“أبيض أحمر”… كان لا بد من نفض الغبار عنها

حجم الخط

الصليب الأحمرالصليب الأحمرالصليب الأحمرالصليب الأحمرالصليب الأحمر

أوراق لحرب… لطالما تمنينا أن نطويها إلى الأبد. أن تصبح مجرد أوراق في كتب يقرأها جيل ما بعد المواجهات الأهلية ويتعلّم منها دروسًا. لكنها بقيت مشرّعة على فصول ستُكتب أيضًا بالأبيض والأحمر لكن في ما يسمّى بزمن السلم.

ثمة من سيقول: “لماذا تعيدون فتحها اليوم؟ ولماذا تعودون إلى تلك الأيام التي دمّرت البشر والحجر وهجّرت الآلاف وسقط فيها مئات الآلاف من الأبطال الذين حملوا البندقية والرشاش دفاعًا عن الوجود وكرامة الإنسان، عدا عن المعتقلين والمعوقين؟”.

صحيح أننا في كل 13 نيسان نقول “تنذكر وما تنعاد”، لكن من قال إن الحروب تُخاض فقط بالمدفع والرشاش والراجمات واليوم بالمسيّرات؟ ثمة حروب أكبر وأشد خطرًا على الوجود، وكما وقف الأبطال على الجبهات لمواجهة كل من يجرؤ على اقتلاع لبنان من جذوره وتاريخه وهويته وثقافته سنحارب لكن بسلاح الكلمة والإرادة والصمود والموقف!

نفتحها لنقول إلى كل من تَربّى ويُربي جيلاً على ثقافة الحرب ويهيئ لحروب تحت شعار “المساندة” حينًا، والدفاع عن أرض الآخرين حينًا آخر، وإسناد جبهات لا ناقة للبنانيين فيها ولا جمل… اتعظوا!

نفتحها ليس بهدف إعادة إحياء أحقاد وحفر أثلام الكراهية ورفع السواتر النفسية بين اللبنانيين. نفتحها لتكون عبرة لجيل جديد لم يتعرّف إلى حقيقة تاريخه وماذا فعل المحتل بأرضه وشعبه وماذا خلّف وراءه من أوراق كُتِبت بدماء الشهداء.

نفتحها إكرامًا وتقديرًا لشعب يعشق الحياة ويؤمن بوجوده وهويته اللبنانية التي نسجها نساك قنوبين وباركها القديسون، أن الأوطان لا تُبنى بالتسويات ولا تُحكم بقوة السلاح والاستيلاء على الدولة القانون والمؤسسات.

نعم نقولها بالفم الملآن: لا للحرب إلا دفاعًا عن أرض وهوية وكرامة شعب يستحق العيش في وطن وجمهورية قوية. والتاريخ يشهد على قوافل الشهداء التي لا تزال تستقبل أبطالاً استشهدوا في زمن السلم على أيدي مجرمين وحاقدين ومستظلين بهيبة السلاح.

إنها أوراق الحرب… نعود إلى صفحاتها مع شهادات دوّنها الإعلامي والمسعف السابق رائد جرجس في كتاب بعنوان “أبيض أحمر” صادر عن دار سائر المشرق يروي فيه فصولا من محطات عاشها مسعفون في الصليب الأحمر اللبناني خلال المعارك وفي سطورها سيتعرف الكثير من الجرحى من خلال الأحرف الأولى لأسمائهم على “الملاك الأبيض” الذي أنقذ حياتهم، وسيقرأ أهالي شهداء كثر تفاصيل اللحظات الأخيرة لأولادهم قبل أن ينتقلوا إلى أحضان يسوع.

ومع هذه الروايات المكتوبة بالأبيض والأحمر نستذكر محطات فكّرنا أننا طويناها إلى الأبد لكن كان لا بد من إعادة نفض الغبار عنها.

بالأبيض والأحمر الذي جمعه جرجس في كتاب اختصر فيه عمل الصليب الأحمر وتضحيات المسعفين بأربع كلمات “إلى ما وراء الواجب”، تنشر “المسيرة” في كل عدد فصولا تحاكي جيل الحرب وما بعده..

جومانا نصر

 

شهادات مسعفين في الصليب الأحمر تُروى للمرة الأولى:

أبيض أحمر: رسالة الى اللبنانيين: للحروب أثمان باهظة!

