ظنوا أنهم سيسجنونني. وبذلك قد يكون الاحتلال قد أزال خصمه الرئيسي من المشهد السياسي. لكنهم كانوا مخطئين. لا شك أنني جسديًا كنت في السجن، لكنني في الواقع كنت في مكان آخر. “المكان الآخر”. على الرغم من إحساسي وتعاطفي الشديد مع أنين المعتقلين الآخرين تحت التعذيب، تمكنت من تجاوز الصخب المحيط بي ولجأت إلى مكان آخر. أمضيت أحد عشر عامًا في طابقي السفلي المتعفّن، أتأمل وأكتشف هذا “البعد الآخر”، وقد جعل كارل يونج الرائد في التنمية الشخصية، هذا الاكتشاف المضيء أسهل بالنسبة لي، في هذا الفضاء المقيد والمتناقض لأي تحرر شخصي، وهو السجن.
… بابتسامة ملؤها الحنين رسمتها شفتاه، رددّ جعجع هذه العبارة اليونانية التي نتذكرها جيدًا: “نحن لا نصل إلى التنوير من خلال تخيل النور، لكن عبر جلب الظلام الداخلي إلى الوعي. من ينظر إلى الخارج، يحلم. ومن ينظر إلى نفسه، يصحو”.
كان هذا المشروع، على حافة الخطر… والخلاص الشخصي، كان في بعض الأحيان مؤكدًا، لكنّ من المؤكد أيضًا أن قضاء أيامي في التأمل كان مستنزفاً.
ولإلهاء نفسي، غالبًا ما كنت أتابع الأخبار التي يمكن أن أصفها بالعادية، من السياسة العالمية الى الاقتصاد، والجيبوبوليتيك وما إلى ذلك…
من هم مرشديّ الروحيين ومصادر إلهامي؟
أختار أولاً الرهبان والنساك الموارنة. هؤلاء قادوا طريقي في العديد من المفترقات المحفوفة بالمخاطر في حياتي، وهم الذين ساعدوني في عبوري “الصحراء”. كيف لا نفكر مثلًا بالمونسنيور فرانسيس الزايك؟ بفضل “نداء الصحراء” الذي أعده، اكتشفت بكثير من التعجب عالم النساك، وأدركت تحديات وتقلبات هذا المسار الروحي.
إن قوة الصحراء والنساك الذين يعيشون هناك، كالقديس أنطونيوس الكبير، شفيع الرهبان، هي شكل من أشكال الوجود البدائي الذي يفضل أسبقية الروح على المادة ويجعل غير المرئي ملموسًا.
في زنزانتي، اختبرت في الصمت والظلام، صحراء مماثلة، سمحت لي باكتشاف رجاء ونور الواقع الأبدي؛ يسوع المسيح.
قبل اعتقالي، كنت قد التقيت بالمونسنيور الزايك في دير القطارة، وقد عرّفني هذا اللقاء على عالم بالغ الأهمية، من Pierre Teilhard de Chardin وفلسفته الأخروية الضرورية.
كنت بدأت أيضًا، ومن دون أن يكون لدي الوقت الكافي لإنهاء بحثي، بقراءة الفيلسوف الألماني هيغل وتقدير جدليته، قبل أن أكتشف لاحقًا في السجن نظريته عن التاريخ العالمي وتحديدًا كتابه “العقل في التاريخ”.
لم أكن أدرك أن هذه القراءات التي جمعتها في الأوقات النادرة التي كانت الجبهة فيها هادئة، سترافقني بعد عشر سنوات في سجني.
كانت هذه هي الركائز التي عززت طريقتي في رؤية العالم وفهمه، لكنني لم أركز فقط على الفلاسفة. لقد أتاحت لي أعمال القديسين وسيرهم اكتشافًا أكثر روحانية.
وجدت في كتابات وحياة القديسة Thérèse d’Avilaعزاءً يفوق الفهم وقوةً لم تنبع من هذا العالم.
أتذكر جيدًا أنني قرأت سيرتها الذاتية التي كتبتها مارسيل أوكلير مرتين. كان أسلوبها والروحانية التي انبثقت من نصها آسرتين للغاية.
أعترف أنني معجب جدًا بالكرمليات الثلاث: Elisabeth de la Trinité، Thérèse d’Avila وتريزيا الطفل يسوع. كنت بحاجة إلى الجانب التأملي للسجن، كي أفهم الصدى الروحي لكتابات هؤلاء القديسين الثلاثة.
الاضطراب في العالم، يمنعنا أحيانًا كثيرة وللأسف، من الإصغاء إلى الله في صمت الكتب. حفظت في ذهني، حتى نهاية سجني، الذي تجاوزته لحظات من عدم اليقين والخطر، هذه العبارة من القديسة Thérèse d’Avila: “وليأتي ما سيأتي. الألم من التعب، وليهمس من يريد… حتى لو متنا في الطريق، أو افتقرنا إلى الشجاعة في هذه المحنة”.
كيف عاش سمير جعجع إطلاق سواحه؟ وكيف وجد لبنان بعد 11 عامًا من الاعتقال؟
لم يتغيّر لبنان، لكن للأسف، لم تأتِ حريتي إلا بعد حدث مأساوي: الاغتيال الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري وقلب المشهد السياسي رأسًا على عقب. في الواقع، أصبح الوجود السوري العسكري موضع شك، لا بل أكثر، تعرض لانتقادات شديدة بسبب الديناميكية الشعبية الجديدة. وأعقب ذلك انسحاب جيش الاحتلال السوري في 26 نيسان 2005. أعتبر هذا الحدث المحوري بداية حقبة جديدة في تاريخ لبنان الحديث؛ حقبة تحالف 14 آذار المتعدد الأديان، وقد تلخص في الشعار الذي رُفع ورُدد في ساحة الشهداء: “لبنان أولاً”. حظيت هذه الحركة بدعم أغلبية الشعب اللبناني… بل بدعم 70% من الشعب اللبناني!
هذه الموجة السيادية الجديدة في البلاد لم تناسب حزب الله وتعارضت بشكل كبير مع مشروع الميليشيا في لبنان. أي فرض الثورة الإسلامية الإيرانية في بلاد الأرز. وبدلاً من شعار “لبنان أولاً”، رفع “الحزب” شعار “الأمة أولاً”، أي “ولاية الفقيه”.
المصدرـ كتاب سمير جعجع مستقبل لبنان للكاتبة مايا خضرا