من اهم سمات اختلال الشخصية النرجسية مبدأ الاسقاطprojection ومبدأ الشعللة gaslighting. يقوم مبدأ الاسقاط على رمي كل ما تحتويه الشخصية النرجسية من قذارات وظلامية وغيرة وحسد وانحطاط على ضحيتها، امّا مبدأ الشعللة فيأتي مباشرةً بعد الخطوة الأولى، ويهدف الى تشكيك الضحية بنفسها، من خلال دوّامة تلاعبٍ نفسي خطيرة، لإخضاع تلك الضحية والسيطرة التامة عليها.
امّا اذا كانت الضحية على قدرٍ عالٍ من الوعي والثبات والتماسك الداخلي، وتتمتع بمقدرةٍ كبيرة على مقاومة المحاولات النرجسية، عمدت الشخصية النرجسية عندها الى شن حملات التشهير عليها لضرب سمعتها ومصداقيتها لدى الرأي العام، وقلب الأدوار وتزوير التاريخ حتى يُصبح المرتكب والعميل والحقير والمنحط شريفاً، والشريف والنبيل والنزيه والوطني مرتكباً وعميلاً.
لا يختار النرجسي الظلامي ضحيةً له سوى من كان يتمتّع بالمواصفات الانسانية والقيمية والاخلاق العالية التي تتناقض مع ظلاميته، ولأن النرجسي يحتقر ذاته الفاشلة ويحترم ضحيته في قرارة نفسه، وبما ان العقد النفسية تفتك به من كل حدبٍ وصوب، لذلك فهو يحقد على هذه الضحية ويحسدها ويغار منها ويحاول بشتّى الطرق تشويه صورتها والحطّ من قدرها، كونه يعجز في الارتقاء الى مستواها الرفيع الذي يحترمه ويقدّره في قرارة نفسه.
هذا هو باختصار فحوى ومضمون مقال جريدة الأخبار بعنوان “المارونية السياسية والدولة اليهودية”، وهذه هي حقيقة نفسية كاتبه جورج حداد الذي ينتمي الى محورٍ ممانع يعاني من هذا الاختلال على المستوى الجمعي، كونه لم يعرف يوماً معنى الارتقاء الحضاري والتراكم الثقافي والانجاز الحقيقي علمياً واقتصادياً واجتماعياً وادارياً، ولا معنى الازدهار والنجاح والتطوّر والانفتاح والعيش بسلامٍ داخلي الذي حققته المارونية السياسية طيلة نصف قرنٍ من الزمن، بل جلّ ما يعرفه هو اوهام القوة والعظمة التي تعوّض له فراغه الداخلي وتخلفّه عن اللحاق بالعقول المبدعة، وجُل ما فلح فيه هو ارتقاء سلّم السيطرة لا عبر مراكمة النقاط الإيجابية على الصعد الحياتية والانسانية والسياسية والدستورية والحقوقية كافةً، بل عبر الاغتيال والفجور والاسقاطات والشعللة وتزوير التاريخ ومراكمة اسلحة الخردة، التي لا تقارع تكنولوجيا الدول المتطورة، بل تسعى لتخويف الشعوب العربية المقهورة.
ولأن المارونية السياسية كانت تجربة رائدة وناجحة تاريخياً في العالم العربي، بشهادة شعوب الدول العربية والاسلامية ذاتها، التي كانت تعتبر لبنان بمثابة ملجأها ومتنفسها الحضاري وبلدها الثاني، ولأن محور الممانعة النرجسي اثبت فشله في الحاضر والماضي ولم يجلب سوى الخراب والانهيار والدمار والهجرة والموت والقهر، لذلك فهو يسعى لتشويه صورة نجاحات الماضي، سواء كانت هذه النجاحات من امضاء المارونية السياسية، او السنية السياسية، او العلمانية السياسية، او الدرزية السياسية، او اي طائفية او لاطائفية سياسية انجزت ونجحت واعطت لهذا البلد.