 

مسعفو الصليب الأحمر لأول مرّة عن الحرب هو كتاب أراده مؤلّفه تحية لتضحيات رفاقه المسعفين والمسعفات في الصليب الأحمر اللبناني، وتقديرًا للمؤسسة التي عملت – ولا تزال ـ من دون تمييز أو تحيّز إلا للإنسان فقط، بغض النظر عن عرقه أو لونه أو دينه أو أي انتماء آخر.

يضم الكتاب شهادات لعشرات المسعفين والإداريين السابقين في الصليب الأحمر اللبناني يروون خلالها، ولأول مرّة في تاريخ الحرب اللبنانية، حوادث وتجارب عاشوها أثناء المهمات التي قاموا بها خلال سنتي 1989 و1990 في مختلف المناطق اللبنانية. جميع الشهادات شخصية، وليست منقولة عن أي طرف ثانٍ، يخبر فيها من شارك في المهمات المذكورة فقط، عن مشاهداتهم، وعما اختبروه من خوف وحزن وخطر الموت وفرح… أحيانًا. يتضمن الكتاب أيضًا تفاصيل من الممكن أن تكون قاسية بالنسبة إلى البعض، ولكنها ضرورية للإضاءة على بشاعة الحرب ومآسيها و”الثمن” الذي دفعه الجميع بسبب النزاعات العسكرية على أرض لبنان.

بماذا نبدأ؟ عن ماذا نتكلّم أولاً؟ هل نبدأ بالأهم؟ وما هو الأهم عندما نتكلّم عن معاناة شعب، كبارًا وصغارًا وشبابًا وأطفالاً وأمهات وآباء؟ هل نتكلم عنهم أو عن الذين حاولوا مساعدتهم؟ يتركّز الاهتمام في هذا العمل على الإنسان كإنسان بغض النظر عن أي اعتبار آخر. ويضيء على معاناته من خلال المصابين والضحايا أثناء فترة محددة من الحرب (1989 ـ 1990) التي تعكس فكرة واضحة عن مآسيها، بغض النظر عن الفترات والأماكن والأطراف المتقاتلة. يركّز الكتاب أيضًا على اجتهاد أناس قرروا التخفيف من معاناة إخوتهم في الإنسانية قدر استطاعتهم، وهم مسعفو الصليب الأحمر اللبناني.

أردت لهذا الكتاب هدفين أساسيين، الأول تسليط الضوء على تضحيات متطوّعي ومتطوّعات فرق الإسعاف في الصليب الأحمر اللبناني، وعمل هؤلاء الشبان والشابات الجبار في أصعب الظروف، حتى وصل إلى حد المخاطرة بحياتهم لمساعدة الآخرين. أما الهدف الثاني، فهو إيصال رسالة إلى جيل الشباب الحالي، وإلى الأجيال القادمة، مفادها أن للحروب أثمانًا باهظة يدفعها ويرزح تحت أثقالها الوطن والمواطنون في حياتهم وممتلكاتهم وحاضرهم ومستقبلهم.

لهذا السبب أردت سرد الوقائع التي عاشها المسعفون كما هي، ولو كانت في معظم الأحيان بشعة أو محزنة أو مقرفة إلى حد الغثيان. فماذا تحمل الحروب غير هذه المواصفات؟

كيف نسرد الوقائع بلا أحكام وبعيدًا من المبالغة وبلا إضافات؟ لست محلّلاً سياسيًا ولا خبيرًا عسكريًا، وكذلك هم رفاقي المسعفون. لذا لن أحمّل مسؤوليات ولن أحدد من أطلق النار ببنقدية من هنا أو قذيفة دبابة من هناك، ولو ورد رأي أو معلومة في بعض الشهادات. وحفاظاً على صدقية العمل حذفت تفاصيل قد تُعتبر تحليلاً أو رأيا أو اجتهادًا شخصيًا وأبقيت على المشاهدات والتجارب التي عاشها المسعفون أثناء المهمات فقط. لذا تبقى التجارب وتفاصيلها على ذمة المسعفين وذاكرتهم، ولا علاقة لمؤسسة الصليب الأحمر اللبناني بها. كما أنه من المهم الإضاءة على مبدأ أساسي وهو أن كل الشهادات مبنية على المشاهدات والتجارب الشخصية، لكل مسعف ومسعفة، وليس نقلاً عن أي طرف آخر أو زميل أو مسؤول أو قريب. لذا أبقيت على أسلوب السرد المباشر في معظم أجزاء الكتاب لكي أنقل القارئ إلى أجواء المهمات قدر المستطاع، وكما رواها المسعفون.

