قافلة الشهداء تسير و”الغد لنا”

حجم الخط

لم يكن الشهيد جوزف بو عاصي أول شهيد للمقاومة دفاعًا عن لبنان السيّد الحر المستقل، ولم يكن يوم 13 نيسان 1975 تاريخ إنطلاقة تلك المقاومة، كما لن يكون الشهيد باسكال سليمان آخر من يبذل نفسه وروحه وعطاءاته في سبيل لبنان الغد الذي آمن به من سبقه من الشهداء. كما لم يكن تاريخ 9 نيسان 2024 تاريخ انطفاء جذوة هذه المقاومة التي خطّها بالدم منذ قرون مؤسسو لبنان الصغير والكبير من المقاومين بطاركة ومطارنة ورهبانا وعلمانيين وفلاحين والذين سقطوا تأسيسًا للكيان ودفاعًا عن حرية أرادوها نموذجًا متميّزًا في الشرق منيعًا امام التعديّات والأطماع والاحتلالات ومحاولات العزل والتذويب والإلغاء.

محطات المقاومة ومسيرة الشهداء كثيرة وطويلة في التاريخ ممّهِّدة للمستقبل والغد الأفضل. ومن الشهيد الأول للكنيسة السيد يسوع المسيح، ننطلق عند أبرزها مع البطريرك الشهيد  دانيال الحدشيتي (البطريرك الخامس والثلاثون) عندما «شنّ المماليك في مطلع سنة 1282 حملة ضخمة على جبل لبنان بقيادة السلطان قلاوون ولاقاه حسام الدين من دمشق، فحاصروا جبة بشري واجتاحوا حصرون والحدث وحاصروا الموارنة المتحصنين في إهدن بقيادة البطريرك دانيال الحدشيتي الذي قاد المقاتلين الموارنة 40 يوماً، ولم يتمكنوا من اقتحام إهدن إلا بالحيلة، ذلك أنهم أرسلوا إليه من يقترح عليه التفاوض، وحقنًا للدماء قبِل، وما أن اجتمع بهم حتى قبضوا عليه وقتلوه، ودفن في إيليج.» وهذا ما أرّخه ودوّنه البطريرك المقاوم الطوباوي اسطفان الدويهي…

مع محطة ومسيرة بطريرك مقاوم آخر شهيد هو جبرائيل حجولا الذي دفع ثمن الحملة الصليبية على الإسكندرية اذ رأى فيها المماليك فرصة سانحة لهم لينالوا من البطريرك حجولا، فاتُّهم بالخيانة والتّعامل مع الصّليبيّين، وأمر الحاكم المملوكيّ بإلقاء القبض عليه وإعدامه… على الفور، تحوّل دير سيّدة إيليج إلى ساحة حرب، فالمماليك لم يعطوا أيّ اعتبار للمقام المسيحيّ المتميّز في لبنان والشّرق، بل اقتحموه واعتدوا على رهبانه فعذّبوهم وذبحوهم بوحشيّة إلّا أنّهم لم ينالوا من سيّد الصّرح الّذي لجأ إلى إحدى المغاور القريبة من بلدته الأمّ. هذا الأمر زاد المماليك إجرامًا فداهموا بلدات جبيل والبترون، أحرقوا البيوت، اعتقلوا الكهنة والرّهبان، وهدّموا الكنائس. وأمام هذا الواقع، لم يستطع أن ينسى شعبه، فعاد البطريرك ليحمل الصّليب عنهم فسلّم نفسه وكُبّل وسيق متنقّلاً بين القرى من أجل تحرير الرّهبان والأساقفة الموقوفين، ووراءه يسير المؤمنون في موكب وقف عاجزًا أمام آلام بطريركهم. ساروا وراءه حتّى قلعة طرابلس حيث وُضع في زنزانة. ووسط آلامه، بقي صامدًا كالصّخرة، فبقي حارس سيّدة إيليج “قدوة صافية وصابرة” للرّهبان الأسرى الّذين عجّت بهم سراديب القلعة. هناك وقف وصرخ إلى الله قائلاً: “يا أبتاه.. لك روحي فليفعلوا بجسدي ما شاؤوا”. أمّا المرحلة الأخيرة من الجلجلة، فكانت بعد أمر القاضي بإضرام النّار وحرقه حيًّا. وهكذا كان، ووسط ألسنة النّار الملتهبة لفظ البطريرك البطل أنفاسه الأخيرة، وقال: “ربّي امنحني رحمتك واجعل رقادي الأبديّ في جنائن ملكوتك” وسقط شهيداً في نيسان 1367.

طبعًا كُثُر هم الشهداء الأحياء منهم والأموات الذين رسموا بدمائهم وتضحياتهم ملاحم البطولة في الدفاع عن لبنان الكيان قبل الاستقلال وبعده. والقوات اللبنانية إذ تحيي منذ 15 أيلول 1991 ذكرى شهدائها الذين سقطوا في فترة الحرب منذ العام 1975 ومن وحي الشهداء الأوائل، قدّمت وما زالت تُقدِّم شهداء في زمن السلم زمن الوصاية السورية سابقاً والإيرانية المقنّعة لاحقاً، طبعاً لا يغيب عن بال القيّمين اليوم على المقاومة وشهدائها الشهيد جوزف بو عاصي الذي سقط في 13 نيسان 1975، كما لا يغيب طيف الشهيد ميشال بارتي الذي سقط في الأشرفية في 28 أيلول 1978 في حرب المئة يوم، كما يحضر شهداء قنات في 13 شباط 1980 وشهداء حرب زحلة نيسان 1981 وشهيد الرؤساء ورئيس الشهداء الشيخ بشير الجميل في 14 أيلول 1982 وشهداء حرب الجبل في أيلول 1983 والشحار الغربي وإقليم الخروب 1984 وشهداء حرب التحرير 1989-1990 التي لم تقررها القوات بل خاضتها اقتناعا بمبدئيتها، وشهداء حرب الإلغاء 1990 التي قال عن خوضها رئيس القوات سمير جعجع عند بدايتها متوجها الى جيش عون: “رفاقي كما السيف يغرزه الثائر في صدره انتحارًا، أراني مضطرًا الى إصدار الأوامر الى القوات اللبنانية للدفاع عن نفسها، وأنتم تدركون ولا أحد غيركم يدرك، كم حاولت إبعاد هذه الكأس المعلقم عن فمي… ففجأة تغيّر الأعداء عند البعض، فأصبحت الضبية سوق الغرب وعين الرمانة الضاحية الجنوبية ونسوا أن على أرض لبنان خمسين ألف جندي سوري أجنبي وعشرات الميليشيات الأعداء…”

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها سقط للقوات اللبنانية في زمن السلم غدرًا واغتيالاً شهداء على طريق الشهيدين الحدشيتي وحجولا والشهداء الأوائل، إذ حتى العمل السياسي السلمي المدني كان ممنوعًا على القوات اللبنانية لأن السلطات السابقة والحالية تعلم علم اليقين بأن المقاومة الحقيقية، ولو سقط أو سُلِّم سلاحها، تبقى فعّالة فاعلة متفاعلة مع مجتمعها ووطنها محققة للطموحات والمشاريع الوطنية الخالصة، لذلك وضعت السلطات يومها وتضع اليوم نصب أعينها ضرب روح تلك المقاومة عبر الافتراءات والاتهامات والاغتيالات. ومن هنا من المهم تذكّر من سقط وما زال يسقط شهيدًا للمقاومة الحقيقية في زمن السلم.

الشهيد سامي أبو جودة – 18 كانون الأول 1990: ونزولاً عند توسلات عائلته سافر الى الولايات المتحدة بعد تلقيه التهديدات بالقتل عقب دخول الجيش السوري والأحزاب الموالية له الى المنطقة الشرقية إبان وبعد عملية 13 تشرين 1990. إلا أنه عاد لتمضية عيد الميلاد مع الأهل بينما كان يكتب أمنياته على بطاقات المعايدة في محل الصاغة الذي يملكه في الزلقا دخل عليه مسلحون نادوه باسمه وبادروه التحية بالرصاص. ليكون أول شهيد على لائحة التصفيات.

الشهيد إيلي ضو –  24 كانون الأول 1990: اقتحم بيته في كفرشيما مسلحان وأردياه قتيلاً ومن ثم طاردوا زوجته الحامل الى المطبخ وأطلقوا عليها النار إلا أن العناية الإلهية أنقذتها، وولد إيلي الإبن ليكمل ما بدأه والده مع أخويه بشير وأنيس.

الشهيد سليمان عقيقي – 24 كانون الأول 1991: أطلق مسلحون النار على القائد سليمان عقيقي شلومو في منطقة كفرذبيان واغتالوه بـ18 رصاصة.

الشهيد نديم عبد النور – 3 أيار 1992: اعترض مسلحون في 3 أيار 1992 طريقه وأردوه في الأشرفية وكان برفقة ولده طوني على رغم أن نديم بادرهم بالقول “بدكن تقتلوني قتلوني بس مش قدام إبني”.

الشهيد فوزي الراسي 21 نيسان 1994: توقف قلبه تحت التعذيب في وزارة الدفاع وهو يجلد على “البلانكو”.

الشهيدان جورج ديب ونعمة زيادة 19 حزيران 1998: استشهدا في انفجار عبوة ناسفة في الدورة

الشهيد رمزي عيراني: خُطف من مكان عمله في الحمرا في السابع من أيار 2002 ليعثر عليه جثة في صندوق سيارته وقد قتلته رصاصتان في القلب والرئة.

الشهيد بيار بولس 1 أيار 2004: استشهد على يد سوريين تواروا عن الأنظار في موقف للسيارات قرب منزله في الجميزة.

الشهيد بيار عفارة – 14 أيلول 2004 قتل على يد أحد السوريين الأكراد بطعنة في صدره في برج حمود بينما كان يحضّر لقداس رابطة إيليج.

الشهيدان عزيز صالح وطوني عيسى – واحد تموز 2005 فتح المدعو يوسف فرنجية النار عليهما في بلدة ضهر العين وأرداهما ثم هُرّب الى سوريا حيث مات هناك.

الشهيد رياض أبي خطّار – 23 كانون الثاني 2007 أطلق النار عليه على أوتوستراد البترون عندما كان أنصار المردة والتيار الوطني الحر يقطعون الطريق العام.

الشهيد بيار اسحق – 17 أيلول 2008 أطلقت عليه النار من أنصار تيار المردة في الكورة حيث كان بيار ورفاقه يوزعون ملصقات في بلدة بصرما الكورانية تدعو الى المشاركة في قداس شهداء المقاومة اللبنانية.

الشهيد الياس الحصروني – 2 آب 2023 اغتيل على يد خاطفين في عين إبل تنقلوا في سيارات رباعية مفيّمة أتت من قرى متعددة مجاورة في نفس الوقت.

الشهيد باسكال سليمان – 9 نيسان 2024 خطف على طريق ميفوق حاقل عبيدات في جبيل وعُثر على جثته داخل سوريا.

إن القاسم المشترك في جرائم اغتيال القواتيين المقاومين المذكورين يكمن أساسًا في تضليل التحقيق في الاغتيالات وقلبه وحرفه وحتى تغييبه، وكثيرًا ما كان الضحية أو أهله أو حزبه هم المتهمون والمحقَّق معهم مع تغييب الفاعل الحقيقي والمحرِّض الأساس المجهول المعلوم والذي دلّ على نفسه في كل المرّات إعلاميًّا وأمنيًّا وقضائيًّا مواربة عبر التضليل وعلنا عبر التهديد وتهريب المنفذين والرؤوس المدبرة وعدم تسليمها.

نستشهد بقول الدكتور سمير جعجع تاريخ 15 أيلول 1991: “نحن قوم لا يُقتل لنا الشهيد مرتين مرة في الحرب ومرة في النكران”، لنضيف على ما أوردنا “نحن قوم لا يُقتل لنا الشهيد ثلاث مرات مرة في الحرب ومرة في السلم ومرة في النكران”، ولشهداء السلم  كما شهداء الحرب حياةٌ مع الحقيقة والعدالة، والغدُ لنا ولهم.

 

كتب أنطوان سلمون في “المسيرة” ـ العدد 1756

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل