لبنان في العالم ـ إيلي الحايك.. المتفوق عالميًا والمناضل وطنيًا

حجم الخط

إيلي الحايكإيلي الحايك مكرمًاإيلي الحايك مكرمًاإيلي الحايك وزوجتهإيلي الحايك وأولادهزواج أهل إيلي الحايك

حتى الساعة، يرفض لبنان الذي يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية صعبة، دفع ثمنها المودعون اللبنانيون بالدرجة الأولى، متخلّين قصرًا عن جنى العمر، من الاستفادة من خبرة شباب “لبنان في العالم” الذين برعوا وأنقذوا اقتصاديًا وماليًا دولًا عديدة في عزّ أزماتها. الاقتصادي إيلي الحايك، اللبناني الهوى والهوية، هو واحد من متميزي لبنان الانتشار الذي خطّت يداه تواقيع بالمئات لنهضة دول متعثرة، كالأرجنتين واليونان وقبرص وغيرهم، منطلقًا من أحد أنجح المصارف العالمية، الى فضاء التميز الاقتصادي والمالي.

لم ينشأ إيلي الحايك في فرنسا أو الولايات المتحدة الأميركية أو لندن حيث يقيم اليوم، عاش في لبنان بين الأشرفية شتاء وعين علق صيفًا، وأنهى تخصصه الهندسي في جامعة القديس يوسف في بيروت في عزّ المواجهات، قبل أن يُقبل متفوقًا في مباريات الدخول الى الـHEC ـ Paris Business School، حيث أنهى اختصاصه هناك في إدارة المال والأعمال، متنقلًا بعدها بين JP Morgan في أولى تجاربه العملية الى HSBC، أحد أعرق المصارف العالمية. مسيرته الناجحة لفتت المعنيين بالشأن المالي والاقتصادي فتم تكريمه أكثر من مرة على المنصات العالمية.

نقل نضاله من لبنان، مؤمنًا بالقضية اللبنانية وبأحقيتها، الى مجال عمله، مُثْبِتًا مرة جديدة أن اللبنانيين يبرعون عندما تُقدم لهم الفرص والبيئة، ومُثَبِّتًا ما يعلمه الجميع أيضًا، أنه في لبنان “لا إرادة للإصلاح، لا إرادة للنهضة الاقتصادية، لا إرادة للتعاون مع الخبرات اللبنانية العالمية… لا رؤية واضحة”.

في عائلة “قانونية” من الطبقة الوسطى، نشأ وترعرع إيلي الحايك مع أشقائه الثلاثة، فوالده الذي كان محاميًا ودكتورًا ومدرسًا للحقوق في الجامعة اللبنانية، أسس مع بعض رفاقه أيضًا كلية الحقوق في زحلة، ووالدته التي كانت قاضية، عُينّت في سنوات خدمتها الأخيرة رئيسة لديوان المحاسبة بالوكالة. هذا الجوّ الثقافي تُرجم في التربية المنزلية وفي نقل حبّ الوطن الى إيلي وأخوته، لا سيما أن للوالدين انتمائين سياسيين “مختلفين ـ متطابقين”.  فالوالد المحامي كان كتائبيًا، ومن أعزّ أصدقاء الراحل موريس الجميّل “الإشبين”، وأهل الوالدة كانوا “كتلاويين”، ما كان يحتّم أجواء من النقاشات الحادة بين العائلتين، ضمن حدود المحبة والاحترام المتبادل.