أما بالنسبة إلى التسميات، فإن أسماء المسعفين حقيقية مع ألقابهم التي لازمتهم أثناء خدمتهم، وقد أجمعوا على الإدلاء بشهاداتهم بأسمائهم، للتاريخ، كما أبقيت أسماء الأحزاب والجهات والأشخاص المعنيين في مختلف المواقع، كما ذكرها المسعفون، في شهاداتهم إلا في حال طلبوا هم حذفها. واعتمدت تسمية “ضحايا” أو “قتلى” لجميع الأطراف، لتفادي الغوص في “مبدأ الشهادة”، وعلى مَن ينطبق، وعلى مَن لا ينطبق، وفي أي ظرف، وأين، فيتحوّل المضمون إلى موقف سياسي من أطراف الصراعات والحروب على اختلافها. كذلك اعتمدت كذلك تسميات الحروب والمعارك كما عرفها معظم اللبنانيين، لكي لا أخترع أسماء ومصطلحات جديدة. ومن المهم التأكيد أن بعض المهمات المذكورة شاركت فيها شخصيًا، وتعمّدت ذكر ذلك من باب الشفافية. أما المهمات الأخرى، وهي التي تشكّل أغلبية المحتوى، كما رواها المسعفون من مراكز مختلفة فلم أكن مشاركاً فيها. سألت، استمعت، دوّنت وقارنت في بعض الأحيان معلومات مستقاة من مقابلات مع رفاق شاركوا في المهمات نفسها حيث أمكن.

هكذا يجمع هذا الكتاب شهادات شخصية تتعلّق بما اختبره المسعف صاحب الشهادة فقط. فالانطباع أو الإحساس أو الشهادة ككل التي أدلى بها المسعف في هذا الكتاب، مرتكزة على تجربة شخصية وأحاسيس شخصية. هذا الكتاب ليس عملاً تأريخيًا على الرغم من المعلومات المهمة التي يتضمنها وتُنشر لأول مرّة، بل محاولة لجمع المعلومات والذكريات والتجارب من خلال شهادات المسعفين التي قبلوا أن يعطوها للمحافظة على ذاكرة مهمة من ذاكرة فرق الإسعاف وذاكرة الوطن.

في سياق متصل، يؤدّي المسعفون آلاف المهمات خلال سنوات تطوّعهم، وخصوصًا في فترات الحرب، لكننا سنكتفي بسرد بعض منها، انتقاها المسعفون أنفسهم فجمعتها وبوبتها بحسب الترتيب الزمني التقريبي لتعذّر معرفة التاريخ الدقيق لكافة المهمات التي طبعت ذاكرة المسعفين وأثرت فيهم نفسيًا، وما زالوا يذكرون تفاصيلها، إما بسبب خطورتها أو بسبب أوضاع دقيقة مرّوا بها قبل أو أثناء أو بعد تنفيذها. الخطر الجسدي ليس وحده ما يطبع الذاكرة، هنالك حالات مؤثرة يحملها الإنسان بسبب آلام إنسان آخر، كإصابة طفل مثلاً أو أم مفجوعة أو دمار هائل أو عدد كبير من الإصابات وطبيعتها أو عدد القتلى، أو مشهد الجثث، إلخ. كل هذا يتطرّق إليه المسعفون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أثناء شهاداتهم وسردهم لتفاصيل المهمات التي ذكروها والتجارب التي عاشوها. كما يتطرّق هذا العمل إلى الحالة النفسية للمسعفين بسبب ما عاشوه واختبروه وشاهدوه خلال المهمات. وهنا يبرز السؤال التالي الذي حاولنا الإجابة عنه: هل يعاني المسعف من تروما (trauma)؟

قبل الخوض في تفاصيل المهمات الإسعافية أثناء الحرب، أردت أن أقدم إلى القراء من غير المسعفين فكرة واضحة عن «الحياة» الإسعافية، فشرحت كيفية إدارة المركز والحياة فيه والروتين اليومي وغيرها من التفاصيل التي عاشها المسعفون بشكل يومي.

