مطلع حزيران 1996 أعرب البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير أمام الأساقفة الموارنة عن اقتناعه بأن “قضية الدكتور جعجع أساسية، بحيث يُعتبر كل مسيحي إنها قضيته أكان صديقاً أم عدوًا لجعجع”.
ورأى البطريرك صفير أن ما قام به من أجل قضية سمير جعجع على مستوى لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين والدوليين يقتضي أيضًا أن يُستتبع برسالة خطية الى رئيس الجمهورية تكون بمثابة مستند تاريخي توضح رأيه في مسألة تفجير الكنيسة واتهام سمير جعجع بها، وتضع النقاط على الحروفِ، فكتب إليه، في الخامس والعشرين من حزيران ما يلي:
“البركة الرسولية تشمل حضرة ولدنا الأعز، صاحب الفخامة، الأستاذ الياس الهراوي، رئيس الجمهورية اللبنانية، حفظه الله، رأينا أن واجبًا تمليه علينا مسؤولياتنا من موقعنا كأب روحي لأبناء كنيستنا المارونية، بوجه خاص، وكمسؤول عن المقام البطريركي وما يمثل في الحقل الوطني، بوجه عام، أن نتوجه الى فخامتكم لنفضي إليكم بما يساورنا من مشاعر قلق حول مصير ولدنا الدكتور سمير جعجع المتهم بحادثة تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل التي جرت في 27 شباط 1994، وقد تعيّن، على ما أعلن في الثالث عشر من تموز المقبل.
لا نريد أن نتدخل في شأن القضاء، وهو شأن مقدسِ ولا نريد أن ندافع عن الدكتور سمير جعجع، غير أنه لا يمكننا أن نتجاهل أن سواه ارتكب ما ارتكب، يوم كانت الميليشيات تتحكّم بالبلاد والعباد، وبقي حرًا طليقًا، فيما هو قابع، منذ سنتين ونصف السنة، في سجن لم تتوفر له فيه دائمًا ما تنص عليه شرعة حقوق الإنسان، في معاملة السجناءِ وهذا أمر يتنافى وما ينص عليه الدستور اللبناني، عندما يقول: كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم (المادة 7).ِ
وقد تابع الرأي العام اللبناني، وبخاصة المسيحي، مراحل المحاكمة بشأن الكنيسة، وما تداخلها من ملابسات، وما قدمه وكلاء الدفاع من دفوعات لم يؤخذ بها، مما حملهم على الانسحاب، فتتابعت المحاكمة من دون محامين، وهذا ما ولّد لدى الرأي العام اللبناني، وبخاصة المسيحي، شعورًا، لا بل يقينًا، أن هذه المحاكمة سياسية أكثر منها قضائية، فضلاً عن أنه لا ادعاء شخصيًا، وإذا حُكم على الدكتور جعجع في هذه الحادثة، بقطع النظر عن الأحكام السابقة التي صدرت بحقه، فإن الرأي العام المسيحي سيشعر بأنه هو من حُكم عليه ظلمًا بتفجير كنيسته، وذلك إمعانًا في إذلاله وتحقيره، لأن الحكم، والحالة هذه، سيتعدى شخص المتهم ليتناول جميع المسيحيينِ. ولا حاجة بنا الى الإعراب لفخامتكم عما سيكون لهذا الأمر من عواقب وخيمة على المجتمع المسيحي واللبناني، وما سيتسبب به من عوامل تفسّخ وتفتيت وشرذمة، في وقت لا نزال فيه في أمس الحاجة الى تضميد الجراح ورأب الصدوع، وتهدئة ثورة الانتقامات.
لذلك رأينا أن نلفت نظر فخامتكم الى هذا الأمر، وأنتم حامي الدستور، وقاضي القضاة، ورافع لواء العدل في البلاد، لتتدبروه بحكمتكم المعهودة، لكيلا يسجل التاريخ على عهدكم ما لا ترضونه له ولكم.
الكاردينال نصرالله بطرس صفير
بطريرك انطاكية وسائر المشرق
13 تموز 1996 ـ سمير جعجع براءة
بيان المطارنة الموارنة الذي تلاه أمين سر البطريركية المارونية الأب يوسف طوق وتطرق في نقاطه الى مسألة الحكم في قضية تفجير كنيسة سيدة النجاة. وفي ما يلي نص البيان:
“يوم الأربعاء في الثالث من تموز 1996، عقد أصحاب السيادة المطارنة الموارنة اجتماعهم الشهري في بكركي برئاسة صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وتدارسوا شؤونا كنسية وراعوية، وتوقفوا عند الأوضاع الراهنة وبخاصة عند ما يتعلق منها بالانتخابات النيابية والقانون الانتخابي الذي لا يزال موضوع تجاذب وجدل، وآلية إجرائها، والشروط التي تقدمت بها المعارضة ولم يؤخذ بأي منها، الى ما سوى ذلك من مسائل معيشية يومية تجعل حياة المواطن في معاناة دائمة، وفي ختام الاجتماع أصدروا البيان التالي:
1 ـ في البلدان ذات الأنظمة الديموقراطية الصحيحة لا ينتظر المسؤولون حتى الأسابيع الأخيرة قبل موعد الانتخابات لإصدار القانون الذي ستنظّم بموجبه، بحيث يستحيل على المرشحين الاتصال بالناخبين في دوائرهم واحدهم بالآخر أو بعضهم ببعض لإقامة تحالفات وتأليف لوائح متجانسة في غياب الدائرة الانتخابية الصغرى التي تبقى أفضل وسيلة لصحة التمثيل الشعبي.
