هي ثلاثية الرحابنة السينمائية الخالدة، لكم مرة شاهدناها، وكل مرة لكأنها أول مرة، بكل ذاك الشغف والحنين.. لكم مرة حلمنا لو أمكننا اختراق تلك الشاشة لنسكن سحر ضيعة “بياع الخواتم”، لنكون جزءًا من مقاومة “سفربرلك”، لنشارك “بنت الحارس” شيطنتها وابتزازها للفاسدين.. هي سينما الرحابنة وفيروز، ثلاثة أفلام أُنجزت في أقلّ من أربعة أعوام، عن لبنان آخر على هذه الأرض، غرسوه في أحلامنا، في صميمنا، صنعوا مجدًا وحلمًا وفرحًا لا يبارحنا، وحنينًا وحزنًا أبديين..
نعم كان لنا وللبنان سينما الأخوين رحباني وفيروز، حكاية عزّ وعهد ذهبي، ونجوم صارت لنا اليوم لكأنها أساطير من نسج الخيال. ومع مرور 38 عامًا على رحيل ذاك المبدع الكبير عاصي الرحباني، نسأل: ماذا بقي من ثلاثية الرحابنة السينمائية تلك؟ ماذا بقي من “قصة مش صحيحة”، من “ضيعة مش موجودة”، تتمرجح بين الواقع والحلم، بين الحكاية والكذبة.. وتسحرنا.
كان ذلك في منتصف ستينات القرن الماضي حين أطلّ الأخوان عاصي ومنصور الرحباني وفيروز على جمهورهم العريض لأول مرة على الشاشة الفضية. تقول الحكاية إنه مطلع العام 1965، جاء من يلفت انتباه الرحابنة، هو رجل الأعمال اللبناني من أصل سوري رجا الشوربجي، فأقنعهما بتحويل إحدى مسرحياتهما إلى فيلم سينمائي. ويروي الراحل الكبير منصور الرحباني عن ولادة هذه الفكرة في مذكراته: “ذات يوم في جلسة خاصة مع صديق العمر رجا الشوربجي قال: لماذا لا تلجون ميدان السينما، عندكم كل مقوّمات العمل الناجح: البطلة، التلحين، السيناريو، والفرقة الشعبية جاهزة. لماذا لا تأخذون إحدى مسرحياتكم وجميعها ناجحة وأحبها الجمهور، فتحوّلونها الى فيلم سينمائي”؟.
“شرقطت” الفكرة في رأس عاصي، فاقتنع… وعلى هذا “عقدنا في المكتب جلسة مع مستشارنا كامل التلمساني وهو مخرج طليعي ورسام مصري غادر مصر لأسباب سياسية فبات مستشار مكتبنا… وتحمَّس كامل لفكرة دخولنا عالم السينما، وتحويل أحد أعمالنا المسرحية للشاشة”.
“بياع الخواتم” الى الشاشة الفضية
وقع الاختيار على مسرحية “بياع الخواتم” التي كانت عُرضت عام 1964، وبنجاح كبير في الأرز، كما في دمشق، لتحويلها إلى فيلم سينمائي. ومما يروى، أن فيلم “بياع الخواتم” كان من المفروض أن ينجزه مخرج فرنسي يُدعى برنار فاريل، لكن ظروف معيّنة حالت دون ذلك، فجرى الإتفاق بين عاصي ومنصور على إسناده ليوسف شاهين، وشاءت الصدفة السعيدة أن يكون شاهين موجودًا في بيروت حينها، بعد خروجه من القاهرة إثر نزاع مرير مع رجال الزعيم المصري جمال عبد الناصر، فاغتنم الأخوان رحباني الفرصة واجتمعا به وعرضا عليه الفكرة.
تحمَّس المخرج المصري اللبناني الأصل للعرض الرحباني والعمل مع فيروز، لتكتمل الشراكة الإنتاجية والفنية بانضمام المنتج السوري المهندس نادر الأتاسي كمموّل للفيلم.
ويروي منصور ظروف نقل مسرحية “بياع الخواتم” الى شريط سينمائي فيقول: “إتفقنا أن نبقيها كما كانت على المسرح قطعة غنائية. ووضع شاهين ميزانية العمل، فبلغت 220 ألف ليرة لبنانية (نحو 150 ألف دولار في ذلك الزمن)”.