لقد أدلى العشرات من المسعفين بشهاداتهم. وقد حاولت التحدث إلى أكبر عدد ممن شارك منهم في المهمات المذكورة في الكتاب. نجحت أحيانًا ولم أوفق في أحيان أخرى لأسباب عدة أهمها: فقدان الاتصال بمسعفين سابقين في لبنان أو في الخارج، أو عدم قدرة المسعف على تذكّر إسم من كان يرافقه في المهمة، أو بسبب عدم رغبة البعض في ذكر اسمه أو التحدّث لأسباب خاصة. ومما زاد الأمر تعقيدًا في تحديد التواريخ وأسماء المسعفين في المهمات كافة، فقدان الأرشيف المكتوب بخط اليد من المراكز، وخصوصا في مركز جونيه الذي غمرته مياه الشتاء أكثر من مرة، فأتلفت السجلات في خزائن الطبقة السفلية من المبنى.

 

الحرب والثمن.. رسالة شخصية

رسالة نابعة من تجربة شخصية إلى كل الذين ينتظرون أو يتمنّون حربًا في لبنان لأي هدف كان هذا ما ينتظركم:

ـ تتنقلون بين دمار الأبنية الرهيب إلى حد يصعب عليكم التعرّف إلى أحياء وشوارع كنتم تعرفونها جيدًا.

ـ تشتمّون روائح كريهة جدًا سوف تُدمِع ذاكرتكم حتى آخر أيام حياتكم. إنها مزيج من روائح جثث بدأت تتحلّل مع روائح البارود وأشياء أخرى أتت عليها النار بعد قصف رهيب.

ـ تلتقطون أشلاء بشرية، وتبحثون بين الجثث عن المكتمل منها، وعن أخرى “منقوصة”، لتضعوا عليها يدًا أو رجلاً أو رأسًا أو أجزاء أخرى.

ـ تضعون جثثاً في أكياس بلاستيكية وتحكمون إغلاقها لمنع تسرّب الرائحة.

ـ ترافقون صديقاً أو قريباً ليتعرّف على جثة من خلال وشم أو شامة بسبب تشوّه الوجه.

ـ تحملون شبه أجساد الأمهات مفجوعات لن تستطعن إلقاء النظرة الأخيرة على إبن أو إبنة أو زوج أو أخ أو أخت بسبب تشوّه كبير.

ـ تتمنّون ألا يأتيكم خبر فقدان قريب أو صديق في كل يوم من أيام الحرب.

ـ تفقدون فجأة حبيبًا عزيزًا فتأتي الصدمة كلكمة في الوجه تولّد ألمًا وشعورًا بالمرارة والاشمئزاز من الحرب لا يندملان مع مرور الزمن.

ـ تحملون ندوبًا عميقة في القلب والفكر بسبب صدمات متراكمة.

ـ تستنجدون بالله والقديسين عندما يدوّي انفجار بقربكم أو عندما تسمعون أزيز الرصاص فوق رؤوسكم.

ـ تسهر أمهاتكم طوال الليل وتشعلن الشموع إلى حين عودتكم.

ـ تفاوضون عسكريًا هنا أو مسلّحًا هناك للمرور بسلام غير مضمون في بضع مئات من الأمتار.

ـ في الحرب تفهمون مدى قبح السياسة والسياسيين ومدى أهمية الحياة ونعمتها.

ـ تسألون الله سلامًا طال انتظاره وارتفع ثمنه المدفوع غاليًا بالدم والدمار.

ـ صلّوا ولا تملّوا ليبعد الله عنا وعن وطننا شبح الحرب القبيحة. مَن لم يعش الحرب الفعلية يتحمّس لخوضها عن جهل أو عن غباء… في الحرب الكل يخسر…

 

