خوف “الخارج” يحرّك المبادرات في الداخل… كلمة الفصل عند اللبنانيين آخرًا!
يوم انتزع اللبنانيون استقلالهم بقوة اتحادهم في 22 تشرين الثاني 1943، كان من المتوقع أن ينعموا باستقرار سياسي طويل الأمد، لكن سرعان ما كشفت الأحداث اللاحقة عن واقع وطني هشّ أغرق الكيان الحديث العهد في دوامة الأزمات الداخلية وجعلته فريسة لتدخلات خارجية شرذمته ووضعت الاستحقاقات الدستورية، لا سيّما استحقاق رئاسة الجمهورية في مهب أكثر من شغور تفاوتت مدته وأسبابه، فيما تقاطعت أحداثه حيناً ولعبت فيها الصدفة أدوارها في أحيان أخرى.
ترافقت محطات الشغور الرئاسي جميعها مع مبادرات إنقاذية من المجتمعين الدولي والعربي، نجحت في التخفيف من وطأة الخلافات الداخلية لكنها عجزت عن إيجاد حلول مستدامة. هذا ما أدى إلى استمرار تدفق الموفدين الدوليين والعرب الذين طبعت أسماء بعضهم تاريخ لبنان إلى الأبد، وفي طليعتهم مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ريتشارد مورفي والموفد الأخضر الإبراهيمي والأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى في القرن الماضي، وقد لا يكون آخرهم أعضاء اللجنة الخماسية في القرن الحادي والعشرين.
عرف لبنان أولى محطات الشغور الرئاسي عام 1988 مع انتهاء ولاية الرئيس الأسبق أمين الجميّل، لتكرّ السبحة عامي 2007 و2014، وصولاً إلى شغور عام 2022 الذي دخل عامه الثاني.
صيغة بميزان الجوهرجي
عوامل عديدة جعلت من وطن الأرز أرضًا خصبة للتدخلات الخارجية على مراحل، يؤكد عضو تكتل الجمهورية القوية النائب غياث يزبك، معتبرًا أن استقرار لبنان اهتز بفعل خلل ارتكبه بعض اللبنانيين في حق الصيغة التي قام عليها بلدهم وهي صيغة “صُنعت بميزان الجوهرجي” على حدّ قوله.
ويضيف في حديثه لـ”المسيرة” أن لبنان منذ تأسيسه عام 1920 بُني على فلسفة تعاقدية اعتنقت الدستور ونادت بالديمقراطية وروح التوافق، مع مراعاة التنوّع الثقافي، حيث يُعتبر لبنان من أولى الدول التي نشأت في المنطقة بعد مصر والعراق، وكونه وطن أقليات كان على الأكثريات المكوّنة لهذا الوطن أي المسلمون والمسيحيون في تلك الفترة التأسيسية قطع أي تواصل وأي اتصال يؤثر على الانتماء وتجنّب الدخول في حروب مع الآخرين، نظرًا لقدرات البلد المحدودة. مع مراعاة عدم عزل البلد عن المنطقة المحيطة به بل التفاعل إيجابًا معها.
لكن هذه الصيغة تزعزعت، يتابع يزبك، بفعل التدخلات الخارجية التي وجدت لها في الداخل آذانا صاغية وأرضًا خصبة تنمو فيها، ويوضح “حين اختلفت الدول الكبرى اندلعت الحرب في لبنان، ويوم توافقت تم إسكات المدفع عام 1989 من خلال توقيع اتفاق الطائف”، مستذكرًا محطات عديدة شهدت على خلل في الصيغة اللبنانية بعد الاستقلال، تختلف في عنوانها لكن قاسمًا واحدًا يجمعها ألا وهو وجود فصيل أو مجموعة فصائل من اللبنانيين احتكمت للخارج فأتت على لبنان بالويلات وهزت استقراره، من خلال حروب صغيرة وعدم استقرار أمني أحيانًا وعبر الغرق في حروب واسعة أحيانًا أخرى.
في المقابل، يعيد يزيك أسباب إطلاق مبادرات دولية وعربية إلى “خوف الخارج من تحمّل تبعات وآثار هزّ الاستقرار في لبنان، ليس فقط على المنطقة العربية بل أيضًا على أوروبا”. ويستعرض في نبذة تاريخية قصيرة أبرز المحطات التي أدت إلى اهتزاز الصيغة والتوازنات، بدءًا بتدفق اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة 1948، مرورًا بالتدخلات السياسية الخارجية مع صعود نجم عبد الناصر بين عامي 1952 و1956، ثم ثورة الـ58 يوم لبّى بعض اللبنانيين نداءات خارج الحدود، إضافة إلى محاولة الانقلاب التي قام بها الحزب القومي السوري في 1960 و1961، وصولاً إلى اتفاق القاهرة عام 1969 الذي استباح سيادة لبنان وسمح بالعمل الفلسطيني العسكري عبر الحدود، ما أدى إلى اشتباكات بين المسلحين الفلسطينيين والمقاومة اللبنانية التي سعت إلى وقف الإنفلاش الفلسطيني عام 1969، ثم اندلاع معركة كبرى عام 1973 شنها الجيش اللبناني ضد المسلحين الفلسطينيين لكنه مُنع من استكمال سيطرته عليهم كما حدث في الأردن عام 1970، فإذ بنا نسقط في حرب عام 1975 ولاحقاً في حروب داخلية عامي 1988 و1989 وعامي 1990 و1991. وفيما بعد عندما تسلّم “الحزب” جنوب لبنان نشبت حروب خمسة مع إسرائيل عام 1993 و1996 و2000 و2006، وآخرها عام 2023 ولا تزال مستمرة حتى السنة الحالية.
في المقابل، يتحدث النائب يزبك عن موقفين وطنيين مضيئين في خضم الحقبة المظلمة الطويلة كان من المفترض أن يعيدا “ميزان الجوهرجي” إلى دقته فيما خص الصيغة اللبنانية. أحدهما لرئيس الجمهورية فؤاد شهاب عندما جاء إلى السلطة وقال للرئيس المصري عبد الناصر لك ما لك خارج حدودنا متمسكاً بما كُتب بالدستور عام 1943 عن أن لبنان لن يكون “لا مقرًا ولا ممرًا يؤذي المصالح العربية”، فيما لا تزال محفورة في الأذهان تلك الخيمة في رمزيتها التي نُصبت في جزء منها على الحدود اللبنانية والجزء الآخر على الحدود السورية وجلس عبد الناصر في الجهة السورية، وكانت سوريا في حال الوحدة مع مصر، وجلس فؤاد شهاب في الجهة اللبنانية.
والموقف الثاني المضيء صدر عن الرئيس الشهيد الشيخ بشير الجميّل قبل استشهاده حين رفض توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل وقال لمناحيم بيغين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إما يأتي السلام من البرلمان اللبناني ومن التنوّع الطائفي اللبناني، أو لن أكون مستعدًا لتوقيع اتفاق قهري بحق بعض اللبنانيين ويهز الاستقرار.
شغور 1988.. تقاطعات ومصادفات
شكّل شغور 1988 نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ لبنان، حيث أدى في نهايته إلى توقيع “اتفاق الطائف” أو “وثيقة الوفاق الوطني”، لكن خيوطه التاريخية تقاطعت في أكثر من محطة مع أحداث 1958 وشغور 2022 الذي دخل عامه الثاني، وفقاً للصحافي والناشط السياسي أمجد اسكندر.
ويشير اسكندر في حديثه لـ”المسيرة” إلى وجود أوجه شبه عديدة بين شغور 1988 والشغور الحالي. ففي عام 1988، رفض قائد الجيش الأسبق ميشال عون، الذي ترأس الحكومة الانتقالية، الإشراف على الانتخابات الرئاسية بسبب طموحه الشخصي للجلوس على كرسي بعبدا. وبالمقارنة، يسعى “الحزب” اليوم إما إلى تأمين انتخاب رئيس من صفوفه أو الاستمرار في تعطيل العملية الانتخابية. وجه الشبه الآخر يتمثل في افتعال الفريقين حروبًا لحرف الأنظار عن الانتخابات الرئاسية، حيث شنّ عون حربي الإلغاء والتحرير، بينما فتح “الحزب” جبهة الجنوب ضد إسرائيل.
مستطردًا، يلفت اسكندر إلى أن التاريخ يعيد نفسه مع إسم سليمان فرنجية. “في انتخابات 1982 رشحت سوريا سليمان فرنجية الجدّ وتمسكت به مثلما يتمسك اليوم الحزب بفرنجية الحفيد، وكما يواجه الأخير إعتراضًا مسيحيًا واسعًا كذلك الأمر حدث مع جده”.
ويتابع متحدثًا عن المبادرات الدولية والعربية وأبرزها القمة العربية التي عُقدت عام 1989 في الدار البيضاء، وانبثق عنها ما سُمّي باللجنة الثلاثية العليا لبحث القضية اللبنانية، بعدما انقسم البلد وأصبح له حكومتان واحدة انتقالية في المنطقة الشرقية يرأسها ميشال عون، والثانية في المنطقة الغربية برئاسة رشيد كرامي ثم سليم الحص، موضحاً أن اللجنة ضمت كلّ من العاهل السعودي آنذاك فهد بن عبد العزيز والملك المغربي الحسن الثاني، إضافة إلى الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد.
دور الأخضر الابراهيمي
في تلك المرحلة برز إسم الأخضر الإبراهيمي. ويوضح اسكندر أن تعيينه جاء من قبل “اللجنة الثلاثية العليا” كموفد عنها، ومُنح لاحقًا قدرة أكبر على التحرك، فأصبح بالتوازي موفدًا للجامعة العربية وانطلق للعمل على خط اتفاق الطائف عقب اندلاع حرب التحرير التي خلّفت وراءها دمارًا في المنطقة الشرقية. وبمسعى منه انتقل النواب إلى مدينة الطائف للبحث في ملف لبنان وإرساء حلّ مستدام له.
مهمة الإبراهيمي المحورية لم تخلُ من التعقيدات، يؤكد اسكندر الذي رافق تلك المرحلة المفصلية من تاريخ لبنان، ويضيف أن الموفد بذل جهودًا كبيرة لإقناع ميشال عون بالموافقة على وثيقة الوفاق الوطني وتسليم السلطة. وقام بزيارات متتالية له لمناقشة النقاط والتعديلات التي طلبها الأخير، بما في ذلك دوره بعد الاتفاق. إلا أن عون أصرّ على شرط انتخابه رئيسًا للجمهورية مقابل موافقته على الطائف، الأمر الذي كان مرفوضًا لدى الأطراف الأخرى، المسيحية والإسلامية، وكذلك سوريا في ذلك الوقت.
ويشرح اسكندر أن الأمور ازدادت سوءًا مع اندلاع حرب الإلغاء التي شنّها عون على “القوات اللبنانية”، وخلّفت دمارًا هائلاً في المنطقة المسيحية، قبل أن يعلن الرئيس المنتخب الياس الهراوي عن موقف حذر فيه من انهيار الدولة إن لم يُنفّذ الطائف ويخرج عون من قصر بعبدا، وحصل حينها الجيش السوري على غطاء دولي من الولايات المتحدة وآخر عربي لينهي تمرّد عون في 13 تشرين الاول عام 1990.
كيف دخلت سوريا على خط المفاوضات؟
حصول سوريا على الضوء الأخضر لإنهاء الحالة العونية، لم يكن وليد الصدفة، يؤكد اسكندر، بل تزامن الأمر مع هجوم صدام حسين على الكويت واحتلاله لها، حينها طلبت الولايات المتحدة من الدول العربية المشاركة في ردع الرئيس العراقي وعرضت سوريا المشاركة بقوات رمزية، فكان الثمن إطلاق يدها في لبنان، ومنذ تلك اللحظة انتهى دور الوساطة العربية وأصبح لبنان ورقة في يد السوريين حيث انعكست الهزيمة العسكرية لعون هزيمة سياسية للمسيحيين وهيمنت سوريا على لبنان حتى عام 2005.
خلفية تاريخية للطائف
يغوص اسكندر في التاريخ ليكشف عن معلومة ربما غرقت في أوراق النسيان تتعلّق بوثيقة الوفاق الوطني، حيث يؤكد أن الأخيرة لم تأتِ من عدم، بل كانت مستوحاة بشكل أساسي من “الوثيقة الدستورية” عام 1976 خلال ولاية رئيس الجمهورية الأسبق سليمان فرنجية، والتي تضمنت اقتراحات على شكل عناوين لحل الأزمة اللبنانية منذ بدايتها عام 1975، فيما شكلت “المسلّمات الأربع عشرة”، بتفاصيلها الأوسع، منطلقًا رئيسيًا آخر لوثيقة الطائف، وكانت عبارة عن مجموعة من المبادئ تهدف إلى تعزيز الاستقرار والسلم الأهلي في لبنان خلال عهد الرئيس الياس سركيس (1976-1982)، الذي تولّى الرئاسة في فترة صعبة من الحرب الأهلية اللبنانية.
في المقابل، يضيف اسكندر “تميّزت وثيقة الوفاق الوطني بتضمنها شقين أحدهما يتعلّق بالإصلاحات الدستورية والآخر بالسيادة الوطنية، لكونها طُرحت في ظل وجود احتلالين سوري وإسرائيلي، ولم يرفض التوجّه المسيحي أي “القوات اللبنانية” والكتائب اللبنانية على وجه الخصوص، برئاسة جورج سعادة حينها، التعديلات الدستورية شرط استعادة السيادة كاملة في المقابل من خلال انسحاب الجيش السوري وتنفيذ القرار 425 الذي ينظم انسحاب إسرائيل من الجنوب”.
إلا أن الوثيقة لم تنجح في تأمين التوازن بطريقة صحيحة، إذ لم يلتزم السوريون بالانسحاب فورًا من لبنان، بل تعهدوا بالانسحاب التدريجي على مدى سنتين، الأمر الذي لم يحصل أيضاً، كما غاب الضغط الدولي لتنفيذ القرار الأممي 425.
مورفيان أميركيان
يتحدث اسكندر عن مفارقة تاريخية جسّدها “مورفيان” في مفصلين أساسيين من تاريخ لبنان بفارق ثلاثين عامًا: خلال ثورة 1958 ومع الشغور الرئاسي عام 1988 حيث برز دور الموفد الأميركي ريتشارد مورفي عام 1988، مستبقًا المبادرة العربية، في محاولة أميركية لاختيار رئيس جمهورية، وعمل مورفي على خط سوريا الممسكة آنذاك بملف الرئاسة وحصل على خمسة أسماء رشحها البطريرك الماروني آنذاك نصرالله صفير، لكن الرئيس السوري حافظ الأسد رفضها جميعًا ووضع إسم مخايل الضاهر الذي لم يبدِ عليه الأميركيون أي اعتراض، بل أبلغوا المسيحيين بضرورة انتخابه أو مواجهة الفوضى. لكن الضاهر لم يُنتخب وعمّت الفوضى واندلعت الحروب.
أما وساطة روبرت مورفي فتجلّت خلال ثورة 1958، يضيف اسكندر، حيث عمل الموفد الأميركي على كسر نفوذ عبد الناصر في لبنان ومنع سقوط الرئيس اللبناني في تلك الحقبة كميل شمعون. وتزامنت الأحداث مع انقلاب عسكري في العراق، مما أدى إلى تدخل الأسطول السادس الأميركي في لبنان لعرقلة النفوذ الشيوعي من التمدّد داخله بعد خسارة الولايات المتحدة الحليف العراقي لصالحه، فانتشرت القوات الأميركية في الرملة البيضاء وأنطلياس، لكنها انسحبت بعد نحو خمسة أو ستة أشهر عندما استتب الوضع.
اللجنة الخماسية
دخلت اللجنة الخماسية المؤلفة من سفراء كل من الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر على خط التسريع في انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية ميشال عون لضمان استقرار لبنان وتأمين المساعدات الاقتصادية المطلوبة. ويشير اسكندر إلى أن اللجنة تشكّلت بعد المبادرة الكويتية وتحوّلت إلى اللجنة الخماسية لتوحيد جهود الدول المعنية، التي كانت تعمل سابقًا بشكل منفرد، ما أدى إلى عدم فعالية محاولاتها.
مع ذلك، يعتبر اسكندر أن وجود تباين في وجهات نظر أعضاء اللجنة أدى إلى تعثر الجهود في البداية، حيث كان كل طرف يقترح مرشحًا مختلفاً، مثل سليمان فرنجية من قبل الفرنسيين ومرشح آخر طرحه القطريون، مع تأكيده أن اللجنة اتفقت أخيرًا وقرّرت التوجّه نحو “الخيار الثالث”، أي المرشح التوافقي غير المحسوب على أي من الأطراف المتصارعة، فيما تسعى اللجنة الآن لإيجاد طريقة لإجراء التشاور بين اللبنانيين من دون خلق سابقة دستورية، في ظل رفض بعض الأطراف لفكرة الحوار، مثل “القوات اللبنانية”.
أمام التجاوزات الماضية والحالية بحق الصيغة اللبنانية بدأت أصوات داخلية تعلو وتنادي بتطبيق الفدرالية كحلّ مستدام يكفل عدم الوقوع في أخطاء وخطايا التاريخ.. فهل تصبح قابلة للتنفيذ أم يبقى لبنان ورقة تتقاذفها الصراعات المحلية والإقليمية؟
كتبت ألين الحاج في “المسيرة” ـ العدد 1754
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]