ويضيف: “كنا عاصي وفيروز وصبري الشريف شركاء في الإنتاج مقابل أتعابنا، لكن حساب حقل يوسف شاهين لم يطابق حساب بيدر التنفيذ، فإذا بالميزانية تصل الى 600 ألف ليرة لبنانية، أي نحو 350 ألف دولار”… فكانت “الكارثة”!
إبهار وجنون.. وكاميرا شاهين تحرّك فيروز
تولّى المخرج المصري الكبير المهمّة الصعبة بتحويل الحكاية الخرافية السابحة في الحلم، إلى “صوت وصورة”، فإذا بالشارع والساحة والقهوة تنقل صورًا مبهرة تصلح للبيع صورًا تذكارية.
ومما يُروى، أن فيلم “بياع الخواتم” جاء ليحقق حلم يوسف شاهين، الذي كان يشاهد في ذلك الحين فيلمًا فرنسيًا شهيرًا، “مظلات شربورغ” (1964) لجاك ديمي الفائز بمهرجان “كان” السينمائي، جامعًا بين الإبداع اللوني وشاعرية الحوار والغناء، وهو ما كان يحلم شاهين أن يقوم به. وعليه، رفض أولا أن تُصوّر مشاهد الفيلم في قرية حقيقية، وعمد الى بناء قرية لبنانية كاملة من خشب وورق، داخل البلاتوه الضخم للاستديو العصري – في ضاحية بيروت الجنوبية، حتى أنه طلب من أحد العاملين بالديكور مشاهدة “مظلات شربورغ” ليتمكن لاحقًا من أن يلوّن له بيده كل باب ونافذة، وفق ما رواه الكاتب والناقد السينمائي إبراهيم العريس، مضيفا: “أراد شاهين بذلك الإحتفاظ بالطابعين المسرحي والشاعري للعمل من دون أي إيهام ساذج بالحقيقة… فجاء الفيلم زاخرًا بالألوان والديكورات الباهرة التي حررتها حيوية كاميرا شاهين من جوها المسرحي”.
ويتابع العريس مسهبًا في وصف أجواء تصوير “بياع الخواتم” قائلا: “على هذا النحو راحت كاميرا شاهين تنتقل بخفة من بيت الى بيت ومن مشهد الى مشهد وسط ألوان ونوافذ وملابس ملوّنة معلقة، أضْفَتْ على العمل طابع حكايات الجن، ومبعدة إياه عن الواقع الى أقصى الحدود. كما أعاد شاهين خلق العمل المعروف، مسبقًا، شكليًا، وتمكن من أن يحرّك، وسط ديكور متحرّك ومتنقل حتى الجنون، الفنانة فيروز التي كانت اعتادت أن تبدو جامدة على الخشبة مكتفية بإيصال صوتها الى جمهورها الذي كان يقبل منها أي شيء”.
وهكذا، تمكن شاهين من أن يخلق على الشاشة حياة، لا تزال ممتعة حتى اليوم حين يشاهَد الفيلم… ويضيف أنه نجح في هذا الى حد جعل الفيلم إحدى أفضل الكوميديات الموسيقية التي انتجتها السينما العربية في تاريخها، في الوقت الذي حافظ فيه على محلية التراث واللغة، واضعًا الكاميرا في خدمة هذا كله”.
في أول أدوارها السينمائية، لعبت فيروز دور ريما، إبنة أخت المختار (نصري شمس الدين) الذي يخترع كذبة يوهم أهل قريته، بوجود مجرم شرير يهدد أمنهم، مدّعيًا بطولة التصدي له، منصّبًا نفسه حاميًا للقرية ضد الخطر المحدق بها… لكن الكذبة تنكشف، ويظهر “راجح” الكذبة ليتبيّن أنه “بياع الخواتم”، الآتي على أجنحة الحب والإلفة، وليطلب “ريما” زوجة لابنه، متوّجًا الفيلم بنهاية سعيدة لقصة رومانسية حالمة… وعلى عادتهما حرص الرحبانيان على تطعيم باكورة أفلامهما بنكهة سياسية عن الخداع السياسي، محورها شخصية المختار (الحاكم) الذي تلطى وراء إختراع كذبة راجح الشرير (العدو)، ليفرض سلطته وبقاءه سيّد القرية وحاميها من دون منازع، كذبة استغلها لصا القرية ليسرقا وينهبا ويلصقا كل ما يقومان به بـ”راجح الكذبة”!