ويلات حرب التحرير

سُجّلت خلال حرب التحرير فترات من القصف المجنون الذي طال مناطق عديدة وأدى إلى آلاف القتلى والجرحى ومئات الآلاف من المهاجرين اللبنانيين (1). تخلّلت هذه الحرب أيضًا أيام أقل عنفًا حين كان القصف يتوقف أحيانًا ليوم كامل لسبب ما، ويتجدد فجأة في اليوم التالي. وكان الناس يعيشون في حالة ترقب وقلق كبيرين بسبب عدم الشعور بالأمان، فيما الهاجس الأكبر أن يبدأ القصف في أية لحظة وخصوصًا في فترات بعد الظهر وحتى ساعات متأخرة من الليل. كان هذا الروتين شبه اليومي يسمح أحيانًا بفتح المحال التجارية أبوابها وتسيير الأمور الحياتية الضرورية. أما المدارس والجامعات فأقفلت أبوابها لفترات متفاوتة وصلت إلى ما يقارب الستة أشهر حسب المناطق. وقد عبّر البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير عن تلك الفترة بكلمات تختصر معاناة اللبنانيين في تقديمه الجزء الثاني من كتابه «عظة الأحد»: خواطر روحية ومواقف وطنية (2) الذي يضم العظات التي ألقاها خلال العام 1989: “…وغني عن البيان أن أحداث سنة 1989 في لبنان، وهي السنة التي ألقيت فيها هذه المواعظ، كانت شديدة الوطأة على اللبنانيين، وقد تعرّضوا لأقصى امتحان. فكانت معارك ضارية وتقاصف دفع الكثيرين إلى الإقامة في الملاجئ ـ إذا كان هناك من ملاجئ ـ احتشدوا فيها من كل الأعمار، لا كهرباء وأحيانًا لا ماء وحتى لا غذاء. ووقعت ضحايا كثيرة وكانت انتهاكات شلّت الحياة الاجتماعية وعطّلت كل تواصل” (3).

 

الملجأ

عرف اللبنانيون الملجأ منذ بدايات الحرب، فكانوا يحتمون فيه من القصف خلال خمس عشرة سنة تقريبًا من الحروب المتنقلة والقصف المركّز أحيانًا والعشوائي أحيانًا أخرى. يتألف الملجأ من مساحة واسعة نسبيًا (حسب المباني) ومفتوحة، حيث يفقد الإنسان خصوصيته ويعيش مع العشرات من الأقارب أو الجيران تحت الأرض في ظروف قاسية. بالإضافة إلى الضغط النفسي والتوتر، كان اللبنانيون في الملاجئ يعانون من نقص في المياه وانقطاع للكهرباء وعدم القدرة على الخروج لساعات وأحيانًا لأيام متتالية. في أغلب الأحيان كانت الرطوبة والمياه تتسرّبان إلى الملاجئ التي في غالبيتها هي مواقف للسيارات أو مخازن تحت الأرض. أما الأماكن التي حوّلها اللبنانيون إلى ملاجئ مثل مداخل الأبنية أو منازل أرضية اعتقدوا أنها أقل خطرًا من الطوابق العلوية، فكانوا يرصفون الحجارة أو أكياس الرمل على مداخلها وأحيانًا على السطح للتخفيف من ضرر القذائف التي من الممكن أن تسقط على المكان. وعلى الرغم من الاحتياطات المقبولة أو البدائية في معظم الملاجئ، سقط المئات من الضحايا أثناء الحرب في لبنان داخل ملاجئهم، وفي بعض الحالات انهارت الأبنية على الناس ما سبّب مآسي كثيرة.

اعتاد “سكان” الملاجئ تمضية الوقت من خلال لعب الورق أو ألعابًا أخرى وسماع نشرات الأخبار عبر جهاز الراديو أو التلفزيون في حال توفر الإرسال والكهرباء. عند توقف القصف، كان الناس يخرجون لقضاء حاجياتهم وشراء الأغذية وتفقد ممتلكاتهم، أو أقلّه لتبديل ملابسهم والاستحمام بسبب عدم توفر الإمكانية داخل الملجأ.

طريقة أخرى اعتمدها عدد من اللبنانيين وهي النزوح من أماكن سكنهم في المناطق التي تشهد قتالاً أو قصفًا عنيفًا باتجاه مناطق نائية وبعيدة نسبيًا عن الخطر المباشر. فكان جزء منهم ينتقلون إلى بيوتهم الصيفية ممن يملكون مسكناً آخر في مسقط رأسهم، أو يستأجرون منازل في القرى البعيدة أو يلجأون إلى منازل أقارب لهم أو أصدقاء فتتحوّل هذه الأماكن إلى ملجأ لهم يتابعون فيه حياتهم شبه الطبيعية ولكن بعيدًا عن مقرّ سكنهم الأصلي. شهد بعض المناطق البعيدة خلال حرب التحرير مثلاً أو حرب الإلغاء حركة طبيعية، فيما كانت الحركة شبه معدومة في المناطق التي تشهد قتالاً أو قصفاً مركّزًا.

 

البيت الثاني للمسعفين

جهز المسعفون مراكزهم خلال الحرب بسبل الحماية، بالطرق المتوفرة حينها، مثل وضع أكياس الرمل أو البراميل أمام المدخل والشبابيك، ورصف أحجار الخفان أمام جدران المراكز وغيرها من الاحتياطات. في مركز جونيه، وضع المسعفون قساطل من الفونت على سطح غرفة الاستراحة (أو السهرة) وفوقها أكياس رمل، كما أيضًا أمام المدخل السفلي المؤدي إلى مقرّ فرق الإسعاف، إلا أن تصميم المركز الحديث والعملي لم يساعد في تأمين مستوى مقبول من الحماية. كانت الغرف كلها وكأنها في الطابق الأول حتى التي كانت أدنى من مستوى الأرض. هذه الغرف (كغرفة السهرة والنوم مثلاً) كان سطحها مكشوفًا وغير محمي بشكل كافٍ ولو وُضع بعض التحصينات عليه. حتى القاعة الكبرى حيث يتواجد معظم المسعفين أثناء الدوام كان سطحها مشرّعًا للإصابة من خلال الواجهات الزجاجية الكبيرة للمستوصف في الطابق الأعلى.

باختصار، لم يكن ثمة ملجأ فعلي في مركز جونيه، كما في العديد من المراكز في مختلف المناطق التي تعرّضت للقصف. آثار القصف الذي طال محيط المركز وخلّف فجوات كبيرة في الإسفلت والتراب يصل قطرها إلى حوالي الثلاثة أمتار(4) يجعلنا نقول إن العناية الإلهية حمت المسعفين خارج وداخل المركز. بالإضافة إلى التحصينات، تم تجهيز غالبية المراكز بمولّدات كهربائية تعمل على المازوت وبإنارة تعمل على البطاريات.

بالإضافة إلى الحماية، كان تأمين الغذاء لعدد كبير من المسعفين أمرًا مهمًا أيضًا، وبقي كذلك طوال أيام الحرب حين كان يتواجد عشرات المسعفين بشكل يومي في أغلب مراكز الصليب الأحمر التي تقع ضمن المناطق “الساخنة”. ازدادت صعوبة تأمين الكميات اللازمة مع إقفال المؤسسات الغذائية والمحلات، ومع تفاقم القصف والحصار الذي أثر أيضًا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على سهولة استيراد المواد المعلّبة والطحين وغيرها من الأساسيات. تأمين الأكل لحوالي عشرين مسعفاً أو أكثر بشكل يومي لم يكن أمرًا سهلاً، ما دفع رؤساء المراكز والمسعفين إلى التفنن في اجتراح الحلول “الخلّاقة”.

في طليعة هذه الحلول كانت التبرّعات بالمؤن على أنواعها مثل الأجبان والمربى والمعجنات وغيرها (قبل تاريخ انتهاء الصلاحية وأحيانًا بعدها)، فكثرت المعلّبات في المركز ومن صنف معيّن في فترة ما (جبنة سميدس مثلاً) وكثر نوع من أصناف التحلية في فترة أخرى، حسب تاريخ تسلّم هذا الصنف أو ذاك. كل من المراكز تدبر أمره “بالتي هي أحسن” في بداية الحرب. منهم من اعتمد على تقديمات المؤسسات الغذائية للمساعدة في “مساندة” الشباب في كميات من الأكل. والبعض الآخر تدبر أمره من أديرة أو متموّلين، أما الحل الأكثر رواجًا وفعالية فكان مداورة المسعفين على الطبخ أو شراء الأكل من الخارج عندما كان ذلك ممكناً (5).