من مدرسة الجمهور، تخرّج إيلي الحايك أواخر الثمانينيات متفوقًا، فقدّم مباريات الدخول الى الجامعة اليسوعية ESIB، للالتحاق بكلية الهندسة فيها، فتفوّق أيضًا. هذه النتيجة فتحت له إضافة الى 29 طالبًا آخر، فرصة الاستعداد لإجراء امتحانات في الجامعات الفرنسية. الرغبة والإصرار على التعلّم لم يمنعا إيلي الحايك من خوض غمار المواجهات دفاعًا عن لبنان، ففي سنته الجامعية الأولى، التحق بـ”القوات اللبنانية”، لأنه لم يتمكن، من مواصلة حياته بشكل طبيعي، فيما المئات من جيرانه وأصدقائه يضعون حياتهم في الخطر المطلق دفاعًا عن البلاد. “شعرت أن خطأ ما يدور في حياتي. كثيرون من عمري يدافعون عنا، فكيف يمكنني أن أتفرج عليهم من دون أن أكون معهم، لذلك قررت أنه طالما أنا موجود في لبنان، سأشارك في القتال، مثلي مثل أصدقائي ورفاقي من أبناء جيلي”، يؤكد إيلي الحايك لموقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني، مشددًا في الوقت عينه، على أن السبب الآخر الذي دفعه الى الانخراط في المواجهات أواخر الثمانينيات، كان وجود مشروع سياسي ومؤسسات تهتم بمجتمعنا، وكان ممكنًا لهذه التركيبة أن توصل لبنان الى الحلّ. لم يُصغِ ابن الـ18 عامًا حينها، الى معارضة والدته الشديدة لقراره هذا، وحمل ما سمعه من والده الذي حدّثه على انفراد قائلًا له: “صار عمرك 18 سنة وانت بتعرف شو لازم تعمل”، كي يحزم قراره متسلحًا بالرضى المستتر لوالده، ويلتحق بالجبهات.

يتذكر إيلي الحايك حروب أواخر الثمانينيات التي خيضت ضد “القوات اللبنانية” التي لم تكن تتوقع ولا هي مستعدة لهذا النوع من القتال. “هاتين الحربين كانتا بمثابة الكارثة بالنسبة الينا، وُضعنا أمام خيار وحيد هو الدفاع عن أنفسنا وقرانا وعن القوات اللبنانية. أخي الصغير كان في الجيش اللبناني، وترك الخدمة قبل يوم واحد من اندلاع الحرب… هل تتخيلين السيناريو الأسوأ”؟، يقول الحايك، الذي يروي كيف كان يوفق بين واجباته الوطنية على الجبهة وبين واجباته العلمية في الجامعة.   “كنا نقصد الجامعة في الأوقات التي تتوقف فيها المواجهات، وعندما تندلع المعارك نلتحق بالثكنات. أنا كنت أخدم في المدفعية، وغالبًا ما أكون في الثكنة أو في غرفة العمليات. في نهاية الأسبوع وأيام العطل كنا نتدرّب، ووقت السلم، نذهب مثلنا متل بقية الطلاب الى الجامعة”، يقول.

يتوقف إيلي الحايك عند حادثة جرت أثناء وقف إطلاق النار خلال حرب الإلغاء، “يومها، أعيد فتح الجامعات وتلقينا تعليمات من الدكتور سمير جعجع بعدم التعرض إطلاقًا للطلاب القادمين الى الكليات والجامعات التي كانت في الأشرفية، وHuvelin وكسروان. وللمفارقة، أن تهديدات بالاعتقال وصلت الى طلاب القوات الذين يتعلمون في جامعات تقع ضمن النطاق الجغرافي للجنرال ميشال عون كالـESIB مثلاً. طلبنا لقاء الحكيم واعترضنا بشدة قائلين له، إما أن يتعلم الجميع وإما فنلازم كلنا المنازل. كان جواب جعجع حاسمًا: “نحن هنا للتضحية ومن المستحيل أن نمنع الطلاب من الوصول الى جامعاتهم أو تهديدهم، حتى لو لم يتمكن طلاب القوات من الالتحاق. فإذا كنا هنا لنضحي بحياتنا، يمكننا بالتالي التضحية بسنة جامعية”. غضبت وقتها لهذا القرار، لكن مع الوقت، أيقنت كم كان جعجع محقًا وبعيد النظر وكم كان قراره صحيحًا ومناسبًا. وعلى الرغم من كل ذلك، لم نيأس. رحنا ندرس لوحدنا في الثكنات، علمًا أن بعض أصدقائنا الطلاب كانوا يجتازون الحواجز ويصوّرن الدروس الجامعية ويزودننا بها، كما أن عددًا من الأساتذة كانوا يمرون بنا على الثكنة، من وقت الى آخر، ليتأكدوا من أننا لا نحتاج الى مساعدة علمية. أذكر أنني كنت أدرس لوحدي ومن ثمّ أقدم امتحاني في Huvelin لتعذّر وصولي الى الـESIB. شكري وامتناني كبير لهؤلاء الرفاق والأساتذة، لأنه لولاهم، لما (كنَا) وكنت، أنهيت سنواتي الجامعية وتخرجت بتفوّق ومن دون تعثر”، يجزم إيلي الحايك.

بعد توقيع اتفاق الطائف، قدم إيلي الحايك مبارياته الجامعية الى فرنسا والتحق في العالم 1992 في واحدة من أهم جامعاتها في الاقتصاد وإدارة الأعمال HEC، تاركًا لبنان والرفاق ليتسنى له إكمال تخصصه، وعندما تخرّج في العام 1994، كان لبنان يغلي، فشقّ طريقه في العمل والنجاح من الخارج، لكن تألقه هذا لم يُنسه رفاق النضال في بلده المحتل والذين توقف بهم سبل العيش جراء الاضطهاد السياسي، وبكثير من الوفاء، يشكر تضحياتهم. “كان عامًا صعبًا، أوقف الحكيم، وعانى شباب القوات من المضايقات والاعتقالات، وامتَنَعَت أو لنقل مُنِعت الشركات الخاصة كما إدارات الدولة الرسمية عن توظيف شباب من القوات اللبنانية، وأذكر أيضًا أنه لم يتمكن أي طالب حقوق من القوات من الدخول الى المجال القضائي في تلك الفترة. كانت أوقاتًا عصيبة ومرحلة اضطهاد شديدة، فقررت أن أبقى خارجًا وأبدأ العمل من حيث أنا، لأنني كنت أعلم أن الظروف ليست مؤاتية ولا هي لمصلحتي، علمًا أن بعض الرفاق ممن كانوا يحصّلون علمهم في الـHEC عادوا الى لبنان وتسلموا مراكز جيدة في إدارات الدولة و إدارات المصارف. ومن هنا لا بدّ من تقدير تضحية الجيل القواتي الذي درس وتخرج وبقي في لبنان ولم يتمكن من العمل كما يجب وحورب في استلام المراكز على الرغم من كفاءته، لأنه كان مقموعًا. أنا كنت محظوظًا لأنني عملت في الخارج واحتللت مراكز عالمية مهمة، لكن كثر مثلي لم يتمكنوا من فعل الأمر نفسه في لبنان على الرغم من أنهم يستحقون، جراء الاضطهاد السياسي الذي كان سائدًا”، يشدد إيلي الحايك.

عندما بدأ إيلي الحايك عمله في JP Morgan bank، درس هندسة الكومبيوتر والاتصالات، ثم راح يعدّ الـmathematical models والبرامج الالكترونية المخصصة للبورصة، منتقلًا رويدًا رويدًا الى العمل الاقتصادي وإدارة المال. بعد الـ JP Morgan عمل الحايك في الـHSBC، متدرجًا من مسؤولية الى أخرى، حتى وصل به الأمر في نهاية المطاف الى إدارة التجارة بسندات الخزينة والفوائد للدول المتعثرة وللقطاعين العام والخاص وإعادة نهضتها. أدار حوالي 700 موظفًا، تواجدوا في أكثر من 40 دولة، أمّا أهم الإنجازات التي قام بها فتمثلت بتجنيب مصرفه خسائر فادحة، أيام الأزمة الاقتصادية الكبيرة، لا بل تمكّن الحايك مع فريق عمله من تحقيق أرباح طائلة للمصرف، كما مساعدة العديد من الدول خلال تلك الأزمة. وهنا، يتوقف الحايك عند الهيكليات الاقتصادية التي تقع مسؤولية إعدادها على الدولة المتعثرة المعنية بالأزمة حصرًا وذلك بالتعاون مع مصرفها المركزي وصندوق النقد الدولي الـIMF، بينما يرتكز عمل الحايك على تقديم المساعدة والمعونة في إعداد الخطة ووضع الملاحظات والمساعدة في التنفيذ.