هكذا نقل شاهين إبهار مسرحية “بياع الخواتم” إلى الشاشة الفضية، ليحقق الفيلم نجاحًا فنيًا وجماليًا ساحقًا، وليشكّل علامة سينمائية فارقة، كأول عمل سينمائي لبناني غنائي استعراضي، قدمت فيروز فيه مجموعة من أجمل أغانيها، فيه وعنه كُتب الكثير، وذهب البعض الى حد المقارنة بينه وبين أهم فيلم غنائي عالمي، ألا وهو “صوت الموسيقى” لجولي أندروز.
خلافات في الكواليس.. وخسائر كارثية!
نعم كان إبداع وحدث فني كبير تمدد عرضه لأكثر من ستة أشهر داخل صالات بيروت، مجتذبًا إليه اللبنانيين من مختلف المناطق كما السياح العرب يوم كانت بيروت عاصمة دُور السينما في العالم العربي، ليجول لاحقًا وعلى مدى سنوات كل لبنان بمدنه وحتى قراه البعيدة. ومع ذلك كانت المفاجأة أن عائداته المادية كانت “كارثية” على حد قول منصور، بفعل كلفة إنتاجه التي تخطت بكثير ما كان مخططًا لها، ليُحكى الكثير لاحقًا عن توتر ساد بين شاهين والرحابنة طيلة فترة تصوير الفيلم الذي انتهى وانقطع معه حبل التعاون ما بين الطرفين الى غير رجعة.
ومما يُروى، أن كواليس التصوير عرفت الكثير من النقاشات الحامية بين الطرفين ليصرّح المخرج الكبير الراحل في أحد لقاءاته الصحافية ردًا على سؤال عن تجربته السينمائية “اليتيمة” مع الأخوين رحباني: “أنا متأكد إني ما أعرفش موسيقى زيّهم، لكني كمان متأكد إنهم ما يعرفوش سينما زيي”. ولماذا لم تتكرر التجربة السينمائية مع الرحابنة، اكتفى بالقول: “الجواب هو أننا لم نتعاون مجددًا”.
قيل يومذاك أن الأخوين رحباني كانا حريصين على دقة العمل، وكانا يتدخلان في أدق التفاصيل، ويفرضان الممثلين ويتدخلان حتى في الأداء التمثيلي، ما وتّر المخرج الكبير المتمكّن ومنعه من تنفيذ رؤيته كاملة لتنفيذ الفيلم، وعبثًا كان يطلب أن يثقا به لكي يعمل بعيدًا من الضغط، لكن ما حصل أنّ الفيلم استفاد وفق النقاد من تعدد وجهات النظر، فتشكّل من هذا الاحتكاك لمعان سينمائي انعكس إيجابًا على روح الفيلم التي تجلّى شريطًا سينمائيًا إستعراضيًا باهرًا.. وما انتهت قصة ذاك الإبداع هناك.
وكان “سفربرلك”.. أيقونة الاستقلال
استساغ الرحبانيان نجاح تجربتهما السينمائية الأولى، وعليه قررا إكمال الرحلة في عالم الفن السابع، إلا أنهما أرادا هذه المرة أن يقدما قصة مكتوبة خصيصًا للسينما، فكان “سفربرلك”، أو “المنفى”، تحفة ثلاثيتهما السينمائية، و”أيقونة الإستقلال” وفق ما أراده عاصي.
وضع كل من عاصي ومنصور القصة والسيناريو، واستعانا أولا بالمخرج الفرنسي برنار فاريل الذي جاء الى لبنان مع فريقه التقني، وأمضى أسابيع في البحث عن القرية المناسبة للتصوير. لكن، ولظروف خاصة، أوقفوا التعامل معه وعاد إلى فرنسا.
وما تأخر الأمر ليجدوا مخرجًا لفيلمهم الجديد، هو هنري بركات المخرج المصري الكبير اللبناني الأصل، الذي قصد بيروت عام 1966 هاربًا، كما زميله يوسف شاهين وكثر من فناني مصر، من سياسة التأميم التي فرضها عبد الناصر، وسعيًا وراء أمرين: الأول إستعادة جنسيته اللبنانية هو المتحدر من شتورا البقاعية، والثاني العمل مع الرحابنة وفيروز، ففاز بالأمرين معًا.. وانطلق العمل بـ”سفربرلك” عام 1966 بتمويل أيضًا من المنتج السوري نادر الأتاسي.
أول الغيث كان وضع بركات ميزانية إنتاجية للفيلم لم يتجاوزها، ليروي منصور الرحباني في مذكراته أن بركات استطاع خلافًا لزميله شاهين خفض ميزانية الفيلم المقرّرة الى حد بعيد، فلم تتخط عند انتهاء العمل به الرقم الموضوع إلا بنسبة مئوية ضئيلة هي الهامش المتاح لكل ميزانية.
وخلافًا لأسلوب شاهين، اعتمد بركات التصوير الخارجي، لتدور كل أحداث الفيلم بين قريتين جبليتين لبنانيتين، هما عين الجوز في المتن ودوما في البترون، لما تتمتعان به من تراث معماري تاريخي يتناسب وأجواء الفيلم التاريخي، الذي استمدّ الأخوان الرحباني موضوعه من واقعة تاريخية جرت فصولها خلال الاحتلال العثماني للبنان وجواره.
تدور أحداث الفيلم عام 1914، عندما كان لبنان تحت الاحتلال العثماني، وفي ضيعة مشتى الديب، كانت تعيش عدلا (فيروز) مع جدتها. وكانت تنتظر يوم خطبتها من حبيبها عبدو، وفي طريقه لشراء محابس الخطبة، قبض العسكر العثماني عليه ليعمل بالسخرة في تقطيع الحطب، وذهبت عدلا لتقتفي أثره إلى ضيعة عمتها (سلوى حداد) في عين الجوز، لتكتشف هناك أن عمتها والمختار (نصري شمس الدين) يساعدان في مقاومة المحتل العثملي، ولتجد نفسها أيضًا مشاركة مع القبضايات في حركة المقاومة الشعبية، كما في تهريب القمح لإطعام أهل القرية…
وعندما يعلم العسكر العثماني، من خلال جاسوسين لبنانيين في القرية، أن أفرادًا من المقاومة مجتمعين في بيت المختار، تقوم عدلا بتهريبهم من البيت. وبعد الكثير من الأحداث، تقرّر مجموعة من المقاومين، وعلى رأسهم عبدو، بعد تهريبه، الإبحار في مهمة، لتقف عدلا في نهاية الفيلم على شاطئ البحر تنادي على خطيبها الذي يعدها بالعودة ويطلب منها ارتداء “محبس الخاتم” فتضعه وترفع يدها “ملوحة بشال الحرير”.
دراما بسيطة وشفافة، عن قصة حب بريئة ومقاومة وطنية شريفة، حشد لها الأخوان رحباني فريقًا فنيًّا ضخمًا واشترك فيه عدد كبير من أبرز الممثلين اللبنانيين حينذاك، وكان بارزًا فيه مشاركة عاصي الرحباني تمثيلًا، وقد اختار لنفسه دور القبضاي الثائر “أبو أحمد” قائد المقاومة ضد المحتل التركي.
بإنتاج أضخم، وبين قرى لبنانية ومشاهد طبيعية، صوّر الفيلم ضمن ديكورات تاريخية تراثية، كما أن الأغاني حبكت جميعها، وحتى العاطفية منها، من أجواء الفيلم التاريخي الذي يُعدّ أول فيلم لبناني تاريخي ولغاية اليوم، كما يؤكد سويد.
نجح “سفربرلك” نجاحًا باهرًا، وهو بشهادة الكاتب والناقد السينمائي محمد سويد، أفضل أفلام الرحابنة وفيروز، وربما الأكثر مشاهدة ورسوخًا في الذاكرة الفنية والجماهيرية ضمن أعمال الرحابنة السينمائية.
