هناك، في بلاد العمّ سام، إسم لبناني لامع من أصول شمالية، غيّر حياة كثيرين وأعطى الأمل لقسم كبير ممن فقده. عندما انطلق من لبنان طبيبًا متخرجًا من الجامعة اللبنانية، لم يكن يعلم ما الذي ينتظره في مكان بعيد كلّ البعد عن جذوره. طبعًا، كان يحلم بالنجاح، والحلم الممزوج بالعرق والجدّ والمثابرة أعطى ثماره المرجوة، فبات البروفسور اللبناني جان فرنسيس، علمًا من أعلام لبنان في العالم، وتحديدًا في الولايات المتحدة الأميركية، مسطرًا في طبّ الكلى والبنكرياس وزراعة الأعضاء، احترافية ونجاحًا بارزين، مكّناه من حصد عشرات الجوائز العالمية، وكان أهمها في العام 2022، إذ نال لقب أعظم طبيب في الولايات المتحدة الأميركية.
في جعبته مسؤوليات جسيمة، فمن يصل الى النجاح لا يحق له التراجع، وممنوع عليه أن يتعب أو يملّ. اليوم، يشغل البروفسور جان فرنسيس إدارة قسم زراعة الكلي والبنكرياس في هارفرد وجامعة بوسطن، وقد ذاع صيته من خلال عمله الابتكاري في إدارة الأمراض النادرة التي تصيب جزءًا من جهاز المناعة، والتي يمكن أن تؤدي إلى أمراض خطيرة مميتة للغاية.
من حدشيت الى جبيل فولاية كونيتيكت الأميركية… هكذا تنقل. وفي عائلة مؤلفة من والدين وشقيق، نشأ وترعرع، أمّا تربية الوالدين فركّزت بشكل أساسي على التعليم، لضمان النجاح. أمضى فرنسيس طفولته في جبيل، بعدما قررّت العائلة الانتقال من حدشيت لأسباب تتعلق بعمل الوالد، فقصد مدرستي “الفرير ماريست” والقديس يوسف الثانوية في جبيل. تفوّقه المدرسي لا سيما في العلوم والرياضيات، سمح له بالالتحاق بكلية الطب في الجامعة اللبنانية بعد امتحان شاق. كان ينوي البقاء في لبنان وإكمال تدربه والعمل فيه، بعد انتهائه من تخصصه، والاستقرار الى جانب والديه المتقدمين بالسنن اللذين رزقا بعائلتهما الصغيرة بعد 18 عامًا من الزواج، لكن نداء القلب غيّر قراره. لقاؤه بحب حياته وزوجته كلوديا نادر، الطبيبة المتدربة الذي كان يشرف هو على تعليمها، والتي كانت مُصممة على إكمال تخصصها في أميركا، قلب مقاييس القرار.
“كانت طفولتي سعيدة، وكنت أشعر دائمًا بالأمان، لكن هذا لم يدم كما كان الحال بالنسبة للعديد من اللبنانيين الذين نشأوا خلال الحرب اللبنانية. رأيت والدي يكافح للحفاظ على وظيفته وأعماله وكاد يصل إلى نقطة إعلان الإفلاس، وعلى الرغم من كل ذلك، حاول هو ووالدتي بذل قصارى جهدهما لحمايتنا، وأرادوا مني التركيز على دراستي. لقد رأوا فيّ الأمل لعائلتنا وقصة النجاح المحتملة في حياتهم. هذا الأمر جعلني أكثر تفانيًا وساعدني حقًا على أن أصبح ما أنا عليه الآن، لأنه كان كل همّي إسعادهم، ويعود كامل الفضل في نجاحي هذا لعائلتي التي آمنت بنجاحي دائمًا”، يقول البروفسور فرنسيس في حديث خاص لموقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني، مشيرًا الى أنه وخلال سنوات الدراسة، اضطرت العائلة، ونتيجة المواجهات التي كانت دائرة، الى الانتقال من جبيل إلى حدشيت وحصرون، فالتحق بثانوية حصرون لإكمال صف البكالوريا فيها.
بعد انتهاء تخصصه، تزّوج البروفسور فرنسيس من الطبيبة كلوديا نادر، واتخذا القرار الكبير بالانتقال إلى الولايات المتحدة حيث التحقا بجامعة Yale University في كونيتيكت. “انضممنا إلى برنامج الطب الباطني في الجامعة في حزيران 2002. بعد أن انتهينا من الإقامة وتدريب الطب الباطني، انضممت إلى برنامج تدريب أمراض الكلى في Yale أيضًا وتخرجت كأخصائي أمراض الكلى في 2007. ثم انتقلت إلى بوسطن وتلقيت تدريبًا إضافيًا في زراعة الكلى والبنكرياس في المستشفيات الكبرى بجامعة هارفارد”، يلفت البروفسور فرنسيس.
مثابرته في مجاله الطبي خلال فترة تدريبه، مكّنه من الفوز بالعديد من الجوائز للتميز في الطب، والبحث، والاحترافية. خبرته هذه شاركها مع أهل الاختصاص، فقدّم العديد من المحاضرات في اجتماعات عالمية، كما نشر العديد من الأبحاث الأصلية حتى قبل الانتهاء والتخرج من تدريبه. “تفوقت في تدريبي في أمراض الكلى وزراعة الأعضاء إلى الحد الذي تلقيت فيه العديد من العروض من مراكز أكاديمية جامعية مرموقة في جميع أنحاء الولايات المتحدة. اخترت برنامج جامعة بوسطن حيث شعرت أنه يمكن أن أحقق الكثير وأحدث فرقًا كبيرًا في رعاية المرضى الذين يعانون من أمراض الكلى في المراحل النهائية. بعد تسعة أشهر من انضمامي لجامعة بوسطن مباشرة بعد انتهاء تخصصي، تمت ترقيتي لأصبح المدير الطبي لبرنامج زراعة الأعضاء في جامعة بوسطن، وقد شغلت هذا المنصب منذ العام 2009. في العام 2015، وبالعمل مع الفريق الطبي في مستشفى بريغهام ـ كلية الطب بجامعة هارفارد، بدأنا برنامجًا جديدًا لزراعة البنكرياس لعلاج مرضى السكري ومنحهم القدرة على العيش حياة طبيعية، من دون الحاجة إلى الأنسولين. هذا برنامج مشترك بين جامعة بوسطن ومستشفيات جامعة هارفارد، ويُعتبر الآن ثاني أكبر برنامج لزراعة البنكرياس في منطقة نيو إنغلند. انا الآن المدير الطبي لبرنامج زراعة البنكرياس الوحيد في جامعة هارفارد منذ العام 2015″، يقول البروفسور فرنسيس، وإذ يلفت الى أن الولايات المتحدة الأميركية تتميز بقبولها لكل متميز في عمله بغض النظر عن انتمائه وأصوله وجنسه وديانته، يؤكد أن المنافسة دائمًا موجودة وهي جيدة لأنها تدفع بكل طبيب إلى الاستمرار في التفوق وتحقيق كل الاهداف الممكنة والحفاظ على مركز التفوق.
عُرف البروفسور فرنسيس على مدى أكثر من 20 عامًا بطب الكلى وتشخيص أمراضه، فكان بحثه واسعًا وشمل العديد من المواضيع، معتمدًا على فترة تدريبه. نشر العديد من الدراسات والأوراق البحثية التي بات يتم الاستشهاد بها بشكل كبير في مجال أمراض العظام المرتبطة بأمراض الكلى، وأفضل الطرق لعلاجها والوقاية منها. ركّز إضافة الى ذلك، على أمراض العظام التي تُشخّص للمرضى الذين يعانون من أمراض الكلى قبل وبعد زراعة الكلى، ونُشر عمله في مجلات معروفة ومرموقة للغاية. بعد ذلك، عمل على تحديد العلاقة بين تطور مرض السكري بعد زراعة الكلى وانخفاض مستويات المغنيسيوم، وإمكانية منع تطور مرض السكري بعد زراعة الكلى عن طريق علاج مستويات المغنيسيوم المنخفضة، كما عمل ونشر وحاضر حول مخاطر تكرار بعض أمراض الكلى، بعد زراعة الكلى وطرق علاجها والوقاية من تلك التكرارات. يعمل اليوم بشكل وثيق مع أحد زملائه، على دراسة التأثيرات الصحية لجميع السموم التي تُحتجز في الجسم عند الفشل الكلوي. “كما تعلمين، فإن وظيفة الكلى هي تنظيف الجسم من جميع تلك السموم، وعندما تفشل، تتراكم تلك السموم في الدم والأنسجة وتؤدي إلى العديد من التأثيرات الضارة. نركز بشكل أساسي على خطر الجلطات الدموية أو تكوّن هذه الجلطات الناجم عن تلك السموم وكيفية الوقاية منها وعلاجها، أشهر ما يُعرف عني هو عملي الابتكاري في إدارة الأمراض النادرة للغاية التي تسبّبها اضطرابات في جزء من جهاز المناعة لدينا يُدعى الـcomplement system، والتي يمكن أن تؤدي إلى أمراض خطيرة مميتة للغاية. كنت رائدًا في ابتكار النهج المستند على خلق فريق عمل متعدد التخصصات لإدارة هذه الأمراض، والذي أصبح الآن معيارًا لعلاج هذه الأمراض في جميع أنحاء العالم. لقد ألقيت محاضرات عن هذا الموضوع في أكثر من 100 جامعه وكبرى المستشفيات العالمية”، يشرح البروفسور فرنسيس.
تخصصه ومجال عمله من مفاتيح سعادته، فهو لو عاد به الزمن الى الوراء، لاختار ما هو عليه اليوم، “دائمًا أقول إنه إذا كان عليّ العودة بالزمن، فلن أختار أي مجال آخر غير الطب، وخاصة أمراض وزراعة الكلى. لا شيء يجلب لي السعادة أكثر من رؤية مريض يعاني من مرض السكري، ويكافح مع الأنسولين والنظام الغذائي القاسي، ويخضع لغسيل الكلى بسبب الفشل الكلوي، وقد خرج من الجراحة وشُفي من مرض السكري والفشل الكلوي معًا، بعدما تلقى زراعة كلى وبنكرياس من نفس المتبرع… فقد أصبح هذا المريض حرًا في تناول ما يريد، والعمل، والزواج، وتكوين أسرة، والسفر، والعيش حياة طبيعية. كطبيب، لديّ القدرة على مساعدة الكثيرين لاستعادة صحتهم، ولا يوجد شيء أثمن من الصحة. الشعور بالسعادة الناتج عن مساعدة المرضى على التخلص من الأمراض المزمنة هو شعور لا يمكن وصفه”، يجزم فرنسيس.
يحمل لبنان في قلبه، تمامًا كما حمله في تميّزه في العالم. فخور بلبنانيته وفخور أكثر بكل لبناني ينجح ويبرع ويتألق عندما يجد البيئة الحاضنة لذلك. “أشعر بفخر كبير لكوني جزءًا من الجالية اللبنانية الكبيرة والناجحة جدًا التي تعيش في الولايات المتحدة. يقوم العديد من الأطباء اللبنانيين في الولايات المتحدة بعمل رائع في مجالاتهم المختلفة ويحدثون فرقًا كبيرًا في رعاية المرضى وتقدم العلوم الطبية. أعيش في مدينة تُعرف بأنها مكة الطب، وليس هناك مستشفى واحد في بوسطن لا تجد فيه أطباء لبنانيين ناجحين ومشهورين للغاية”، يقول فرنسيس الذي يحمل في قلبه حنين العودة والعمل في بلاد الأرز حتى لو لفترة قصيرة، مع العلم أنه يزور لبنان كثيرًا لإلقاء المحاضرات وحضور الاجتماعات الطبية. “لدي الكثير من الأصدقاء والأطباء البارزين الذين ما زالوا في لبنان والذين يقومون بعمل رائع على الرغم من الظروف الحالية. وآمل أن تسهل الحكومة اللبنانية علينا زيارة لبنان وتقديم الرعاية للمرضى المحتاجين”، يتابع فرنسيس.