وبما انه عاجز عن الارتقاء الى مستوى انجازات الزمن الجميل، زمن سويسرا الشرق، ودولار الـ 190 قرشاً لا الـ 89 الفاً، وزمن الازدهار والسياحة والمطاعم لا زمن الافلاس وتحذيرات السفارات، وزمن حرية الصحافة ومقاهي المثقفين والمفكرين في الروشة والحمرا لا زمن “القرود الطائرة” والصحافة الصفراء والوجوه الكلحاء، وزمن الاصلاح الاداري والانماء والضمان الاجتماعي ووزارة التخطيط واستقطاب الرساميل والنهضة الصناعية والعمرانية، وزمن مهرجانات بعلبك وصيفيات بحمدون وعاليه وسينمات ساحة البرج، وهيبة الفرقة 16، وزمن الريفييرا والهوليداي إن وساحة الدباس، وزمن السان جورج حيث اغتال رمز السنية السياسية للاسباب نفسها، لأنه عاجز عن الارتقاء الى مستوى هذا الزمن الجميل، لذلك فهو يحاول التقليل من قيمته وتشويه صورة روّاده اللبنانيين الأقحاح، لأي طائفةٍ سياسية انتموا.
مشكلة النرجسية بحسب اهم علماء النفس بأنه لا علاج لها، كونها لا تعرف معنى الوعي وتحمّل المسؤولية وتقبّل الواقع والنقد البنّاء، والعودة الى الذات لاصلاحها بغية استدراك نفسها والاقتراب من الخط البياني للسيرورة الانسانية الحضارية، بل هي تفضّل دائماً المكابرة والهجومية والنكران والتلاعب النفسي والتقليل من قيمة الغير، وعمليات تشويه السمعة، والاسقاطات، ورمي مسؤولية فشلها وخياراتها السخيفة الحاقدة على الغير، اما مصيرها المحتوم فهو الانهيار الحتمي، بحسب اهم علماء النفس ايضاً.
اما اسباب هذه النرجسية فهي مزدوجة ومتناقضة في الوقت نفسه: السبب الأول وهو انها تعرضّت للنفخ والتضخيم كثيراً في صغرها، فيما هي تتمتع بمقدرات فكرية وعقلية وادراكية متدنيّة، ممّا ادى الى انفصالها عن الواقع وتلبّس دور العظمة والقوة والجبروت حتى تحافظ على انسجامها مع نفسها المصطنعة؛ او انها كانت مُحتقرة وفاشلة ومهمشّة ومحرومة وغير مُنتجة وغير مدعاة للفت الانتباه في الصغر، وهو ما ولدّ في نفسها هذا الشعور بالحقد والدونية والرغبة بالانتقام من كل ما هو ناجح وجميل وتشويه صورته، وتحويل البيت او الحي او الوطن الذي تستوطنه الى نسخة سوداوية مظلمة فارغة عن نفسها، اضف اليه العيش في وهم الانتصارات والانجازات التي تفتقد الى الحدّ الأدنى من قواعدها السليمة.
وللنرجسية ايضاً “قرودها الطائرة” Flying Monkeys وهي المنظومة الدعائية التي تعمل لصالحها، بهدف الاساءة الى كل ما يخالف النرجسي الرأي، او يُشكّل تهديداً عليه، او يحاول الوقوف بوجهه وفضح ارتكاباته، بحيث يعمل “القرد الطائر” ايضاً على تشويه سمعة هؤلاء الاشخاص البيضاء، وتلميع صورة النرجسي السوداء، واحياناً ما يكون “القرد الطائر” من خارج البيئة الحاضنة المباشرة للنرجسي، حتى يكون لحملاته المسعورة صدىً اقوى لدى الرأي العام.
وبالعودة الى مقال المدعو جورج الحداد، وبعد ان صار القرّاء على بينّة من موضوع النرجسية وطريقة تفكيرها وعمل قرودها الطائرة، وبعد ان صارت القوات اللبنانية، ومعها المارونية السياسية والسنيّة السياسية وسواها من الطائفيات اللبنانية، ضحايا موسمية للنرجسية حسب كل ظرفٍ وأحكامه، يكفي ان نقول للكاتب “الطائر” ومن خلفه جريدة اخبار الممانعة، كما كنا نقول لبعضنا بعضاً في الصِغر، مع تلك الإشارة باليد: “كل شي قلتو راجعلك”.