2 ـ إن ما يدعو الى القلق ليس طريقة الانتخابات النيابية، بقدر إفراغها من محتواها التمثيلي، وقد أصبح معروفاً أن النجاح قد لا يتم إلا لمن عرف كيف ينال رضى الجهات الفاعلة، ويتصرف بوحي مصالحها، فيما مصلحة الوطن العليا مغيّبة كل التغييب، وإرادة النواب مرتهنة، على ما ظهر بوضوح من المواقف المتخاذلة التي اتخذها المجلس المشرفة ولايته على النهاية بأكثريته الغالبة، ولا حاجة إلى العودة إليها، ويكفي التذكير بما كان من قضية تعديل الدستور وتمديد ولاية رئيس الجمهورية، وتقييد الوطن بمعاهدة واتفاقات أُبرمت بين غالب ومغلوب، مع ما في ذلك من محاذير على المصير الوطني.
3ـ ما دامت ولاية المجلس النيابي الحالي قد شارفت على النهاية، وأُجريت جردة بما كان له من نشاطات على صعيد سنّ القوانين التي بلغت ما فوق ثلاثمئة وخمسين قانونا، أفليس من حق المواطن أن يتساءل ما الفائدة من قوانين لم تحل دون تذويب الكيان اللبناني يومًا بعد يوم، وتكبيل الإرادة الوطنية، وقضم السيادة، وفقدان الاستقلال، وطمس الخصائص اللبنانية، وتبديل وجه الوطن بحيث لبنان لم يعد لبنان الذي ارتضاه أبناؤه موطن الحريات والكرامات والعدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان؟
4 ـ والسؤال الكبير الذي لا يزال يتردد في الأوساط الشعبية هو هل بلغ مسامع المسؤولين ما آلت إليه حال المواطنين العاديين من فقر وهزال، بحيث غابت الطبقة الوسطى من بينهم وأصبحوا يشكون ارتفاع بدلات الخدمات الاجتماعية، وتصاعد الضرائب الباهظة، وغلاء كلفة الحياة، وهناك العديد من الشبان في حيرة من أمرهم في ما خص بناء مستقبل لهم يطمئنون إليه في وطنهم؟
5 ـ أمام هذا الواقع المرير، يتساءل كثير من المواطنين، وبخاصة في صفوف المسيحيين الذين ينتظرون بقلق كبير الثالث عشر من هذا الشهر، موعد صدور الحكم في قضية تفجير كنيسة سيدة النجاة في ذوق مكايل، ما إذا كانت العدالة في لبنان ستكون للجميع وستبقى ملاذ المغلوبين على أمرهم في المجال السياسي، فتبرئهم مما ينسب إليهم زورًا لأغراض معروفة، على ما رسخ في ذهن الرأي العام اللبناني، أم ستحكم عليهم فتحكم على ذاتها ويسقط بسقوطها وطن يجب أن تكون العدالة فيه كما في سواه، أساس الملك ليبقى منيع الجانب، لا سلطان على قضاته إلا سلطان الله والضمير والقانون، بعيدا عن تهويلات ووساطات وشفاعات؟
6 ـ غير أن هذه الأوضاع، على بؤسها، يجب ألا تحمل على اليأس، والمؤمن لا ييأس من رحمة الله، الذي تسهر عنايته على الأفراد والجماعات والشعوب، ويسارع الى نجدة أبنائه ساعة يظنون أن الهلاك قد أدركهم وأن لا أمل بالفرج، فيما الفرج قريب. وهذا ما يجب أن يحملنا جميعًا على تجديد إيماننا بالله، وثقتنا بالوطن، ومجانبة تقسيم الصفوف وتبادل التهم في وسط محنة لا سبيل الى التغلّب عليها إلا بالتكاتف والتضامن ورص الصفوف وتوحيد القلوب، وإن اختلفت المواقع وتباعدت وجهات النظر ما دامت الأهداف واحدة، وهي المحافظة على لبنان وطنًا سيدًا حرًا مستقلاً، متعدد الثقافات في ظل ديموقراطية وفاقية، ووحدة وطنية تامة. حقق الله الآمال وجنّبنا العثرات وأفاض علينا البركات.
“المسيرة” ـ العدد 1755
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]