في جعبة البروفسور المتألق الكثير من المشاريع الطبية التي لم تُحقق بعد، فهو يشارك حاليًا في العديد من المشاريع لتحسين وصول المرضى إلى زراعة الكلى والبنكرياس وزيادة عدد المتبرعين بالكلى الحية للمرضى الذين ينتظرون الزراعة. “هذه أولويتي الآن بالإضافة إلى الاستمرار في العمل على مشاريع البحث الخاصة بنا”، يقول.
العمل الإنساني والنجاح والإنجازات لم يغيروا من انتماءات البروفسور فرنسيس العميقة تجاه لبنان، هو الذي ربّى مع زوجته، ابنتيه كريستينا وسينثيا على محبة هذا الوطن. “مع نموهما، يقتربان أكثر فأكثر من لبنان، وكل مرة نزور فيها ونغادر، يبكيان لأيام. هناك شيء ما في هذا البلد وشعبه يجعلك تشعر أنك لا تريد المغادرة أبدًا. بالتأكيد، أتمنى أن أصل إلى وقت يمكنني فيه قضاء 3 الى 4 أشهر في لبنان مع الحفاظ على وجودي في الولايات المتحدة”، كاشفًا أن لبنان هو الوجهة الأولى له ولزوجته بعد التقاعد.
العائلة أولويته، كذلك عمله، وتحديدًا إحداث الفرق في حياة من يعاني. “لا شيء يجلب لي السلام والسعادة مثل أن أكون مع عائلتي، زوجتي وابنتيّ الاثنتين. هم كل شيء بالنسبة لي. عملي أيضًا مهم للغاية إذ يسمح لي بإحداث فرق كبير في جودة حياة العديد من المرضى. نجاحي كطبيب يعني لي كل شيء، ليس فقط في مجال الإنجاز المهني بل أيضًا في إحداث فرق واضح في حياة مرضاي وعائلاتهم. أستثمر هذا النجاح في حياتي اليومية من خلال السعي لتحقيق توازن بين التفاني في عملي وبين الاستمتاع بالوقت مع عائلتي، وأسعى دائمًا لتحقيق هذا التوازن واستخدام مهاراتي وتجاربي لتحسين رعاية المرضى باستمرار والمساهمة بشكل إيجابي في مجتمعي ومهنتي”، يقول فرنسيس الذي يلفت الى أن الولايات المتحدة كانت بلدًا كريمًا جدًا تجاه جميع الأطباء اللبنانيين العاملين فيها، وقدمت لهم المعرفة والأمان والحرية للقيام بما يرغبون به، كما الاحترام والفرص الكثيرة.
ينّوه بمستوى المدارس والجامعات اللبنانية التي شكّلت أسسًا متينة وعميقة من المعرفة التي سمحت له وللأطباء الآخرين بالنجاح في الولايات المتحدة، مبديًا اعتقاده بأن العمل في الولايات المتحدة يوفر تجربة أعمق وتعرضًا أوسع وفرصًا بحثية لا يمكن العثور عليها بسهولة في لبنان. ويضيف: “على الرغم من كل ذلك، هناك العديد من الأطباء اللبنانيين الذين اختاروا البقاء في لبنان ويقومون بعمل مذهل في مجالاتهم المختلفة”.
الرحمة. التفاني. التعلم المستمر. النزاهة. الممارسة الأخلاقية… هذه فلسفة البروفسور فرنسيس، كطبيب ناجح يؤمن بمعاملة كل مريض بالتعاطف والاحترام، وفهم احتياجاته وظروفه الفريدة. “التفاني في مهنتي يعني الالتزام بالتعليم المستمر والتحسين، والبقاء على اطلاع دائم بالتطورات الطبية، والسعي دائمًا لتقديم أعلى مستوى من الرعاية لمرضاي. النزاهة والممارسة الأخلاقية أساسية في نهجي، أسعى دائمًا لأن تكون رفاهية المريض دائمًا في المقام الأول. في النهاية، هدفي هو إحداث تأثير إيجابي ومعنوي في صحة وحياة مرضاي، مُوجهًا بفلسفة الطب المبنية على الأدلة وأحدث الدراسات العلمية” يختم البروفسور فرنسيس.