سلامنا معكم ليبقى لبنان  

حجم الخط

صحيفة النهار – د. ميشال الشمّاعي

 

سلام على مَن يحبُّ السلام. لأنّنا أبناء السلام. ونأبى الظلم من أنّى أتى. ونقف مع المظلوم كائن من كان، وأينما كان. بين السلة والذلّة نحن لا نؤثر طاعة اللئام ‏على مصارع الكرام، لأنّ كرامتنا الإنسانيّة لا تسمح لنا بذلك، وكرامتنا الوطنيّة تأبى أن يكون لبنان ثانيًا. لذلك كنّا ونبقى مقاومة لبنانيّة، لا ترضخ ولا تستكين، ولن ترتاح حتّى يبقى ويستمر لبنان بكيانيّته التي نعرفها، ولا نريد سواها على مدى الـ10452 كم2 .

 

الحديث عن جوهر الأمور وربطها بالعقائد الدّينيّة هو ضرب من ضروب تشييع هذه العقائد. والأدهى الاعتراف العلني الذي بات اليوم مستساغًا، بإرساء ظواهر ثقافيّة واجتماعيّة لا تشبه كيانيّتنا اللبنانيّة بشيء هو قمّة الازدراء بجوهر الوجود اللبناني. صحيح أنّ قاعدة بلدنا التكوينيّة هي تلك التعدّديّة الثقافيّة في الهويّات المجتمعيّة، لكنّ هذه التعدّديّة لا يمكن أن تستمرّ إلا في ظلّ احترام فروعها بعضهم بعضًا.

 

وأيّ حركة مقاومة في ظلّ وجود دولة سيّدة حرّة مستقلّة تفقد شرعيّة وجودها. لا بل تتحوّل إلى فصيل مسلّح خارج عن القانون. أمّا المقاومة الفلسطينيّة فهي تبقى مشروعة حتّى قيام دولة فلسطين بالشكل الذي يريده أبناؤها هم فقط، انطلاقًا من حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، لا أن يتمّ تقرير مصير الشعوب بالوكالة عنها من قبل دول أو منظّمات تصنيفها معروف، وطبيعة عملها معروفة أكثر.

 

والطامة الكبرى هي في استغلال هذه المقاومة الشريفة لمصالح دوليّة. والأكثر هو استرخاص دماء الشباب العرب، عبر إخراجهم من عروبتهم، ووضعهم تحت مظلّة أعمق وأعلق من العروبة وهي المذهبيّة الدينيّة العقائديّة التي تتفوّق على الانتماء الهويّاتي والحضاري العربي. وبذلك تكون الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران قد استعادت مجد الامبراطوريّة الفارسيّة من بوّابة مختلفة، مفتاحها العقيدة الصفويّة، وليس الانتماء للوطن الأكبر؛ عنيت هنا الوطن العربي.

 

ولا يعنينا كلبنانيّين كيانيّين ما قد يصيب أميركا أو أوروبا أو أي بلد في العالم بمقدار ما قد يثيب ذلك بلدنا فقط لا غير. وممّا لا شكّ فيه أنّ التداعيات الجيوبوليتيكيّة على الدّولة اللبنانيّة هي أكبر من أن تستطيع تحمّلها كدولة سيّدة وحرّة ومستقلّة. فكيف بالحري إذا كانت هذه الدّولة قد تنازلت عن سيادتها لصالح منظّمات ومحاور إقليميّة أو حتّى دوليّة عبر تاريخها، ومنذ لحظة نشوئها؟

 

لذلك نحن معنيّون فقط بتحصين دولتنا لأنّ كرامتنا من كرامة وجوديّتها. وعندما يتزعزع هذا الوجود لحسابات لا تمتّ إليه بصله عندها نفقد أحقّيّة وجودنا كدولة وسط مجموعة الدّول والأوطان. وبالتّالي نكون قد ساهمنا بأنفسنا بتفتيت دولتنا لحسابات دوليّة قد لا تعنينا في المستقبل. والأخطر قد تكون على حسابنا ومنه إذا لم نعرف كيفيّة تحصين ذواتنا.

والحديث المطّرد عن ربط مصير بلد بأكمله بقرار يتّخَذ خارج حدوده، والأدهى يسلّم إلى قادة يدّعون المقاومة، ويعتبرون التدمير والأضاحي البشريّة فرائض دينيّة لانتصار مشروعهم الأيديولوجي هي أخطر ما يكون على وطن طبيعته التكوينيّة الوجوديّة هي التعدّديّة الحضاريّة. هذه التعدّديّة المبنيّة على المؤالفة بين مكوّناته، وليس المخالفَة فيما بينها لتكريس غلبة لإحداها على المجموعة. تارةً بالديمغرافية وتارةً بالحلاف الاقليميّة والدّوليّة.

ولا تكون البطولة في استخدام اللغة نفسها التي يستخدمها العدّو ، أو بمواجهته بالأساليب التقليديّة عينها. إن أردنا أن نواجه أيّ عدوّ علينا أن نحصّنا وجوديّة دولتنا بدءًا من الاقتصاد والثقافة وليس انتهاء بالعسكر والسلاح. ولن نقبل أن يكون للبنان إلا دولة تشبه أبناءه كلّهم. ومَن لا يرى نفسه ممثّلًا في هذه الدّولة فهذا يعني حتمًا أنّه قد أخرج نفسه بنفسه من هذه الدّولة.

 

أمّا الحديث عن بيئة حاضنة للحرب فلا يكون بالاعتماد على أقلّ من ثلاثين بالمئة فقط من أبناء الوطن. إمّا أن يكون لبنان كلّه داعمًا وحاضنًا للدولة التي تريد أن تحارب فيه، وإمّا لا يستطيع أحد أن يفرض علينا حربًا لا نرى فيها صالحًا لوطننا. فمَن قرّر هذه الحرب وضعنا بمواجهة مع العالم. ولن نكون في مواجهة العالم كرمى عيون أحد على حساب مصلحتنا الوطنيّة.

 

زمن البطولات الإلهيّة ولّى. وتظهير الانكسار والدّمار انتصار على حساب الانسان هي مسألة ممجوجة باتت خارج التّاريخ. ومَن وضع بنفسه خارج مسار التّاريخ فهو أعطى الاذن للجغرافيا بإخراجه منها. وهذا ما لن نقبل به. فلبنان لا يكون لبنان متى قرّر أحد إخراج مكوّن حضاريّ منه. ولنا في تجارب الثمانينيّات خير دليل. ولقد نجح مَن أعاد قراءة مساره النضالي قراءة نقديّة في وضع قطار الجمهوريّة على سكّته بهدف بناء جمهوريّة قويّة.

 

وحتّى يقتنع هؤلاء جميعهم بأنّ قطار التّاريخ لن يسير خارج سكّة الجغرافيا، أو في بعدٍ خامسٍ خارج إطار الزّمن الحقيقي الذي نعيشه، خدمةً لبعدٍ هيوليّ خارج المادّة الزمنيّة؛ لن نتخلّى عن حقّنا في تقرير مصيرنا ومصير الذين أولونا ثقتهم في هذا الوطن، باستثناء أولئك الذين يتفاخرون بولائهم الذمّيّ لفكر لا يشبه لبنانيّتنا الكيانيّة بشيء، وأولئك الذين يربضون في المنطقة الرماديّة إمّا عجزًا وإمّا خوفًا أو هربًا من المواجهة، سنبقى في الصفوف الأماميّة في هذه المواجهة بالذات حتّى تصويب مسار الوطن مع مسار التّاريخ. ومَن يجرؤ … فلينضمّ !​

المصدر:
النهار

خبر عاجل