يخبر الياس سجعان كيف اتفق مع الراهبات في بحنس على تزويد المسعفين بالطعام، فكان يأتيهن بالطناجر فارغة ويأخذها مليئة بالمأكولات، و”كان أكل الراهبات كتير طيب” على حد تعبيره (6). في مركز الأشرفية وضع المسعفون المعلّبات وأنواعًا أخرى من المأكولات المحفوظة على شرفة المركز. يقول نبيل معتوق عن تلك المرحلة: “الله وفقنا بمخزون من الكرواسان croissants تشارف صلاحيته على الإنتهاء، فبات أكلنا اليومي بين المعلّبات والكرواسان. بقيت حوالي الخمس سنوات لا آكل الكرواسان… وبعد فترة توجّهت إلى المستشفيات وقلت لهم نحن نؤمن لكم الخبز والأوكسيجين حين نستطيع وأريد منكم تأمين الأكل والحمامات للشباب. قسّمت المستشفيات: أوتيل ديو والروم والجعيتاوي والوردية ورزق بحيث يتناوبون يوميًا على تأمين الأكل للمسعفين. أما بالنسبة إلى البنزين فاتفقت مع محطة على تأمين المادة لسياراتنا، في طلعة الـ sks (مقابل مدرسة الثلاثة أقمار). خدمنا صاحب المحطة خدمة العمر في ظل الضغط الذي كنا نعيشه من كافة النواحي والذي فاقمه الحصار (7). أما في مركز جونيه، فكثرت علب الجبنة والتونة والباستا. تتذكر دولورس الرامي (8) dolo هذه الفترة وتقول: “كنا نتلقى المواد الغذائية، وفي أغلب الأحيان، كانت منتهية الصلاحية أو على وشك انتهائها. كنا حوالى الستين مسعفًا أول الحرب، اعتدت أن أطبخ الباستا مع التونا بصلصة البندورة والبصل، كانت طيبة، ومرة أخرى أحضر الطاجن بالتونة مع الطحينة (9).

 

يتبع

حرب التحرير

يجب القول إنه على الرغم من الظروف الصعبة التي مر بها لبنان والتي عانى خلالها اللبنانيون جميعهم، ظهرت جليًا، وما تزال، نخوة اللبناني وإرادته لمدّ يد العون والمساعدة. وتجسّدت هذه الظاهرة في الشبان والشابات الذين تطوّع الآلاف منهم كمسعفين في الصليب الأحمر اللبناني وفي مختلف أقسام هذه المؤسسة وغيرها من المؤسسات أو الجمعيات التي قدّمت المساعدة أثناء الحرب. وفي موازاة هذه النخوة التي أظهرها المسعفون، ظهرت أيضًا إرادة وقدرة اللبنانيين على الصمود والحياة وتعلّق الشباب اللبناني بأرضه وناسه، فاستطاعوا بذلك تخطي الصعاب مهما تعاظمت.

 

الكاتب رائد جرجس ـ نياغارا، كندا في 30 حزيران 2024

 

هوامش:

1 ـ ألف قتيل وعشرين ألف جريح وحوالى ثلاث مئة ألف مهاجر، حسب مصادر مختلفة وصحف محلية.

2 ـ حسب ما جاء في كتاب أنطوان سعد، السادس والسبعون مار نصرالله بطرس صفير، دار سائر المشرق، طبعة رابعة، 2008، الجزء الأول (1992-1986) ص 191.

3 ـ أنطوان سعد، المرجع نفسه.

4 ـ سقطت عدة قذائف خلال حربي التحرير والإلغاء على بعد حوالى العشرة والعشرين مترًا عن مركز جونيه، وكان أكبرها على الطريق الإسفلتية أمام المركز وعلى سكة الحديد بجانبه من ناحية الأوتوستراد، ما أدى إلى تكسّر الزجاج في عدة طوابق.

5 ـ في أول أيام الحرب (التحرير والإلغاء) أقفلت معظم المحال التجارية والمطاعم أبوابها، لكنها عادت وفتحتها بعد التأقلم مع الأوضاع الأمنية المتقلّبة، والتي استمرت لأشهر.

6 ـ الياس سجعان، المصدر نفسه.

7 ـ نبيل معتوق، المصدر نفسه

8 ـ تطوّعت في فرق الإسعاف في الصليب الأحمر اللبناني من سنة 1985 حتى سنة 1991. خدمت في مركزي أنطلياس وجونيه، تعمل حاليًا في قطاع تصميم الإعلانات والهندسة الداخلية.

9 ـ دولورس الرامي في مقابلة مع الكاتب بتاريخ 11 شباط 2014.

 

“المسيرة” ـ العدد 1756

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل