبها وليس في منأى عنها.
ولو لم تكن “القوات” هي العمود الفقري للمعارضة السيادية وعملت على تجميد الوضع الرئاسي رفضًا لأية تنازلات بالشراكة مع حلفاء لديهم القناعات نفسها، لكان انوجد من يتنازل للممانعة تحت عناوين مختلفة على غرار محطات كثيرة منذ العام 2005، ولكانت نجحت الممانعة في انتخاب مرشحها وتحييد لبنان عن الحل الفعلي المطلوب بشقيه الإنتظام والتركيبة، فيما قطع الطريق على التنازلات يجعل لبنان اليوم أمام فرصة حقيقية حدها الأدنى انتخاب رئيس للجمهورية يتمتع بخلفية سيادية وإصلاحية وإعادة تشكيل المؤسسات بطريقة مختلفة وأدوار مختلفة، وحدّها الأقصى إعادة النظر بالتركيبة اللبنانية في ظل قناعة واسعة بأن هذه التركيبة لم تعد صالحة ولا شغّالة، ومع عدم جواز إسقاط إحتمال الوصول إلى الحدّين معًا.
شارل جبور ـ رئيس جهاز الإعلام والتواصل في “القوات اللبنانية”
“المسيرة” ـ العدد 1753
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]