لا يحتاج القلم تفكيرًا عميقًا عندما يكتب سيرة مناضلين في “القوات اللبنانية”، أقله قلم صاحبة هذه السطور، لأن حكاياتهم المشرقة تكاد ترسم سطورها لوحدها، لكن عندما تكتب عن مناضل هو ابن الضيعة، قد تشعر ببعض الصعوبة التي تلامس الإحراج، إذ قد يخرج القلم عن بعض من موضوعيته، خصوصًا عندما يكون المقصود صديق قديم مقرّب جدًا، عايشنا الكثير من تفاصيل حياته، حتى لو نقل نضاله الى بلاد الاغتراب. نحكي عن الرفيق نبيل شاوول، منسق منطقة واشنطن دي سي السابق، القواتي المعتّق بخبرته ونضاله، وذاك العشق اللامتناهي للقضية التي تحمل اسم حرية وسيادة لبنان.
“القوات اللبنانية بالنسبة الي مش حزب منتمي اليه، القوات أكبر وأعظم بكتير من هيك، القوات نمط حياة، عقيدة، حب بيطلع من قلبك ع بلادك، وبذات الوقت خوف عليها وشجاعة لمواجهة كل الأعداء، والحمدلله أعداء لبنان كتار” يقول أبو بول لموقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني.
من عين زبده، تلك القرية البقاعية الصغيرة المتربعة على تلة الأخضر المشرف على سهل البقاع، المتكئة الى كف جبل الباروك، الى متاريس الجبهات، الى واشنطن، العاصمة الأميركية اللامتناهية التحديات، رحلة عمر عبرها المناضل، ومع ذلك بقي ابن الضيعة الحامل كل عاداتها وتقاليدها وصلابتها، والأهم، بقي ابن القضية التي حملها معه وعمل لأجلها دائمًا، ومن حمل البارودة بداية السبعينات ما زال يحملها حتى اللحظة وإن اختلفت أوجه النضال.
“اواخر العام 1971، كنا لا نزال في المدرسة وبدأنا نسمع بأخبار المسلحين الفلسطينيين، بدأنا نشعر بخطر وجودي حقيقي علينا. بيتنا كان في عين الرمانة قريب جدًا لخطوط التماس، وفجأة اندلعت الاشتباكات بين الفلسطينيين والجيش اللبناني، كنا نرى بأمّ العين استفزازاتهم في الأحياء المجاورة لبيتنا، وبعد فترة بدأت التظاهرات تعم المدارس والجامعات في بيروت، ضد الوجود الفلسطيني المسلح، وذات يوم أقفلت مدرستنا وذهبنا جميعًا لنشارك في التظاهرات مساندة للجيش ضد هؤلاء المخربين، كنت مراهقًا، شاركت ولم أعرف أن ما يحصل سيغير مجرى حياتي كلها، ولا أنسى ما حصل ذات يوم من العام 1975 عندما دخل مسلحون فلسطينيون الشارع حيث نسكن، وبدأوا إطلاق النار واستفزاز الأهالي، وبحركة لا إرادية سحب أبي مسدسه لإطلاق النار على أحدهم فصرخت أمي “لاء يا جريس إذا عرفوا مصدر النار بيفوتوا ع البيت وبيقتلونا”، في هذه اللحظة شعرت أن رياحًا أو نارًا ما تهب على حياتي، وأن الخطر أصبح داهمًا جدًا، فقررت أن أنضم الى الشباب وأواجه معهم هؤلاء” يقول نبيل.
كما غالبية المقاومين، ندهتهم تلك الندّاهة الى سبل المقاومة حتى الاستشهاد، حين رأوا لبنان ينزلق الى قعر الغياب والزوال، لم يكونوا في حاجة لموافقة أحد، بل كانوا يحتاجون بركة الرب وحمايته ودعمه “والأهل ملحوق عليهن إذا رفضوا بسبب خوفن علينا”. لكن نبيل لم ينتظر سماع موافقة أحد، فجأة كبر ورفاقه، صاروا رجالًا وهم بعد في أول المراهقة، وحملوا مسؤولية وطن على فوهة بنادقهم المقدسة التي تعمدت بالنار والبخور وتراب الأرض الغالية، هذا شأنهم جميعًا، فذهب وأخوته أيضاً الى ساحات الخطر “كنت مراهق أنا ورفاقي، وتخلينا عن الكثير من تفاصيل حياة المراهقين لنلتحق بالجبهات، كنا نراقب حياة المراهقين متلنا ونحنا على المتراس، وتمرق علينا فصول السنة الشوب والبرد، ونحنا ع متاريسنا، كانت مرحلة قاسية لا شك، خصوصًا انو ابتعدنا عن أهالينا وعن الجو الطبيعي للشباب، وما منعرف أيمتى نموت، ما كنت خاف من الاستشهاد، هيدي قمة البطولة والتضحية، بس كنت خاف على أمي إذا أنا متت شو رح تعمل” يقول نبيل.
كانوا يافعين وتحملوا مسؤولية بقاء وطن، خاضوا معارك شرسة قاسية، أكبر بكثير من خبرتهم وحتى من قدرتهم على الانتصار، وانتصروا، اكتشفوا لاحقًا أنهم فعلًا انتصروا “أكتر معركة قاسية خضتها كانت وقت هجوم منظمة التحرير المدعومة من السوريين على تل الزعتر، كانت أول معركة كبيرة حقيقية أخوضها وكان عمري 14 سنة فقط، ولم نكن مؤهلين بعد لدخول معارك مماثلة، وكان الاندفاع فرديًا وأسلحتنا متواضعة في مقابل مدافعهم ورشاشاتهم، يومها بقينا ليومين في تل الزعتر وخسرنا الكثير من الشباب والجرحى، كانت صعبة جدًا وسببت لي صدمة لفرط قساوتها، فيكي تقولي تعمدت بالنار الحقيقية من خلال هالمعركة، ومن بعدها اعتدنا، لأن صار عودنا أقسى” يقول المناضل.
عبرت الأيام، وصار نبيل ابن المتراس، الى أن اكتشف أن عليه أن يبني شيئًا لنفسه، لحياته الخاصة، فقرر أن يسافر بعدما ضاق الوطن بأبنائه، وكان الاحتلال السوري بدأ يطبق أنيابه على مفاصل لبنان كافة، “لم أندم على شيء، لأن لو لم ندافع عن شعبنا وديننا ووطننا، لكان اندثر لبنان الذي نعرفه، وحتى اللحظة أكمل المسيرة وأنا فخور جدًا بما فعلت وما أفعله الآن. ومهما ضاعت منا فرص في الحياة، لكن الأهم أننا حافظنا على وطننا رغم الثمن الباهظ الذي دفعناه” يقول نبيل باعتزاز كبير.
الى واشنطن دي سي انتقل المناضل ولم يهاجر، ذهب الى الغربة وبقي قلبه هنا، “فلّيت وبعدو قلبي هون مع الشاب، وبقي فوق عند كوع ضيعتي الحلوة وبيتي الحلو، كنت مضطر سافر لأعمل مستقبل كنت أجّلتو لأجل الدفاع عن بلادي، لم أهرب الى الهجرة، متل ما بيفكروا البعض، لكن كان يجب علي أن أبني مستقبلي، والهجرة قدّمت لي الأمان، وبنيت عائلة وأيضًا أكملت نضالي” يقول.
في واشنطن اتخذ النضال طابعًا آخر، تحولت القوات هناك الى سيرة حياة يومية، الى ما يشبه الصلاة التي لا يمكن إغفالها ولو ليوم واحد، صارت القضية بنت البيت في الأرض الغريبة، صارت من ضمن اليوميات، من الهموم التي كانت تزداد كلما اشتد الوضع سوءًا في لبنان، “كان يجب أن نتحرك في الاتجاهات كافة، خصوصًا عندما كان الحكيم في الاعتقال. هنا بنينا شبكة علاقات كبيرة جدًا سواء مع الكونغرس أو مع الجالية اللبنانية ومع مكونات المجتمع كافة، كنا نعمل ليل نهار لنتمكّن من لملمة صفوفنا والتلاقي وإكمال مسيرة القوات عبر الانتشار، التقينا بمجموعة كبيرة من الرفاق هنا، قواتيون رائعون قلوبهم على البلد ويريدون فعل المستحيل لمدّ يد المساعدة وبأي طريقة ممكنة، أسسنا من جديد وتوليت مسؤولية منسقية القوات هنا لمدة 13 سنة، لأن هذا ما قرره الرفاق، وأكملنا نضالنا، وأعتقد أن وجودنا في الاغتراب كان مهمًا جدًا لتقوية موقعنا في وقت كان ممنوع على اللبنانيين التلفّظ بكلمة قوات كي لا يُعتقل من أزلام الاحتلال السوري، فأسسنا ونظّمنا بعضنا في الاغتراب وساعدنا حتى رفاقنا في الاغتراب بأوروبا وأستراليا، ما أعطى نتائج كبيرة جدًا كقوات لبنانية في الخارج”، يقول نبيل الذي ما زال في نشاطه الحزبي مع رفاقه في واشنطن، وعلى تواصل دائم مع رفاقه في لبنان وخصوصًا أبناء ضيعته.
في كل ذاك الصخب، تبقى للحكيم مكانة خاصة في قلب المغترب الحاضر، يحبه يحترمه ويقدر مسيرته البطولية “بحب قول للحكيم ان لنا ملئ الثقة به وبقراراته الحكيمة ومواقفه النبيلة. بتعرفي فيرا إنو كنت خاف يطلع الحكيم من الاعتقال راهب؟ لأن من خلال ادائه ونفسيته النظيفة وإرادته الصلبة، شعرت أنه راهب، لا يكره ولم يحقد حتى على سجّانه رغم معاناته الطويلة في الاعتقال. أنا اشكره جدًا على كل تضحياته، وأقول إنه انسان لا يتكرر، لا يتعب لا ييأس لا يتراجع، ولا يساوم على مبادئه ولا يضحي برفاقه مهما كانت الظروف، ربنا يعطيه الصحة، ولولا سمير جعجع في قيادة القوات خصوصًا في هذه الأيام، لكنا الآن في مكان ضعيف جدًا جدًا كقوات لبنانية” يقول نبيل.
هل النضال بزمن الحرب أصعب بكثير من زمن السلم؟ “أكيد أكيد، لأن الموت والشهادة والخوف والدمار والضياع، هذه مشاعر ترافق دائمًا المعركة العسكرية، ورغم أننا نخوض اليوم معركة أخرى صعبة جدًا ووجودية كلبنانيين وكوطن، ولكن ورغم قسوة ما نواجه، الا أنها أخف قسوة من الحرب المباشرة مع العدو، خضنا معاركنا وحافظنا على الكيان اللبناني، والآن أيضًا نخوض الاستحقاق إياه إنما بأساليب مختلفة” يجيب.
بقي سؤال يا صديقي المناضل ابن ضيعتي، هل إذا عادت الحرب تعود اليها؟
يضحك نبيل بحنان المشتاق لأرضه وضيعته “انا بحب ضل اشتغل، وبحب ضل أعطي أكثر ما يمكنني لنبقى أحياء في القضية والقضية تحيا بوفائنا لها، إذا عادت الحرب وفُرضت علينا، وكما يقول الحكيم، إذا الجيش ما تمكّن من حمايتنا كما يجب، أنا أول مناضل أعود الى المقاومة العسكرية، لأن السنين الطويلة التي حاربنا وقدّمنا فيها تضحياتنا، لن ننساها ما حيينا. طالما أنا قادر سأفعل وأحمل البارودة من جديد. كل ما قمت به أنا فخور به جدًا جدًا، ولم أندم ولا لحظة على كل ما فعلت. بخبرك إنو صعب النضال في الاغتراب، لأن كلنا نعاني من نقص كبير يعيش في داخلنا وهو أننا لسنا في بلدنا، ولكن الحياة الطبيعية تساعدنا وتعطينا الزخم اللازم. فخور أني قوات لبنانية ابن القضية وسأبقى ما حييت رافعًا هذا الشعار” يقول نبيل ويمضي الى نضاله وينتظر أيلول بفارغ الصبر ليأتي لبنان، ويستمد من أهله وأصدقائه ذخيرة لأيام اغتراب، صحيح فيها ما فيها من مسافات بعد كبيرة جدًا، لكن لا مسافات في المحبة والانتماء، وقلب القواتي في الانتشار هنا في هذه الأرض، ومن أجلها جعل من الانتشار ساحات لقاء ونضال لأجل لبنان. “انطريني على فنجان القهوة بجنينة البيت بالضيعة فيرا”… وسأفعل.