والى ذلك يلفت الناقد السينمائي، أنه الى المخرج المصري والمنتج السوري، “سفربرلك” أو “المنفى” بالعربية، جاء حصيلة خبرات مختلفة الجنسيات، فمن المختبر الى التحميض الى التظهير بين باريس ولندن، استعان الرحابنة بخبرات فنيين سينمائيين أوروبيين كالمصوّر أندره دوماج.
أزمة ديبلوماسية مع الأتراك.. ومطاردة
وفيما اعتبر بعض النقاد الصحافيين أن الفيلم لم يخرج عن تأثيرات المسرح الغنائي، وأن الأخوين رحباني، لم يستطيعا تعميق مدلول المجاعة أثناء حكم التركي، كان جواب مخرج الفيلم في لقاء صحافي عام 1975: “في “سفربرلك” لم نشدد على الناحية الواقعية، ولو فعلنا لما كان الفيلم عُرض على الإطلاق. لقد مُنع في خمسة بلدان عربية، بفعل تدخل السفارات التركية. فإذا كان الفيلم بهذه الصورة ومُنع في بعض البلدان العربية، فكيف لو كان واقعيًا فعلًا؟”.
وكانت النتيجة تحفة فنية رائعة من حيث الإخراج والأغاني والمشاهد الطبيعية والقصة العاطفية التي غلّف فيها عاصي القضية التاريخية التي أراد للفيلم أن يكون محورها، ليصبح منذ عرضه عام 1967 وحتى اليوم المرافق الأبرز لمعظم مناسبات الاستقلال إذاعيًا وتلفزيونيًا، وعلى عين الأتراك، ولكم أغضبهم وسعوا لحظره، فهل تمكنوا؟
حكاية المقاومة التي نسجها الرحابنة في “سفربرلك”. أبرز ما تجلّى فيها تلك الحوارات المغناة والمحكية بين القبضايات والمقاومة من جهة والعسكر العثملي من جهة ثانية، التي فجّرت غضب الأتراك وأحدثت أزمة دبلوماسية بين لبنان وتركيا على خلفية أن الفيلم يسيء إليها. غضبٌ أعقبه مطاردة واحتجاج السفارات التركية لدى السلطات في كل بلد عُرض فيه، بحجة أن الفيلم ضدها، ما أدى الى انحسار انتشاره في الخارج، وتاليًا انخفاض عائداته وفق ما ذكره منصور الرحباني، لكن مسيرة الرحابنة السينمائية استمرت.. وكان مولودهما الثالث.
“بنت الحارس”.. فيروز تنشر الرعب
عبثًا حاول ضجيج الأتراك حجب نجاح “سفربرلك” الساحق، لا بل ذاعت شهرته أكثر وأكثر وما تباطأ الرحابنة لقطف ثماره، فوضعوا على الفور قصة جديدة لشريط سينمائي جديد، هو “بنت الحارس”، واستعانا بالمخرج هنري بركات نفسه وبالمنتج نادر الأتاسي ذاته ليكملا معهما المشوار السينمائي.
الفيلم الثالث والأخير للرحابنة، بدأ تصويره عام 1968، لتدور أحداثه أيضًا وسط أجواء قرية لبنانية هادئة أطلق عليها الرحبانيان إسم “كفرغار”، والتي لكثرة هدوئها واستتباب الأمن فيها يقرّر مجلس بلديتها صرف الحارسين الليليين فيها بدل مكافأتهما، فيضطران الى هجرة القرية بحثًا عن مورد رزق في بيروت ودمشق، أحدهما نصري شمس الدين، الذي تحاول ابنته فيروز، بدور “نجمة” معلمة الموسيقى في كفرغار، إقناع الأعضاء بإعادة الحارسين إلى عملهما، لكن بلا جدوى.. عندها تلجأ إلى الحيلة، فتتنكّر في زي شاب ملثّم يدعى “أبو الكفية” وحملت البندقيّة على كتفها وراحت تبث الذعر في أرجاء البلدة كي يطلبوا والدها مجددًا للحراسة!
