الشهادة في الدفاع عن الوطن لا عن بديل له.. شهيد أم قاتل؟

حجم الخط

يقول المفكّر الفرنسي سيمون فايل: “من يتسلّح بالسيف يهلك بالسيف، أمّا الذي لا يتسلّح به فإنّه يهلك على الصليب”. وعلى درب جلجلة الصليب مشى شهداؤنا ولم يسألوا عن مصيرهم، فهمهم الأساسي كان الدفاع عن الوجود الحرّ والأرض التي ارتوت بدماء من سبقوهم على درب الشهادة.

موضوع الشهادة يحاكي كلّ إنسان أمسيحيًا كان أم غير ذلك. فالمؤمن الذي أخذ على عاتقه تحقيق تعاليم السيّد المسيح يواجه في هذه الحياة تساؤلات كثيرة، أبرزها: أين المسيح في حياة المقاوم؟ انطلاقًا من هذه المبادئ يجب الفصل بين المقاومة في سبيل إحقاق الحقّ والعدالة ودرء الظلم والعدوان. وهي مقاومة تعترف بها الأديان والتشريعات كلّها، وبين المقاومة التي لا هدف لها إلاّ الإرهاب والغايات الشخصية، كالوصول إلى الحكم واستبعاد بعض من الناس غير المرغوب فيهم.

فمحبّة الأعداء التي دعا إليها يسوع المسيح في تعاليمه، تظهر في سعيه إلى تحقيق كرامة الإنسان واحترام حرّيّته سبيلاً في المحبّة والسلام. ولا يمكن أن تُتَخذ المقاومة، وهي العمل المقدّس، ذريعة لإلغاء الآخر المختلف أو حتّى لتخوينه. فمن لا يناصرها رأيًا، أيًّا كان هذا الرّأي، تُطلق عليه أذلّ صفات العمالة والخيانة. عندها تفقد هذه المقاومة هالتها السّامية وهدفها النّبيل الذي استشهد لتحقيقه آلاف الأبطال الشّرفاء.

 

أ- صلابة في الالتزام

تظهر صلابة المسيحي المؤمن في صلاته اليومية التي تعلمها من يسوع المسيح، المعلّم الأوّل. فهي دعوة إلى التزام شؤون الأرض والأرضيّات، وإحقاق العدالة والسلام لتحويل الأرض إلى مساحة من السلم وليس إلى بؤرة حرب. وإخضاع مشيئة الإنسان إلى مشيئة الله بشكل تتطابق فيه هاتان المشيئتان إنّما يحقّق مشيئة الله في الكون. ويقول السيد المسيح: “أحبّوا أعداءكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلّوا لأجل من يضطهدكم”. وهذا هو السبيل الوحيد كي نخلق عقيدة صلبة لا تهتزّ؛ لتقوم عقيدتنا وتنهض بنا كأناس حضاريّين انطلاقًا من صلابة التزامنا وعمق إيماننا الذي لا يرتكز على المرئيّات.

فشهادتي كمسيحيّ يجب أن تقوم على أساس مقاومة “اللامحبة” الموجودة في الإنسان المقاوَم. ويجب الأخذ في الاعتبار دومًا أنّ من ننظر إليه كعدو اليوم قد تحلّ عليه نعمة التوبة فننظر إليه غدًا كإنسان صالح رقّي إلى أعلى مرتبة في إنسانيّته بعد زوال الشرّ منها. وهذا لا يمنع الثبّات في الموقف. فأنا كمسيحيّ مؤمن وملتزم لا تتزعزع عقيدتي ولا يضعف إيماني ولا يخفّ التزامي بحسب الظروف والتّغيّرات.

والشهادة تكون في الكلمة الحقّ على قاعدة أن نقول هذا الحقّ لنتحرّر. فيسوع المسيح نفسه قال الحقّ ولم ينكر حقيقته يوم سأله بيلاطس في محاكمته: “أفأنت إذًا ملك؟ فأجابه: أنت تقول. إنّي ملك. لهذا قد ولدت أنا، ولهذا أتيت إلى العالم، لأشهد للحقّ. كلّ مَن هو مِن الحقّ يسمع صوتي”.

 

ب- الشهادة بفعل المقاومة

كانت مقاومة يسوع المسيح لصالبيه بالمحبّة من دون أيّ تغيير بمواقفه ومبادئه. فقال لهم وهو على الصليب: “يا أبت أغفر لهم لأنهم لا يدركون ما يفعلون”. إلا أنّ يسوع المسيح نفسه قاوم الباعة والصيارفة فطردهم من الهيكل بعد أن قلب طاولاتهم المليئة بالأرضيّات المذلّة للإنسانيّة قائلاً: “بيتي بيت صلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص”.

إن الموقف المسيحي انطلاقًا من الموقف الثوروي للسيّد المسيح، يقول كوستي بندلي، في استخدام العنف لإحقاق العدالة هو موقف دائم التوتر، عليه التوفيق بشكل خلاق بين نقيضين تمليهما كلاهما المحبّة. فالمسيحيّة تقيمنا مسؤولين عن إخوتنا: “إنّ كل ما لم تصنعوه إلى أحد هؤلاء الصغار فإليّ لم تصنعوه”. من هذا المنطلق نفهم واجب المقاومة كمسيحيّين، بعد أن تمّت فلسفته بمفهوم السّماء، شرط ألّا يُساء استخدامه فيتحوّل إلى أداة لقتل الآخر المختلف. فالمسيحي مدعو إذًا إلى حالتين متناقضتين:

ـ محبّة المضطهدين التي تدفع إلى النّضال من أجل العدالة.

ـ محبة الأعداء التي تدعو إلى النضال من أجل المصالحة والسلام.

وتختلف أحقّيّة وطرق النضال. هل يكون النضال عنفيًّا أم لاعنفي؟ مع الأخذ في الاعتبار أنّ يسوع المسيح حقّق حالة النضال اللاعنفي في كثير من مراحل حياته التبشيريّة، ولم تأتِ الحالة العنفيّة إلا عندما مُسّت كرامة الآب.

ج ـ حالة النضال العنفي

يجب حصر العنف في هدف إزالة الظلم والقهر والعدوان، وبعد إزالتها، الغفران والمصالحة والسلام. وإلّا سيتحوّل هذا العنف إلى نمط حياة. وذلك بعد قناعة تامّة من المسيحي بأنّ النضال العنفي هو السبيل الوحيد في إحقاق الحق والعدالة. إلاّ أنّ على المقاوم الانصياع لبعض القواعد التي تبعد هذا النضال من الانحراف عن خطه الأصلي والوقوع في شهوة التدمير والقتل والابتعاد من النوايا الصافية التي كانت في أساس هذا النضال. فيجب احترام حياة الخصم إلى أبعد حدّ ممكن، واستبعاد أعمال الانتقام كلّها. وعلى الثورة أن تميت الخطيئة ولا أن تميت الخطأة. والانتقام الأكبر هو الغفران. لا يجوز، إذًا، اعتماد العنف منهجًا والانسياق وراءه من دون قيد أو شرط، ولو اقتضت ظروف التاريخ القاسية استعماله أحيانًا لردع الطغيان والظلم والعدوان.

د- حالة النضال اللاعنفي

خير مثال على النضال اللاعنفي عمل المهاتما غاندي في الهند، وعمل القس مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة الأميركية. فاللاعنف هو مقاومة وبالتالي نضال. فلا بدّ أن يستجيب القدر بعد جلاء الليل. بشرط عدم فقدان الحدّ الأدنى من إنسانيّة المقاوِم والمقاوَم. ويجب التفرقة بين اللاعنف والجبن. فاللاعنف لا يقبل هروب المرء من الخطر تاركًا ذويه بدون أيّ حماية. فكما قال القس مارتن لوثر كينغ: “إن التعاون السلبي مع نظام ظالم يجعل المظلوم مساويًا للظالم من حيث الشر. لا تؤمن المسيحيّة بالجبريّة التي تجعل الإنسان مستسلمًا للقدر، وكأنّ الله هو المسؤول عن الظلم والقهر. بل تؤمن المسيحية بالحرّيّة الكاملة للإنسان أو بقدرته على الاختيار، بحيث يكون هو مسؤولاً عمّا يقوم به. فصورة الله ومثاله في الإنسان، كما في الفكر المسيحي، هما الحرّيّة الشخصيّة والعقل اللّذان يتمتّع بهما الإنسان خلافًا للمخلوقات الأخرى كلّها”. وأهمّ وسائل النضال اللاعنفي تختصر بالآتي:

“رفض أيّ تعاون مع جيوش الاحتلال والشهادة للحقيقة الإنسانيّة أوّلًا، والوطنيّة ثانيًا. وإن مُسَّتِ الحقيقة الإيمانيّة فهي عندها تتقدّم لأنّ مَن ينكر إيمانه تُسقَطُ كرامته. وعندها يتجرّد من روحانيّته ليحيا مادّيّته البشريّة الفانية. وبالتّالي يفنى مع فنائها. ويسقط مبدأ فناء النّفس لحساب خلود المادّة الترابيّة التي فيه.

هـ – شهيد أم قاتل؟

إنّ شهادتنا للحقّ قد تحوّلنا إلى شهداء متى حملنا مع بندقيّتنا قناعاتنا الإيمانيّة. ومتى كانت مقاومتنا من دون إيمان نتحوّل إلى مجرمين وقتلة وإرهابيّين. لكن في هذا السياق بالتحديد، نختلف حول طبيعة الإيمان الذي يجب أن يحمله المؤمن – المقاوِم. فعندها نطرح إشكاليّة طبيعة مقاومتنا وفي أيّ خانة تقع.

إن الخيار بين أساليب عنفيّة وأخرى لاعنفيّة للنضال، غير متوقّف على المواقف المبدئيّة للثورة الأصليّة، وكل نضال يكون مناسبًا في الوقت المناسب. فلو تصدى الأوروبيّون للنازيّة وقت نشوئها عام 1933 بالطريقة اللاعنفية، لنجحوا بإزالتها. أمّا بعد رسوخها في المجتمع الأوروبي فلا بدّ من عنف لإزالتها.

وفي مراحل مختلفة من تاريخ لبنان تعمّدت المقاومة، يوم حملت الصليب لتناضل بالمحبّة. وقدّمت في تاريخها المعاصر أكثر من خمسة عشر ألف شهيد في سبيل محاربة الظلم والطغيان ذودًا عن لبنان كلّه، لا عن فئة معينة كما صوّرها بعضهم الجبان. واتخذت أشكالا مختلفة الى أن تحوّلت في أيّامنا هذه إلى مقاومة لا عنفية – سياسيّة – دستوريّة – برلمانيّة.

فمَن يشهد لهذا الحقّ بالحرّيّة والوجود والحياة بكرامة، هو الشهيد الحقيقي. لكن مَن يكون فعل مقاومته خدمة لقناعات لا تشبه انتماءه الوطني، لا بل تتعدّاها إلى إطار إيديولوجي ما، فهو ليس شهيدًا للوطن بل للمبدأ الذي يؤمن به. وبالتّالي بالمفهوم الوطني للفعل الذي أقدم عليه، يكون قد أسقط مسبقًا عرف الشهادة عن الفعل الذي أقدم عليه. ويصبح هذا الفعل، ولا سيّما متى كان مع أتراب وطنه أنفسهم عملًا إجراميًّا بكلّ تجرّد. فينتقل من كونه شهيدًا إلى مجرم بحقّ أبناء وطنه.

يبقى أنّ المعيار الأساس لكلّ موقف مسيحي من الشهادة هو في مدى اقتراب أهداف هذه الشهادة من تحقيق الملكوت السماوي على الأرض من حيث العدالة والسلام، والمحبّة وكرامة الإنسان. فبذلك فقط تكون حياة المسيحي رمزًا للمقاومة المستمرة، لطالما أن هناك إنساناً مقهورًا وحرّيّته مستعبدة لسلطة أو لحكم جائر، ولطالما أن هناك دمعة في عيني طفل جائع، وأم ثكلى فقدت وحيدها في السّجون السورية أو غيرها. والأكثر أُجبرت ومن قبل السلطة الأبيّة أن توقّع على شهادة وفاة وحيدها لقاء أن تقبض مبلغًا رمزيًّا كتعويض لها، فترفض مطالبة، ولو بغبرة من رفاته.

من هنا، تُفهَمُ حقيقة عملنا كحزب حمل في عقيدته هذا الفكر المستوحى من صلب العقيدة المستمرّة. فمقاومتنا ابتدأت مع البطريرك الأوّل مار يوحنّا مارون ولن تنتهي مع السّابع والسّبعين. هي مستمرّة لكن بأشكال مختلفة. لأنّها فعل شهادة للحقّ وللحقيقة وللكلمة. قد تتّخذ أشكالا مختلفة.  لكنّها ستبقى مستمرّة.

فالشهادة انطلاقًا من المبدأ الوطني دفاعًا عن الوطن هي استشهاد. والشهادة دفاعًا عن المعتقد هي استشهاد. لكن الشهادة في وطن دفاعًا عن وطن آخر نصرةً لرابط ديني أو عقائديّ أو إيديولوجيٍّ هي إجرام بحقّ الوطن، وفعل شهادة يرتبط بالمبدأ الإيديولوجي الذي لا يشبه هذا الوطن. فحذارِ من المؤمن بالوطن، وبالشهادة للحقّ والمحبّة والأخوّة والإنسانيّة أن يحوّل إيمانه هذا إلى المبدأ الإيديولوجي ظنًّا منه بأنّه يخدم الوطن. فيكون عندها قد تحوّل إلى قاتل باسم مبدئه، وقتيل في وطنه. وعندها لن ينفع البكاء وصريف الأسنان.

كتب د. ميشال الشمّاعي في “المسيرة” ـ العدد 1756

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل