لا شيء في معراب كأي شيء في هذا الوطن.
كل شيء هناك مختلف. المناسبة. التنظيم. الناس في لباسهم، في جلوسهم، في سلوكهم، في إصغائهم، في تصفيقهم، في انضباطهم. كل شيء هناك يدخلك في حلم لا تود الخروج منه.
في الطريق إليها توقّفت لأقل شخصًا أعرفه لمسافة بسيطة. لفت انتباهه أني في زيي الرسمي، سألني عن وجهتي؛ فأجبته: إلى معراب!
قال: إلك مطرح بمعراب؟!
قلت: ولَكَ ولكل لبناني لبناني.
لنا في معراب رفاق لا يفرون من سوح الوغى ليعودوا رؤساء في السلم. لنا فيها رفاق يستشهدون رؤساء بحجم الوطن والمسؤولية. ورفاق يُسجَنون ليخرجوا من سجونهم رجالاً بحجم القضية والإنسان والحلم.
أنا يا صديقي أصعد إلى معراب، لأرتقي. والصعود إليها فعل نضال، وصعود صوب السماء والوطن. نلتقي فيها كل أيلول بأهلنا في السماء؛ علّنا نلتقي قريبًا بأهلنا في وطن ودولة بلا دويلة.
أنزلت الرجل، وأتممت طريقي. كان مسكينًا يحصي الأيام بتافه الأشياء، لذا علّق أثناء نزوله: بكفيك تنكة بنزين روحة رجعة؟
حين وصلت، كان كلّ شيء مختلفًا. المكان في معراب ليس كأي مكان… حتى السماء ليست كسواها..
كنيسة جدرانها من سنديان أخضر وأسماء الشهداء، وسقفها من بخور وسماء مفتوحة على الله مباشرة.
هناك كثير من الإيمان والجمال والموسيقى والحب والإشعاع والله، وكثير من القلة التي يتباهى سواها بكثرتهم التي باتت عبئًا على الحياة والجمال.
حتّى سمير جعجع منذ ساعات في معراب كان مختلفًا، تجمّعت فيه آلام التجربة الطويلة من أوجاع هذا الوطن، وتفجّرت حبًا وحضورًا ووضوحًا وصراحة وإرادة وتصميمًا على قيامة لبنان.
كبر نديم، وصار رجلاً بحجم الحلم، وما زال بشير رئيسًا شابًا لا يشيخ..
شاخ الحكيم على درب النضال، وما شاخت إرادته، ولا عزيمته، ولا صلابته، ولا “القوات اللبنانية”. ما زال هو هو. ذلك الذي يلتصق بالناس، بإنسانه بالوطن، بالله وبالسماء..
أصغى، وصلى، ورتّل مع المرتلين، وتحدث إلى الحضور حديث القادم إلى الناس من المستقبل، والسائر بهم إليه.
حتّى القلة الكرام التي كانت في معراب كما وصفها الحكيم، كانت كبقعة الثلج الأبيض، تلك التي لا يُعرف صنين لولاها. غير أنها بقعة لا يزول نقاؤها، ولا تجف. يظل ماؤها يصب في شرايين الوطن على الرغم من كل الهدر والتسريب في أرجائه.
أمس القريب كنت في لبنان الذي رأيته يمتد، ويتسع؛ ليبلغ الـ10452 كم². وهذا ما أكده الحكيم المتمسك بمساحته، وحدوده، ووحدته.. وأنا أؤمن بما يقول هذا الرجل.
لم يكن يتحدث بلسانه! كان يتحدث بلسان من هم في السماء التي كانت فوقنا هناك. سماء أطل منها شهداء، عانقوا أحبة أضناهم الفقد والانتظار، وما أضناهم الإيمان بالقضية الوطن.
صليت مع من صلوا وكما أعرف، وتناولت مع من تناولوا، وأمّنت خلف من سأل الله الخلاص للبنان.
فعلت كل ذلك لأجل رفاق غرسوا أجسادهم وأرواحهم في ثلج صنين لئلا يزول الوطن.
لأجل شهداء ما تركوا سماء هذا الوطن مذ صعدوا إليها.
لأجل أم شاركتني المقعد. تحتضن صورة حفيدها الشهيد بصمت وإيمان.. كان شيبها يضيء الطريق أمامنا نحن المختالون بسيرنا.. تمشي خطوات، ثم تتوقف لتستقيم من انحنائها، تترحم، وتمسح دمعها الذي ما جف مذ أكثر من أيلول.
لأجل سجناء ينتظرون أن تفتح أبواب زنازينهم، ليغادروا عتمها الطويل صوب السماء.
فعلت كل ذلك بخشوع المساء الذي خيم على ذلك القداس..
بخشوع السنديان الذي ما تحركت أوراقه..
بخشوع الطيور، التي وقفت على أغصانه تصلي، وما رفّ له جناح..
بخشوع الناي الذي اخترق روحي حبًا وإيمانًا..
بخشوع المؤمن الذي كان إلى جانبي، فأبعد مقعده وخرّ ساجدًا..
بخشوع كل الدموع التي سالت، والبخور الذي صعد، والأصوات التي رتلت وتمتمت: “آمين”.
بخشوع المكان الذي تحول كله إلى سماء، تليق بالمكان والسماء وهذا الوطن..
صليت، ثمّ تساءلات: أيضاف اسمي إلى قائمة من هم في هذه السماء يومًا؟
ليس لأخلّد، بل ليخلّد الوطن.
وأخيرًا. تِسْلم سمير جعجع على هالعربية الفصيحة التي تؤكد أنك من أمّة نعيْمة وجبران وسعيد عقل والأخطل الصغير والبطريرك صفير وغيرهم.
وكل قداس وأنتم بخير.