من يقارن وضع “القوات اللبنانية” بعد خروج الدكتور سمير جعجع من المعتقل في 26 تموز 2005 ووضعها اليوم يدرك تمامًا أحد الأسباب الأساسية لاعتقاله والكامن في قدرته على تنظيم صفوف “القوات” وتوسيع قاعدتها الشعبية بشكل تصاعدي ومتواصل، ومراكمة كتلتها النيابية، ومضاعفة تأثيرها السياسي، وزيادة فعاليتها الوطنية. ولأنه لم يكن لدى النظام السوري أدنى شكّ بهذه القدرات بالذات للحكيم أقدم على اعتقاله خشية من دور “القوات” وتأثيرها على مسار مواجهة الأمر الواقع واستعادة السيادة.
السبب الثاني للاعتقال هو رفض رئيس “القوات” أن يكون شاهد زور في حقبة أصبح فيها لبنان ممسوكًا بشكل كلّي من النظام السوري، فأصرّ على ضرورة خروج الجيش السوري وتطبيق الدستور واستعادة السيادة، الأمر الذي وجد فيه النظام تهديدًا لدوره في لبنان، فقرّر حلّ “القوات” واعتقال رئيسها.
وأما السبب الثالث للاعتقال فهو انتقامي بمفعول رجعي من “قوات” قادت مقاومة لبنانية ضد المحتلّ السوري، فأفشلت مخططاته بإلحاق لبنان بسوريا الأسد، وعندما وفّر العماد ميشال عون الظروف المؤاتية لإسقاط المنطقة الحرة من باب “حرب التحرير”، واستفاد الأسد من بعدها من حرب الخليج، انقضَّ على من شكّل حاجزًا منيعًا أمامه انتقامًا من جهة، ولإنهاء الخطر على وجوده في لبنان في حال عادت وتبدَّلت الظروف من جهة ثانية.
وأما السبب الرابع لاعتقال الدكتور جعجع فهو انتقامي من المسيحيين ومحاولة لكسر إرادتهم السيادية وإلغاء القوة الأبرز التي دافعت عن الخط اللبناني التاريخي، وقد حوّل هذا الإلغاء إلى رسالة لجميع المسيحيين بتخييرهم بين أن يلقوا مصير الدكتور جعجع نفسه، وبين أن يكونوا في نعيم السلطة ولكن شرط أن يكونوا تحت سقف النظام السوري ومدافعين عن وجود جيشه في لبنان.
ولم يكن التجنيس العشوائي لعدد غير مسبوق في العالم في العام 1994 محض صدفة، إنما كان عن سابق تصوّر وتصميم وبهدف التسريع في ضرب الميزان الديموغرافي لتخويف المسيحيين وجعلهم أقلية بحاجة إلى وصي يوهمهم بالحماية.
وأما السبب الخامس للاعتقال فهو حاجة النظام السوري إلى تركيبة خاضعة تنادي بصوت واحد “الوجود السوري في لبنان شرعي وضروري وموقت”، خصوصًا في ظلّ الخشية الدائمة لهذا النظام من التحوّلات الخارجية والتي لا يستطيع منع انتقالها إلى لبنان سوى من خلال تركيبة تتراوح بين أن تكون مؤمنة عقائديًا بضرورة إلحاق لبنان بسوريا، وبين أن تكون خاضعة وأولويتها مصالحها الشخصية والسلطوية والنفعية وليس السيادية ولا الاستقلالية.
وقد تقاطعت هذه الأسباب وربما غيرها للتخلُّص من الحكيم الذي شكّل دائمًا الحاجز في مواجهة مخططات وضع اليد على لبنان، فإزاحته شكّلت هدفاً لإرساء الحلّ السوري للبنان، لأن لا حلّ مع الحكيم على حساب لبنان، وهو اليوم الشخصية الوحيدة التي كانت الأقوى قبل نهاية الجمهورية الأولى، واستعادت قوتها بدءًا من العقد الثالث للجمهورية الثانية، وما زالت هي هي بمبادئها ورؤيتها للحلّ اللبناني.
وكما نجح الدكتور جعجع مع ترؤسه “القوات اللبنانية” في زمن الحرب بالسعي إلى قطع الطريق على أي حلّ من دون “القوات” يُبقي لبنان ملحقاً وساحة، ولولا حربا العماد عون لما عبر الاحتلال السوري، فعاد ونجح الحكيم بعد عودته إلى الحرية والعمل التراكمي المثابر مدماكاً فوق مدماك بقطع الطريق على أي حلّ من دون “القوات”، لأن أي حلّ من دونها يعني تغييب الشريحة الأكبر من المسيحيين ومعهم الشريحة الوطنية السيادية، واستطرادًا تغييب لبنان التاريخي.
وقد سعى النظام السوري بعد التخلُّص من “القوات” ورئيسها إلى استبدالها بطبقة سياسية مسيحية لتكون البديل ضمن تركيبة لبنان التعددية، ولكنه فشل في مسعاه لأن الرأي العام المسيحي بقي مشدودًا إلى “القوات” ورئيسها ولو في معتقله، فكان التمثيل المسيحي هشًا ولا يعبِّر عن وجدان المسيحيين وتطلعاتهم، ولو نجح النظام السوري بإرساء وضعية مسيحية جديدة لما حصلت انتفاضة الاستقلال ولما خرج الجيش السوري من لبنان، لأن شعلة الانتفاضة بدأت من زنزانة الحكيم.
ولتجاوز هذه الإشكالية تعامل “الحزب” بحنكة أكبر، فاستبدل الطبقة المسيحية التي اختارها النظام السوري بعقد صفقة مع العماد ميشال عون الذي كان نجح في تنفيذ خطة مدروسة جعلته يتصدّر التمثيل المسيحي بعد انتخابات العام 2005، وقوام هذه الصفقة-المقايضة: السلطة والرئاسة لعون، والسلاح والقرار للحزب، معتقدًا أنه بهذه الصفقة يضمن السيطرة على القرار اللبناني من البوابة المسيحية.
وقد عادت “القوات” وأفشلت خطة “الحزب” على غرار إفشالها خطة النظام السوري بالسيطرة على لبنان من البوابة المسيحية، والصراع مع الحكيم كان محوره دائمًا المساحة المسيحية، حيث إن محور الممانعة يريد السيطرة على هذه المساحة للسيطرة على لبنان، والحكيم يريد الإمساك بهذه المساحة لتشكّل قاعدة ومنطلق للبنان السيادة والدولة الفعلية.
فلو لم تسقط المنطقة الحرّة التي حولها رئيس “القوات” إلى حصن وقلعة لما حكم الأسد لبنان، وبالتالي المدخل لحكم لبنان كان يمرّ بإسقاط المنطقة الحرّة، أي بإسقاط “القوات”، وهذا ما يفسِّر الخطة السورية المحكمة بمعادلتي الإلغاء والاستبدال، لأن الإلغاء لا يكفي من دون الاستبدال كون الحياة تكره الفراغ، وقد نجح الدكتور جعجع بإسقاط المعادلة السورية من معتقله، فلو نجح الاستبدال لما قامت انتفاضة ولا من يحزنون.
وقد اعتبر “الحزب” أن النظام السوري أخطأ في هوية الشق الثاني من معادلته، معتقدًا أن الاستبدال يجب أن ينتمي إلى وجدان المسيحيين، فراهن على التحالف مع العماد عون الذي راكم شعبيته بمواجهة محور الممانعة وعقد معه الصفقة-المقايضة، ولكن الدكتور جعجع أسقط الاستبدال مجددًا ولو مع وقت وجهد إضافيين، كون العماد عون نجح في إيهام المسيحيين بأن خلفيته سيادية وأهدافه سيادية.
وبذلك يكون الدكتور جعجع قد أسقط في عهده ثلاث محاولات ممانعة لوضع اليدّ على لبنان من البوابة المسيحية: المحاولة الأولى من قلب “القوات” فاستدعت انتفاضة في العام 1986، والثانية باستبدال الخط المسيحي التاريخي بالبيوتات المسيحية المتحالفة مع النظام السوري، والثالثة باستبدال الخط التاريخي نفسه بتحالف العماد عون مع السيد حسن نصرالله، ولو نجحت أي محاولة من هذه المحاولات لسقطت كل الآمال بعودة سيادة ودولة فعلية.
صحيح أن مقولة التاريخ يعيد نفسه خاطئة، ولكن ما أشبه اليوم بالأمس في منتصف ثمانينات القرن الماضي عندما كانت تُحاك المؤامرات لإسقاط المنطقة الحرّة من خلال انتزاع التمثيل من “القوات اللبنانية” للسيطرة على لبنان، ولكن مع ثلاثة فوارق أساسية:
الفارق الأول أن النزاع اليوم من طبيعة سياسية لا عسكرية، وهذا أمر جيد ومطلوب الحفاظ عليه بقوة حرصًا على سلامة اللبنانيين.
الفارق الثاني أن الرأي العام المسيحي الذي كانت علامات التعب من الحرب تفشّت عنده فانطلت عليه شعارات العماد عون التي أسقطتها السنوات اللاحقة، ولكن ما النفع بعد أن سقطت المنطقة الحرّة، إلا أن هذا الرأي العام المسيحي أصبح على دراية وقناعة بأن خلاصه الوحيد يكمن في دولة فعلية واستقرار ثابت يتحقّق عن طريق “القوات”، فاستعاد الحكيم التمثيل والقرار وأسقط محاولات الاستبدال.
الفارق الثالث أن “القوات” التي كانت في ثمانينات القرن الماضي مشيطنة مسيحيًا، أصبحت اليوم القوة الأبرز وطنيًا والتي تشكل العمود الفقري والرافعة لاستعادة السيادة اللبنانية لجميع اللبنانيين.
وقد دارت السنوات دورتها ونجح الدكتور جعجع بإسقاط كل محاولات تغيير هوية لبنان من الداخل المسيحي، والجزء الأكبر من الصراع كان هدفه إخضاع المسيحيين لأنه بإخضاعهم يسقط الجسم الذي طالما دافع عن طبيعة لبنان التعددية واستقلاليته السياسية، والهدف في كل هذه الحقبة الطويلة كان يتراوح بين إزاحة الحكيم من المشهد السياسي، وبين النجاح بتعطيل تأثيره مسيحيًا واستبداله بقوى أخرى، ولكن لا مشروع إزاحته نجح، ولا مشروع تغيير خط المسيحيين نجح، وحده سمير جعجع نجح في الحفاظ على الخط المسيحي اللبناني التاريخي الذي يمثِّل الخميرة والاحتياطي الاستراتيجي لاستعادة لبنان مقوماته الدولتية والسيادية.
كتب شارل جبّور في “المسيرة” ـ العدد 1754
شارل جبّور ـ رئيس جهاز الإعلام والتواصل في “القوات اللبنانية”
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]