قداس معراب.. يا أيلول لا ترحل

حجم الخط

معراب 2024معراب 2024

رأيت عيونهم هناك تبحث عمن تحب لتلقي التحية. ما زالوا في الأرجاء لم يرحلوا، وليس الحضور دائمًا في عيون الجسد، تكفي الصلاة العميقة لأجلهم ليكونوا في الحضور الأبدي بيننا. هو قداس الشهداء في معراب، قل هو صلاة المقاوم لأجل من قاوموا لنبقى على قيد الكرامة.

أحب هذا الموعد الاستثنائي. كان الطقس أيلول بامتياز، الدفء المائل الى برودة خريف صار على الأبواب، يلبسه الحنين والشجن الطائر مع أوراقه المتناثرة، كان طيف الشهداء تلك الأوراق المتطايرة التي لا تعرف خريفًا مهما تعاقبت الفصول والسنين.

كان الطقس فوق، كرامة انهمرت مع شجن أيلول، لتظلل القلوب المشحونة حنينًا، شوقًا، نضالًا، الكثير منه، وأيضًا انتظارًا لنداء ما، نداء وطن لا نعرف متى يدق خطره الكبير على الأبواب لنهرع لنجدته.

هنا معراب يا رفيقي الشهيد، وأخجل أن أقول لك “رفيقي”، من تشلّع جسده ليبقى حيًا في الروح، لا يمكن مقاربته بأي رفقة أو تشبيه، كل ما نفعله كل سنة وعلى مدار السنين، أننا نبني أساس نضالنا انطلاقًا من شهادتك، فهل تكفيك تلك الصلوات يا ربيعًا دائمًا في فصول الوطن؟!

هنا في معراب في الساحة الفسيحة تلك، وعلى مرأى من مار شربل والقديسة ريتا، والأهم، على ملمس مذبح بحجارة معتّقة وكأنها كنيسة من عهد الزمن، تربّع قلب يسوع ومشلح مريم العذراء، وصليب عربشت على قوامه آلام المسيح، وآلام وطن يتماهى كل يوم مع آلام المصلوب، في انتظار قيامة مجيدة كقيامة الرب. هنا تربّع آلاف الشهداء ينتظرون أيلولهم كل سنة، ليعلنوا على هذه الأرض الوفاء والصلاة، وليغمروا الحاضرين بفائق الخشوع.

كثر الناس هنا، كلهم رفاق، كثر الى درجة تظن أن المكان لن يسعهم، وقد يتداخلون في فوضاهم، لكن حتى العجقة المرتجلة في معراب، لا تمشي الا على المرصوص، في انتظام تلقائي يتماهى مع دقة التنظيم الفائقة.

أمهات يسرحن مع صور أبطالهم، آباء يبتلعون الدمع بكبرياء المقاومين، أبناء يحملون صور شهداء، منهم من لم يعرفوهم، اذ كانوا أطفالًا حين رحلوا ليحيا الوطن، ولكنهم يلبسون فخرهم وكأن الشمس لم تعرف الا تلك القلوب لتشرق عليها. جاء الطلاب يلبسون القمصان السود وجلسوا الى المنصة المخصصة لهم، “ما معقول الحكيم شو بيحب هالشباب”، تقول إحدى الرفيقات، “نيّالن انا بغار منهم”، أجيبها ونضحك معًا، ونحن نعرف لماذا الحكيم يولي طلاب القوات هذه العناية الخاصة، أليس شعار القداس “الغد لنا”؟، هم الجزء الأكبر من ذاك الغد الموعود الذي لن يصنعه سواهم.

دقائق وبدأ شباب وصبايا كشاف الحرية يتحضرون للاصطفاف، جلس الجميع الى أماكنهم بانتظام غريب، صمت ساد المكان للحظات، وبدأت مشهدية قداس الشهداء من معراب. دخول الحكيم وستريدا، استعراض كشافة الحرية، “ووحياة اللي راحوا ويللي صاروا الحنين”، نشيد المبدع منصور الرحباني ذاك الذي تحوّل الى أيقونة الأغاني التي تحاكي الشهداء، أخذ القلب والحنين مكبلًا الى فائق الحب والعنفوان، خرج شباب وصبايا الكشافة وانطلقت الذبيحة الإلهية مع جيش من المطارنة والكهنة.

لا نكتب لتوصيف المشهدية الرائعة بتفاصيلها وديكورها والتنظيم المدهش، الذي عُرفت به “القوات اللبنانية” أساسًا وفي كل المناسبات، وخصوصًا قداس الشهداء، نكتب لننقل عطش شعب، ليس فقط الى واحة أمان ما، ولا الى مكان يذكِره بعمق انسانيته وأهمية وجوده كمواطن في هذه الجمهورية البائسة، نكتب لننقل صورة عن “جمهورية” صغيرة اعتنقت وأدمنت النضال لأجل الجمهورية اللبنانية الأصيلة، وتكبّدت أكثر من 15 الف شهيد وشهيدة، لتكون جمهوريتها على صورة ومثال ما يجري في معراب، وإن كانت حتى اللحظة لم تصل الى جمهوريتها المنشودة تلك، ولكنها قطعت للبنانيين وعدًا بأن “الغد لنا”، ولن يكون للبنان الا جمهورية حرة قوية شبيهة بتلك التي استشهد لأجلها البشير وآلاف الشهداء من قبله ومن بعده.

في قداس الشهداء المترنح على حنين أيلول، قالت القوات كل شيء، قالت ما لم تقله سابقًا، وكررت ما قالته آلاف المرات، في السيادة ممنوع المس، في الاستقلال هذا جوهر لبنان، “القوات عاصفة بتهب كل ما دق الخطر ع البواب” قال الحكيم، و”القوات اللبنانية” في قداس الشهداء، كانت عاصفة وفاء لـ يللي راحوا وما فلّوا، ولمن هم باقون على قيد المقاومة والالتزام، كانت القوات في القداس عاصفة إيمان ومواجهة تحت صليب الرب وعيون أمه العذراء، كانت عاصفة وعد مطلق بأنها لن تهدأ طالما ثمة محتل يتربص بلبنان ليمحو وجهه الحضاري عن وجه هذه الأرض.

في قداس الشهداء قال الحكيم كلامًا غير مسبوق، رسم لتلك الأمة التائهة المشردة الواهنة بحكامها، المستسلمة لترسانة محتل، بأنها ستواجه أعداء لبنان بكل ما أوتيت من قوة وقدرة، وأعلنت عواصفها العاتية على هؤلاء مباشرة على الهواء، “لا يعتقدنّ أحد في لبنان مهما بلغ من فائض قوّة أنّ بإمكانه تغيير هويّة لبنان أو المسّ بخصائصه وتوازناته أو تزوير تاريخه وأخذَهُ إلى مكان آخر لا يشبهه وإلى دور آخر يتعارض مع دوره التاريخيّ. لبنان كان وسيبقى أرض الحريّة والكرامة والحضارة والتنوّع، الملتزم بالقضايا العربيّة والمواثيق الدّوليّة. لبنان كان وسيبقى سيدًا حرًا مستقلًا وأبواب القذائف والمسيّرات والصواريخِ على أنواعها لن تقوى عليه”.

لم يشعل الحكيم فقط شعلة نصب الشهداء المطل على الساحة العامة، لكنه أشعل قلوب الحاضرين في المكان، وعبر الشاشات، وكل من يعنيه الامر بذاك الموقف الحازم “نحن في الأيام السود لا نفتقد الرجال أبدًا، كنا وسنبقى رجالًا رجال، راجعوا حساباتكم واقرأوا التاريخ. سنرفض سنتحدى سنقاوم وسنبقى”، وجنت الساحة بالتصفيق وجن معها إعلام ما يسمى بالممانعين، بالنقد والتجريح كما هي عادتهم.

في الشهداء قال، وفي الوطن قال، وفي النضال والمقاومة قال وقال، وعلى الرغم من المواقف الصلبة، بقيت تلك البسمة الرقيقة الرامشة على دمعها المستحي، التي لم تغب عن وجوه الحاضرين لحظة، وكأن الشهداء كانوا يلفحون الوجوه بذاك العبق، شعرت بهم هناك، كانوا يتطايرون فرحًا لأنهم يعلمون تمامًا أن شهداءنا لا يموتون مرتين، والأهم، يعرفون أنهم ما ماتوا لأنهم دائمًا وأبدًا أحياء في المقاومة، أحياء في ضمير “القوات اللبنانية”.

انتهى القداس خرج الجميع، لا ترحل أيلول ابقَ معهم… وبقي الشغاف عالقًا على أطراف حضورهم الأبدي، بقي أيلول فوق متلبسًا بالحنين، ليس أجمل وأكبر وأكثر كرامة من أن تكون مناضلًا في “القوات اللبنانية”.

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل