في اليوم الأخير لولايته عام 2014، غادر الرئيس ميشال سليمان قصر بعبدا وترك الجمهورية مقطوعة الرأس. مرّت سنتان ونصف على الفراغ الرئاسي قبل أن “يُنتخب” ميشال عون، عام 2016، رئيسًا للجمهورية.
كلما عدت إلى الكتابة يعاودني قلق دائم وشعور غريب يسكنني ويولد فييّ تلك الأسئلة: ماذا لو اكتشف الشهداء والجرحى والمهجّرون الذين “ارتكبهم” الجنرال عون، وأنا واحد منهم، أنهم كانوا مخدوعين من قيادات شعبوية متعاملة؟ وماذا لو اكتشف اللبنانيون المقيمون في هذا الوطن، والمغتربون عنه طوعًا أو قسرًا، أن ثمة من ادّعوا بنوّته وهم ليسوا أبناءه الحقيقيين، لا بل هم يتبنّون مصالحهم الخاصة، و”ادّعاءاتهم” ليست إلا مجرّد شعارات؟
إذا كان ميشال عون في 13 تشرين الأول 1990، قد أثبت معادلة وطنية، فطُرد من قصر بعبدا واغتُصبت شرعيته السياسية، فهو في العام 2016 قلب الأرقام والمعادلة، فأعادوه فاقدًا شرعيته الشخصية، في قطار إيراني برتبة حارس لا رئيس إلى قصر يحوّله قبرًا، وجمهورية تسبح في عالم الممانعة، ووطن شعبه مقسّم وأرضه ساحة سائبة.
قد يبدو هذا الكتاب بمثابة رثاء الجمهورية التي تعيش وتنام في حضن شيطان رجيم، تنقل الإنسان والأرض إلى جهنّم الولاية والخلافة، بينما أنا كتبت ما كتبت لأستحق عقاب تأخري في اكتشاف مشاركتي في فظاعة ما ارتكبت. وهذا يحوّل عقابي مستحقًا ورحيمًا.
الفصل الأول: حارس لا رئيس لقد عرفت ميشال عون عن كثب. كان يعتمد المختصر المفيد، وهو صاحب قناعات مبنيّة على مقاصد ونوايا الإصلاح والتغيير، إلا أن قناعتي الحقيقية باتت أن “الجنرال السابق” الذي رُفِّع الى الرئاسة، دفن حلم الجمهورية، حتى قبل أن يكون مجرّد وكيل للمحتلّ، ويتحالف مع مغتصبيها. لقد باع روح شعبه ليصل إلى جنّة بعبدا.
بعد عودته المشروطة من باريس متفاهمًا مع السوريين، وُضِع عليه شرطان: الأول، دعم إميل لحود حتى نهاية ولايته، والثاني الدخول في تفاهم مع “الحزب”. ثم سرعان ما شعر بأنه ركب قطار الرئاسة الأسرع بقوّة أصوات بيئته المسيحية في انتخابات عام 2005 النيابية.
لكن انحياز تيار المستقبل إلى تأييد قائد الجيش ميشال سليمان وموافقة “الحزب” على ذلك، خطفا من عون “حق الملكية” برئاسة الجمهورية في اتفاق الدوحة، فبقي تفاهم مار مخايل بينه وبين “الحزب” وعدًا ناقصًا من الرئاسة. ثم عام 2014، شكّل خروج سليمان من قصر بعبدا، اندفاعة جديدة لتحقيق رغبة عون الرئاسية، فبات متسرّعًا لترجمة فوزه في الكرسي الذي يعتبره حقه الدائم.
لم يوفّر ميشال عون وفريقه الحزبي وحلفاؤه الأساسيون، مناورتهم لتعطيل الانتخابات واستمرار فراغ وشغور منصب الرئاسة، طالما لم يكن الفوز مضمونًا.
انضم رئيس المجلس النيابي إلى مشروع تعطيل الانتخاب خدمة لمشروع الفراغ، إذ بعد إنعقاد الجلسة الأولى واكتمال نصاب الثلثين وعدم فوز أي مرشح، رفع الجلسة فورًا إثر انسحاب فريق التعطيل، وفقدان نصاب الثلثين الذي أصرّ نبيه بري على توافره لكي يستمر بالجلسة، فاستمر التعطيل والفراغ لحوالى السنتين.
كان هذا الاجتهاد الهجين للدستور، فرصة لميشال عون في التعطيل، ليرفد مشروع حليفه “الحزب” بإسقاط المؤسسات الشرعية للدولة. فاستغلّه عون بممارسة التهويل بأصوات نوابه، ومحاصرة السياسيين الرافضين بطرح شرط تفجيري: “عون أو الفراغ”.
استمر هذا الغموض المشبوه في موقف “الحزب” فترة طويلة مخفية وغير معلنة، تخلّلته فترة من فراغ عميق وتعطيل للمؤسسات، وما رافقها من انهيارات إدارية واقتصادية ومالية مقصودة ومتعمّدة.
بعد أن اطمأن ميشال عون لوعود “الحزب”، أطلق شهوته الرئاسية باتجاه الآخرين، فأرسل النائب إبراهيم كنعان لاستجداء إتفاق مع “القوات اللبنانية”. في هذا الوقت كان “الحزب” يحوك المناورات ويتحكّم بها في مقاربة ملف رئاسة الجمهورية باكرًا. فأوحى أولًا وظاهريًا بحياده بين مرشحين: ميشال عون وسليمان فرنجية لمواجهة ترشيح سمير جعجع، الخصم اللدود. ونسّق هذه المقاربة مع حليفه السوري، وترك باقي الحلفاء في خيار ملتبس يتبادلون التقدير الظاهر لرغبة الحزب في اختيار إسم لملء الفراغ.
واستفاض السيد حسن نصرالله ببراعته الأدبية واللفظية ليترك ظلالًا محيّرة وكثيفة حول قراره. أما المرشح ميشال عون فرضي بتأييد “الحزب” الضمني له، فيما مضى سليمان فرنجية بمعركته مدعومًا ضمنًا من بشار الأسد. وهكذا وزّع نصرالله والأسد الأدوار ليستمر الفراغ ويتحوّل إلى الحلّ الوحيد الملزم لكل اللبنانيين، تمهيدًا للهيمنة الإضافية على لبنان.
إن دخول رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع حلبة المنافسة، أعطى المعركة وجهًا مختلفًا، فكان أول المنافسين الجديين. وبعد أشهر قليلة بدأ الحراك على خط الرابية – معراب، تولّاه الوزير ملحم الرياشي موفدًا من قبل سمير جعجع، تقابله زيارات للنائب في “التيار الوطني الحر” إبراهيم كنعان موفدًا من ميشال عون إلى معراب. واستمرت هذه المشاورات شهورًا قبل أن يُعلن جعجع وعون التوصل إلى إتفاق معراب في 19 كانون الثاني 2016، الذي قضى في إحدى بنوده دعم مساعي عون الرئاسية.
أثار هذا الاتفاق حفيظة سعد الحريري الذي ظن سوءًا في موقف “القوات اللبنانية”. وردًا على مفاجأة جعجع واتفاق معراب، استمر سعد الحريري بمناورته في ترشيح سليمان فرنجية، لكنه فشل بتأمين النصاب مع استمرار “الحزب” وسوريا في مناورة تعطيله. وبعد فشل انعقاد الجلسات، وبعد أن باتت الأرجحية الشعبية المسيحية لمصلحة اتفاق معراب، اضطر الحريري للتخلّي عن مناورته بترشيح سليمان فرنجية، واستبدالها بحصة سخيّة من عون توفّر له ركوب رئاسة مجلس الوزراء حتى نهاية العهد.
على الأثر، انكشفت باطنية الحزب فاضطُر لإعلان الإسم الكامل لمرشحه ميشال عون، وبات عون مدعومًا من كتلة مسيحية وازنة يستحيل تجاوزها، فتخلّى “الحزب” عن مشروع الفراغ، فيما ساهم رئيس المجلس النيابي بإيجاد المخارج القانونية لإجراء الانتخابات.
بات واضحًا أن عون سيكون رئيسًا بأكثرية أصوات النواب. لكن عون ذا الطبع الشكاك والحذر أصرّ على استمرار التعطيل حتى يثبت له بالدليل القاطع أن لا منافس يخبئه خصومه. ولم يوافق على حضور جلسات الانتخاب وإكمال النصاب، إلا بعد إعلان كل الفرق الانتخابية دعمها العلني له.
الطلقة الأولى التي سدّدها فريق العهد على رأس الجمهورية كانت في قبوله تمديد ولاية مجلس النواب بذريعة وضع قانون جديد. ثم بدأت عملية حياكة قوانين انتخابية جديدة في مطابخ المنظّرين والإنتهازيين والوصوليين. تولّى إدارة الحبكة الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل والوزير «الوديعة» سليم جريصاتي، ونائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي.
لاقى قانون الانتخاب، الذي استولده الفرزلي الأرثوذكسي، استحسانًا في أوساط عون وجبران باسيل خاصة، فأطلق عليه إسم “القانون الأرثوذكسي” الذي حصر الدائرة الانتخابية بالمذهب فقط. ثم انطلقت صفارات العهد القوي لتسويق هذا القانون، إلا أنه ما لبث أن سقط، فتوترت العلاقات بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية”، فانتقل عون دفعة واحدة وتياره وأتباعه إلى تبنّي فكرة القانون النسبي.
خلال زيارة ميشال عون إلى فرنسا عام 2017، أجرت معه صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية مقابلة كشفت المستور. لم يعترف عون، الذي وقّع ورقة تفاهم مع “الحزب”، أنها نقلته فعليًا إلى ارتباط بحلف حوّله الى جندي صغير في جيش الفقيه الإيراني، وأنه ورّط الدولة اللبنانية بحلف يحوّل لبنان إلى ولاية إيرانية، إنما بشّر اللبنانيين بخدعة: “إن الحزب يطيعه كقائد للقوات المسلّحة، وعناصر الحزب يستطيعون مستقبلًا الالتحاق بالجيش اللبناني”.
لتغطية هذه السقطات، راح عون يلمّع بعض الشعارات، فأعلن بتاريخ 13/3/2018: “إن الاستراتيجية الدفاعية الوطنية ستكون موضع بحث بين القيادات اللبنانية بعد الانتخابات”. وشدّد “على وجود تطمينات سياسية تجيز الالتزام بالنأي بالنفس”، كما سارع لاحقًا إلى إقرار الموازنة لعام 2018، و”تعزيز الشفافية لمكافحة الفساد أكثر”. وقد جاءت هذه التصريحات تحضيرًا لمؤتمر روما في منتصف آذار 2018. وبذلك يكون عون قد واظب على تقليده القديم بتكرار الوعود والمناورات لتضليل الداخل وتخديره وكذلك تضليل الخارج المترقب لتحقيق التغيير والإصلاح وفقًا للشعار الذي يُرفع في كل مرة تتكشف فيها وقائع السقوط المدوّي للمهد، وتبدأ فصول التعمية من خلال تفسير الشعار والنطق به مرارًا وتكرارًا.
إثر هذه الزيارة لعون إلى فرنسا وانكشاف دفاعه عن “الحزب” استحق “عون الحارس” شهادة الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لـ”الحزب”، الذي رأى “أن المواقف التي أعلنها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لصحيفة لو فيغارو هي مواقف مشرّفة ومسؤولة”. وختم قاسم قائلًا: “تحية كبيرة إلى ربّان سفينة لبنان القوي المقاوم، يرعاها بسياسته الوطنية الحكيمة والشجاعة، والحمد لله على هذه النعمة ليتمكّن لبنان من أن يحفظ موقعه ودوره وأن يحفظ مستقبل أجياله”.
تتميّز المسيرة العونية، بمعادلة ثابتة قائمة على ردات فعل بهلوانية: فكل الوسائل مقبولة لتحقيق غاية الوصول إلى الرئاسة، وتُترجم حسب قاموسها كل التبريرات والتوريات، لتغطية الانحرافات والارتدادات والتراجعات والانقلابات والهرطقات والبدع. من المفيد إعادة قراءة ذلك في مواقع متعددة:
1 ـ بدأ العصر العوني بانقلاب أول أخفاه الجنرال عون عام 1988، عبر القبض على مرسوم الحكومة العسكرية التي اضطُر الرئيس أمين الجميل إلى توقيعه.
2 ـ ثم كانت حرب التحرير انتقامًا لتراجع سوريا عن وعد الرئاسة، الذي نقله رفيق الحريري من حافظ الأسد في بداية آذار 1989.
3 ـ وكان انقلاب ميشال عون على الوعود التي زرعها في أميركا سنة 2003 عندما بادل ذلك بمفاوضات مع سوريا لإعادته من المنفى في نهاية 2004.
4 ـ وبعد انتخابات 2005، كان التوافق مع “الحزب” كرد فعل على سعد الحريري وحلفائه وتحالفاته، الذين وقفوا ضد طموحات عون الانتخابية، ثم تكرر إثر رفض منحه حصة مرجّحة في تشكيل الحكومة تتناسب مع انتصاره في الانتخابات. وزاد تفجّر الغضب العوني لاحقًا في كتاب “الإبراء المستحيل” الذي اتهم الحريرية بنهب البلد.
5 ـ وكان الإنقلاب الأهم، على رغم تحالفه مع “الحزب”، مصالحة الحريري ومبادلة رئاسة الوزارة برئاسة الجمهورية عام 2016.
أستعيد شخصيًا، صورة الجنرال ميشال عون الذي ساندته: المعطّل لنصاب جلسات انتخاب رئيس لخلافة أمين الجميل. المنهزم من دون قتال في حرب 13 تشرين 1989، واللاجئ فجرًا إلى السفارة الفرنسية ليعلن قبوله بالشرعية. العائد من المنفى الباريسي عام 2005 متصالحًا مع سوريا علنًا و”الحزب” سرًا. المنقلب على ذاته ومواقفه عند الدخول إلى كنيسة مار مخايل وتوقيع ورقة التفاهم مع “الحزب” صاحب اليد الطولى في إعادة لبنان إلى العصر الحجري مستبقًا تهديدات إسرائيل. السياسي البهلواني المتنقل من التفاهم مع “الحزب” إلى اتفاق معراب وحسن النوايا مع “القوات اللبنانية”، إلى تفاهم مع الرئيس سعد الحريري معلنًا ندمه على كتاب “الإبراء المستحيل”. المعطّل للانتخابات الرئاسية بعد نهاية عهد إميل لحود ونهاية عهد ميشال سليمان بالتعاون والتضامن والتكافل مع “الحزب”. الراعي الذي هرب وترك خرافه للذئاب، والقائد الذي ترك جنوده للذبح والأسر ونسيهم بعد أن صالحته شهوة الرئاسة على التعامل مع عدوه، والتفاهم مع محتل بلده….
إنه هو ميشال عون، الذي يجلس اليوم على كرسي بعبدا، الذي سجل الرقم القياسي في المساومات والتنازلات، فاستحق عنوان حارس لا رئيس.
الفصل الثاني: قبر لا قصر
في العام 2016، وصل إلى قصر بعبدا زائر ببدلة مدنية يتمتع بكل مواصفات الحارس لا الرئيس، وبدأ من حينها التفاعل السلبي بين المستأجر الجديد والقصر القديم.
عاد عون إلى قصر بعبدا فكان مشهد جلوسه على الكرسي حافلًا بمظاهر النصر بين جدران وكراسي عاشت فراغ سنتين ونصف، من دون أن يبقى منها سوى بيان بعبدا الذي أنجزه ساكن القصر الأخير ميشال سليمان، ثم عاد وملأ غرف بعبدا بمكاتب لأفراد عائلته، وخصص لصهره جبران باسيل غرفة خلفية يمسك منها بكل مفاصل الجمهورية.
هذه النرجسية ظهرت وتكررت في التعاطي مع الأشخاص والأحداث، ففرضت عليه التبرؤ من صداقتهم أو تفويضه لهم في أعمال ومهمات، تبيّن في ما بعد أنها، بالنسبة لعون، جريمة أو مخالفة لتقلّباته. تعمّقت ظاهرة انقلابه على الآخرين حتى استهلكت أكثر القيادات والروّاد في التيار العوني، فكان ضحاياها العدد الأكبر من الذين عبروا التجربة الموتية فسقطوا في الإنكار، ليخلفهم شذاذ الاستغلال السياسي والمالي.
أما التشبّه عنده بالجنرال ديغول، فكان حلمًا يعيشه نائمًا أو صاحيًا من دون أن يقرأ أن الجنرال ديغول عاد من المنفى مقاومًا ومنتصرًا على الاحتلال. أما الجنرال عون، ومن أجل عودته، فقد تقاطعت مصالحه مع المحتل السوري، وعقد اتفاقًا ووقّع تفاهمًا مع الاحتلال الإيراني، ليجلس في رتبة حارس مكلّف، مرتزقًا كقائد فرقة المئة على قبر الجمهورية، التي قاتل تراجعيًا وبشراسة للحصول فقط على لقب رئاستها.
في إطلالته الأولى بعد انتخابه أو تعيينه رئيسًا للجمهورية قال عون لمحطة فرنسية بأنه “لا يفكر بولاية ثانية، ولكنه ملزم بتأمين خلافة جيدة… وإنه يُعدّ العدة لذلك”. يكاد ميشال عون يكشف منذ بدء ولايته أنه في صدد إما أن يؤمّن خليفًا جيدًا لوراثته أو يحتفظ بحقه في تمديد ولايته وفقًا لبدع خيالية يغطّيها مستشاروه بفذلكات قانونية تعتمد التذاكي المستند إلى القوة الفائضة لحلفائه.
وقد نفّذ عون نظريته هذه بتحويل القصر إلى منزل عائلي: عبر تعيين ميراي مستشارة في القصر، وكلودين مستشارة ورئيسة لجنة المرأة، وزوج إبنته الثالثة مشرفًا فعليًا على أعمال القصر والجمهورية. كما أشرف من القصر على الانتخابات النيابية وعلى إدارة الانتخابات والتدخل المباشر باستدعاء الأشخاص والبلديات والمخاتير والكهنة وأصحاب المصالح، وتركيزه خاصة على المتقاعدين من العسكريين والأمنيين وقضاة طامحين بدعمه، ومن كل المناطق الانتخابية، لدعم مرشحي “التيار الوطني الحر”.
الفصل الثالث: ولاية لا جمهورية
بعد أن استقر ميشال عون في بعبدا سارع إلى سحب وعده بوضع الاستراتيجية الدفاعية لحلّ مشكلة علاقة سلاح “الحزب” مع الجيش، وأفتى: “إن لبنان غير قادر على بناء قوة عسكرية قادرة على المواجهة مع العدو، لذلك عليه أن يستعمل طرقًا للقتال تشترك فيها القوى النظامية والشعبية”. وكانت هذه مؤشرات واضحة بأن ساكن بعبدا الجديد قد أقدم على تمزيق بذلة الشرف والتضحية والوفاء ليخدم أهواء ومصالح الولي الإيراني.
تحوّل الرئيس إلى حارس والقصر إلى مغارة. يقيم الولائم لأصحابه ومؤيديه وداعميه السياسيين والماليين بسخاء على حساب الدولة، في مقابل سخائهم من أرصدتهم الشخصية وتبرّعاتهم له. وقد عوّض على بعضهم بفتات مراسيم الهويات وبمنح الأوسمة بسخاء المقامر، ومنح مراسيم العفو الخاص للمحكومين.
بعد أن وصل عون إلى بعبدا “حارسًا لا رئيسًا”، وبعد أن حوّل القصر إلى قبر ونام فيه، بات طبيعيًا أن نسأل عن الجمهورية، وأسسها الأصلية والفرعية، وتحوّلاتها العونية لتصبح ولاية يحكمها فيلق الولي الفقيه ويتحكّم بدعم وحماية الحرس الثوري الإيراني بلباس وقناع “الحزب”.
لن يخطئ اللبنانيون في قراءة محطات عديدة في تاريخ عهد عون التي قلبت موازين السيادة وحوّلت مفهومها إلى تبعية ملحقة بـ”الحزب”. وباتت الجمهورية اللبنانية بمثابة حديقة خلفية وساحة، يلعب فيها بحرية عناصر “الحزب” وأنصارهم وزوّارهم من حلفاء ومرتزقة ومحظيين. وتوالت تباعًا مظاهر تحويل الجمهورية إلى ولاية إيرانية تابعة.
ارتكب رئيس الجمهورية جرم استغلال القصر لمصالح التيار الحزبي والصهر الجشع، وقدّم المقاومة الإسلامية الإيرانية على الاستقلال والسيادة. ينسى أتباعه الهاربين من انتقام “محرري” الشريط الحدودي لاجئين في دولة عدوة، فيما هو يدّعي أبوّته الشريرة لهم.
بعد تشريع السلطة لوجودها العسكري، باتت مؤسسات “الحزب” المدنية التي تغطي الصحة والمال والأشغال والبناء والتجارة والصناعة المدنية والعسكرية تخرج لتنافس الجمهورية وتتفوّق عليها بالممنوعات والواردات، وبخاصة الاستيراد للمواد المتفجّرة التي أدت إلى تفجير مرفأ بيروت وقتل أهل العاصمة وهدم منازلهم.
تعثر اقتصاد الجمهورية في عهده، كما قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي، وتوقف القطاع السياحي وشحّت موارده حتى الانقطاع. وفُقدت السيولة في المصارف بعد أن تعذر على الدولة إيفاء ديونها الخارجية، وجفّ دولار البنك المركزي وجميع المصارف، وتواطأ الجميع على ما تبقّى من احتياط للمودعين في البنك المركزي، فاستهلكوه احتيالًا في دعم المحروقات والمواد الطبية والغذائية التي ذهبت في أكثريتها خارج حدود لبنان لتحقق للمهرّبين والميليشيات المسلّحة شفط آخر فلس بقي للفقراء والأرامل في البنك المركزي.
بعد الأزمة الاقتصادية، ووصول أكثرية نيابية في العام 2018 مشابهًا للصورة التي رسمها أهل العهد وأوصياؤه، اكتملت الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتسقط كل سلطات الدولة الشرعية في حضن الممانعة الواسع الذي يتولاه “الحزب” في لبنان، وليحقق الحرس الثوري انتصاره بوضع اليد على ما كان إسمها الجمهورية اللبنانية، لتصبح جاهزة لإعلانها ولاية.
الفصل الرابع: ساحة لا وطن
بعد سنة 2000 و”تحرير” الجنوب، الذي سلّمته إسرائيل من دون شروط لـ”الحزب”، تم تعليق يافطة على طريق مطار بيروت تقول: رافقتكم السلامة من وطن المقاومة”. والمقاومة هي حصرًا هنا “المقاومة الإسلامية” التابعة ماليًا وعقائديًا وسياسيًا وتنظيميًا لإيران، والتي كانت قد رفعت سابقًا يافطة على كورنيش المزرعة في مدينة بيروت تقول: “الرأي والمشورة القرار والأمرة والطاعة والولاء لإيران”. وقد عمّم اليوم “الحزب” صور قادته وشهدائه في مساحة المدن والقرى والطرقات اللبنانية، كما يستكمل تغيير خارطة الوطن بفرض أسماء ونصب مجسّدات في كل المناطق التي يسيطر عليها فعليًا والممتدة على المحافظات.
لقد سافر قطار الوطن إلى محطات من الوصاية الفرنسية، إلى الاحتلال السوري، كما تعرّض لنذورات الموت الإضافية التي حامت على جسد جمهوريته الأولى على دفعات متتالية في سنوات 1958 و1969 و1973، وانتهت بحرب 1975 التي استمرت 15 سنة. وتكرّرت الأزمات والمشاكل في الجمهورية الثانية بعد الطائف، كتعليق الانتخابات البرلمانية وشغور موقع رئاسة الجمهورية وتعذّر تشكيل الحكومات وخلق بدع دستورية، وتعثرات اقتصادية ونقدية، ثم تفجير المرفأ في آب 2020، فبات لبنان يتيمًا بلا رئيس ولا قصر جمهورية، ويبحث عن وطن فلا يجد إلا ساحات مزروعة بأعلام هجينة تنافس العلم الأحمر وأرزته الخضراء.
في عهد عون، ينام لبنان في إرث الثورة الإسلامية الإيرانية ولن يقوم من جديد إلا بأعجوبة تدحرج صخرة الاحتلال. فهل نصحو ذات صباح يوم على زمن المعجزات؟ هذا إذا توفر بعل أو قديس يجترحها، وإلا سنبقى نغنّي لإيقاظ طائر الفينيق من أساطيرنا القديمة.
وشبابنا، وعد مستقبلنا والأمل الأخير، جنّد “الحزب” قسمًا منهم وفرّغهم جنودًا لخدمة الولاية الفارسية الإسلامية ليضحي بهم في خرائط الدول العربية، والقسم الثاني الكفؤ والنقي حامل ثقافات وفنون وخبرات هاجر ليبحث عن وطن بديل في العالم.
إن التجربة الإيرانية التي تغزو أوطانًا مختلفة غير لبنان، وتحمل مشروع الثورة الإيرانية الخمينية التي ابتدعت نظرية الولي الفقيه، لم تترك أمام اللبنانيين والأقربين والأبعدين، وما أكثرهم في سوريا والعراق واليمن وفلسطين، سوى خيار واحد بديل عن الخضوع، وهو الصمود والمقاومة وطلب الحماية الدولية خيارًا وحيدًا للإنقاذ.
هامش:
فايز قزي، حارس قبر الجمهورية، دار سائر المشرق جديدة المتن ـ لبنان ـ 2001.
• مكتب الأبحاث ـ دائرة الإعداد والتدريب ـ جهاز التنشئة السياسية ـ حزب القوات اللبنانية
“المسيرة” ـ العدد 1753
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]