في “بنت الحارس”، لم يستطع الأخوان رحباني الابتعاد عن إغراءات الإسقاط السياسي، فجولات “نجمة” الليلية كشفت لها أسرارا خطيرة عن الفاسدين من المجلس البلدي، وها هي تبتزّهم جميعًا حين يقرّرون معاقبتها فلا يجدون مهربًا من التسوية، وهكذا تنتهي القصة بعودة الحارسين إلى عملهما عودة الأبطال.
أحب الأفلام لفيروز
في “بنت الحارس” الذي قيل إن فيروز تعتبره أحب أفلامها إليها، شاهدنا أولاد فيروز وعاصي، زياد إبن راعي الغنم “بشير المعاز” الذي لعب دوره منصور الرحباني، وليال طالبة المدرسة تستمع لـ”تك تك يا ام سليمان”، وريما إبنة الثلاث سنوات تنام على هدهدة “يللا تنام ريما”.
ومما قاله منصور الرحباني عن فيلم “بنت الحارس”: “أتممنا الدورة التي معها دخلنا الى التراث اللبناني من مختلف أبوابه: المسرح والإذاعة التلفزيون ثم السينما ونشر تراثنا الموسيقي والغنائي والحواري في الناس عبر تلك الوسائل، فراج وبقي في قلوبهم، ولعل تلك كانت أسرع من الكتاب في إيصال نتاجنا”.
وبهذا اكتملت ثلاثية الرحابنة السينمائية، حيث شكّل الغناء والدراما توازنًا لافتًا وجاذبًا، مقدمة تصنيفًا غير مسبوق، إذ لم يحصل، قبل “بياع الخواتم”، أن عرف الإنتاج اللبناني إقتباس عمل مسرحي أو مغنى ونقله إلى الشاشة الكبيرة، وقبل “سفربرلك” ما عرف لبنان فيلمًا سينمائيًا تاريخيًا وحتى أيامنا.
فيروز: كنت أكره التمثيل
في الأفلام الثلاثة، ظهرت فيروز بأدوار خرجت فيها عن النمط المألوف لنجمات أفلام الستينات. فبطلة أفلام الرحابنة ما كانت العاشقة الولهانة على غرار نجمات سينما تلك الأيام، وإن كانت أغانيها السينمائية تفوح عشقًا بريئًا ورومانسية، لكن أدوارها جسدت إبنة القرية اللبنانية المتفاعلة مع محيطها بذكاء فطري، المقاومة للمحتل، الجريئة في مقاومة الفساد، المنتفضة على اللاعدالة، الرافضة للكذب والرياء حتى من أقرب الناس إليها.
ومما قالته فيروز عن علاقتها بالسينما في حديث للإعلامي المصري وجدي الحكيم عام 1968: “لم أكن أتخيّل نفسي قادرة على التمثيل يومًا. كنت أكره التمثيل. ليس لدّي أي فكرة عنه. لازمني هذا الخوف طويلًا حتى جاء موعد التصوير ودخلت إلى الأستوديو. لكن بعد تصوير المشهد الأول شعرت أنه سهل جدًا”.
وعن أدائها التمثيلي لأول مرة أمام كاميرا السينما، كانت شهادة لافتة من المخرج الهوليوودي الصعب يوسف شاهين وقال: “فوجئت بالموهبة التمثيلية التي تتمتع بها… فيروز كنت أعرف أنها الصوت الوحيد المتفرّد، لكنها أثبتت أنها أيضًا واحدة من كبيرات ممثلات الشرق… تتمتع بالبساطة والبساطة منبع الجمال”.
تعثر الرابع.. “هالة والملك”
ويبقى السؤال الكبير لماذا اكتفى الرحابنة بتلك الثلاثية وحسب، وما الذي أبعدهم عن عالم السينما في عزّ عطائهم؟
لم يستطع الرحابنة أن يضيفوا الى رصيدهم السينمائي عملًا رابعًا، على رغم محاولة إنتاج فيلم جديد مقتبس عن مسرحية “هالة والملك” في سبعينات القرن الماضي، بمشاركة الفنان دريد لحام، ومن إنتاج المهندس نادر الأتاسي الذي اشترى حقوق القصة، حيث تعثر إنتاجها لأسباب شتى. ويخبرنا محمد سويد أن الأتاسي منتج الأفلام الثلاثة، حاول بعد وفاة عاصي متابعة الإنتاج السينمائي الرحباني فعرض على فيروز العمل على مسرحية “هالة والملك” مرارًا لكن لم يلق تجاوبًا، ولكنه مضى بقراره حيث أُسندت بطولة الفيلم الى الفنانة ميريام فارس، لكن الفيلم لم يلقَ النجاح.
عن قصر عمر تجربة الرحابنة سينمائيًا، يرى محمد سويد أن السينما ما كانت أصلًا غاية الرحابنة، تجربتهم السينمائية جاءت إمتدادًا لأعمالهم الغنائية والمسرحية، وما يفسر توقفهم سينمائيًا هو أن هدفهم الأساسي كان الأغنية والموسيقى.
وفي تقييمه لثلاثية الرحابنة السينمائية فنيًا وجماهيريًا، يرى سويد أن سينما الرحابنة ما كانت مختلفة عن أجواء أعمالهما المسرحية. فالفيلم الأول، بياع الخواتم (1965) ليوسف شاهين، ليس إلاّ تصويرًا سينمائيًا لمسرحيتهما التي حملت العنوان نفسه، ومع أن الفيلمين الآخرين، “سفربرلك” و”بنت الحارس” كتبا خصيصًا للسينما، لكنهما اعتمدا الصيغ نفسها التي ميّزت أعمالهما المسرحية، وفي أفلامهما الثلاثة، حافظا على هذه التركيبة التي أسّست جمهورًا عريضًا لهما، إنتقل من صالة المسرح إلى قاعات السينما ليُشاهد ما يُمكن أن يكون عملًا رحبانيًا بامتياز، في شكله الجديد هذا.
حطمت الأرقام.. لكن حظ سيئ في الخارج!
بإجماع النقاد، لم يختلف الفن الرحباني كثيرًا بين المسرح والسينما… القرية اللبنانية كانت حاضرة بقوة هنا وهناك، وصوت فيروز ظلّ مهيمنًا على كل شيء آخر، ومع غياب أرقام المبيعات وإحصاءات المشاهدين، وإن كان ثمة ترجيحات بأن فيلمي بركات كانا الأكثر إستقطابًا، حسم منصور الرحباني الأمر بقوله مرارًا إنه على الرغم من أن “الأفلام الثلاثة حطّمت الأرقام في لبنان، إلاّ أنها لم توفَّق في الخارج، خصوصًا “سفربرلك”، الذي طاردته السفارات التركية في كل مكان، مانعة عرضه”.
وفيما يرجح سويد أن الحظ ابتسم للرحابنة أكثر في الفيلمين الأخيرين، يقول في كتابه “السينما المؤجّلة”: “السبب يعود ربما لا تساع خبرة هنري بركات بمتطلبات الفيلم الجماهيري وكيفية تركيبه بحسن إستغلال المنظر الطبيعي اللبناني قياسًا على أهمية العنصر التاريخي في “سفربرلك”، والعنصر الواقعي المألوف جدًا في “بنت الحارس”، مشيرا إلى أن “هذا كلّه كان وراء هبوط وارتفاع مستوى الإقبال الجماهيري بين الأفلام الثلاثة”.
ماذا بعد؟ يبقى الكثير الكثير، ونترك فيروز لتحكي…
ففي العام 1998 حين سجل الإعلامي الفرنسي فريدريك ميتران (لاحقًا وزير الثقافة في عهد نيكولا ساركوزي) لقاءَ مع فيروز، إستعادت ذكرياتها عن العمل السينمائي لتقول: “أنا بعتبر الأفلام اللي عملتها باقي فيها كل الإشيا اللي منحبها. إن كان من البيوت، أو من القصة، أو من المطارح، أو من الجبال. بتحافظ على كل الإشيا اللي حبيناها إنها تبقى، وتبقى بالسينما”. وهل من كلام بعد؟!
“المسيرة” ـ العدد 1753
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]