“لبنان بلد صغير جغرافيًا وهو مكتظ بالسكان مثله مثل هونغ كونع وسينغافورة، هذه البلدان تعيش عادة على قطاع الخدمات. لا يمكن للبنان أن يكون بلدًا زراعيًا ضخمًا بحجم انتاجه الزراعي، فمثلًا سعر الأرض الزراعية في لبنان أغلى من سعر الأرض الزراعية في فرنسا على الرغم من كل المشاكل التي يمرّ بها، إضافة الى أن العمل في الأرض الزراعية في الجبل أصعب بكثير من العمل في السهول.  نعم، لبنان غير قادر على أن يكون بلدًا زراعيًا كبيرًا، لكن بإمكانه أن يكون بلدًا خدماتيًا كبيرًا، وأن يشكّل الممرّ الإلزاميّ للفن والسياحة والعمليات المالية والاقتصادية والعلم والمستشفيات والجامعات والملاهي والمطاعم. هذه القطاعات هي أساس الاقتصاد اللبناني، إلا أنها تتطلب استقرارًا دائمًا وانفتاحًا على الجميع، وعدم الدخول بمحاور في المنطقة وتحييد لبنان عن كل المشاكل”، يشدد الحايك الذي يجزم بأنه من المستحيل أن يكون   هناك نهضة اقتصادية قبل وضع التصور الاقتصادي للبلد. يتابع: “علينا أن نحدد ما هي الخدمات التي سنقدمها ومن هم الزبائن، وماذا سنصدر ولأي بلدان، وهل سياستنا الخارجية منسجمة مع طموحاتنا الاقتصادية؟ بعد ذلك يأتي دور السياسات النقدية والضريبية والهيكليات النقدية والاقتصادية وما الى ذلك”.

يأسف الحايك للمعالجات القائمة، مستغربًا التنظير الإعلامي المتعلق بالسياسات النقدية والضريبية من دون أن يكون هناك أي تصور اقتصادي، ويتابع: “يجب تحديد القطاع الذي علينا تطويره، وعليه نقرر ما إذا كان بالإمكان ذلك أو إعفائه من الضريبة أو إطلاقه الى الخارج، بمعنى آخر، على السياسية النقدية والضريبية اتّباع السياسة الاقتصادية، وعلى السياسة الاقتصادية اتّباع السياسة الخارجية وسياسة البلد ككل”.

يقطع الحايك الشك باليقين أنه من المستحيل وضع هيكليات مالية قبل تحديد الصورة الاقتصادية في لبنان، وإذ يبدي استغرابه لأن أحدًا لا يتناول هذه النقطة، يستغنم الفرصة للطلب من نواب “القوات اللبنانية” الإصرار في مجلس النواب على إجراء تحقيق جدي لكل الأموال التي خرجت من لينان بعد تشرين 2019، لأنه لا يجوز الكلام عن أي Haircut أو أي هيكلية مالية قبل التحقيق الجديّ وخلق الشفافية، كما أنه لا يجوز إطلاقًا تحميل صغار المودعين كل عبء الأزمة. “نحن نعيش في بلد مافيا، السيء هرب أمواله والآدمي، يتحمل كل العبء”، يقول الحايك.

لإيلي الحايك حنين كبير الى لبنان، الذي يتمنى أن يمضي فيه وقتًا أكبر، شغفه بأصوله اللبنانية نقله الى أولاده الذين يمثلون بلد الأرز في المباريات الدولية للتزلج. “أرافقهم في فصل الشتاء، كما نزور لبنان في الصيف، واعترف أنني تمكنت من إيجاد التوازن بين عملي وعائلتي وبلدي”.

تعلم إيلي الحايك كثيرًا من الهجرة، فإضافة الى التواضع، تُعلَّم الهجرة الاتكال على النفس ومعاشرة مجموعات بشرية من ثقافات مختلفة، بتفكيرها وهمومها وطريقة عيشها، يشدد الحايك، الذي كان يوّد أن يلمع في لبنان وللبنان، إلا أن الاضطهاد الذي لاحق شباب “القوات اللبنانية” قطع أي مجال لهذه الرغبة.

يُجِلّ إيلي الحايك النعمة التي حصل عليها بأنه محاط بأشخاص رائعين وأذكياء، كلما تواصل معهم، تعلم أكثر وكلما تقدم أكثر كلما اكتشف الفرص! ويُقدّر في المقابل وجود الاختلافات في المعتقدات والثقافات واللغات، معتبرًا إياها هدية كبيرة، خاصة بالنسبة للبنان، فوجود بوتقة تنصهر فيها الثقافات والهويات والحضارات ميزة عظيمة، والأمر متروك لنا للتواصل والتعرف على الآخرين وفهمهم، ما يجعلنا نختار طريقة العيش التي تناسبنا فنتطور ونزدهر جميعًا… بهذه الفلسفة الحياتية سار إيلي الحايك، فكانت أحد مفاتيح نجاحه وتألقه.

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل