إنه أيلول المبلل بحكايا الحنين، بذاك الشغف الذي يلامس القلب في عمق أعماقه، بتلك القصص التي لا يرويها إلا من جعل من الموت قصيدة بقاء، ومن الغياب حضورًا دائمًا، ومن الشوق رواية يكتب سطورها هم وحدهم. إنهم الشهداء يا رفيقي، وأنت منهم… نغمة أيلول استدعاء لشهيد ليجالسه تلك القعدة الاستثنائية الى رصيف الحياة، ولو كان هو هناك في عمق الغياب. كيف يجلب أيلول كل هؤلاء؟ كيف يستدعيهم؟ من أين يستمد قوة استحضارهم أصلا؟!
إنه أيلول ولا نهاية له في مفكرة مواسمنا لأنهم هم الحصاد.
إنه أيلول الشهداء في معراب حيث أسماؤهم مدروزة فخرًا فوق فخر، وعندما يقرع جرس القداس إيذانا بأننا هنا، ترى لوحة الأسماء العملاقة التي تزيّن الساحة، بيضاء من دون حروف، يا الله أين أسماؤهم؟ من تجرأ على محوها؟! شهداؤنا خرجوا من إطار الصورة واللوحة، ليتحوّلوا أحياء في قلوب مناضلين أحياء يرفضون النسيان. خرجوا من السطور ليعلنوا الحياة مع المسيح، والحياة في قلب المقاومة.
لوهلة تظن أن عجقة الأيام أخذتنا من حضورهم فينا، تظن أنهم عن جد راحوا، وإذ بأيلول ينتفض على قليلي الإيمان، ويعلن عليهم الذاكرة الحيّة في قلوب آلاف المناضلين، الذين من عبق شهادتهم يستمدون قوة النضال والبقاء في النضال، لأجل لبنانهم، لبنانهم المبلول الطرف بالدماء الذكية، دماؤهم. لبنان ذاك الذي لا يزال يعلِق البدلة الزيتية المكوية جيدا في خزانة الوفاء.
أيلول والشهداء حكاية أدبية شاعرية واقعية في كتاب المقاومة، لا تمحوها السنون ولا الفصول ولا المواسم، لأنهم أحياء فينا، ولو لم يكونوا كذلك لما كان لنا في لبنان بعد قوات لبنانية ولا مناضلون ولا قضية ولا أيلول الذي يخترق سنويًا صمت الموت معلناً حب الحياة للبنان!
“المسيرة” التي حفرت على صفحاتها منذ العدد الأول قصص أبطال استشهدوا لنبقى، كانت حاضرة هذه السنة في ساحة القداس في معراب، حيث خصصت مكانا لها في أرض البطولة والوفاء، وكان حوار لمندوبة المسيرة جوانا توما مع أهالي الشهداء.
بول شدياق عن الشهيد سليمان شدياق… أذكر تماما اليوم الذي استشهد فيه أبي من العام 2006، إذ دوى صوت خرق جدار الصوت القوي في سماء بيروت، ولا يزال الصوت حتى اللحظة يدوي في رأسي، ولا يمكن أن أنساه. لا يمكنني أن أكرِم أبي أكثر من أن أحمل اسمه، وأن أتشبّه به وأقوم بالأعمال الخيرية التي كان يقوم بها بصمت وبمحبة كبيرة، وأنا أفعل كما كان هو يفعل دائما.
سميرة صالح عن زوجها الشهيد عزيز صالح… ليس هناك صورة تذكرني بزوجي الشهيد، أكثر من أن أعيش ذكراه دائمًا وكأنه موجود حي معي، أذكره في كل دقيقة وثانية وفي كل نفس أتنفّسه. في كل خطوة أقوم بها زوجي معي، هو حاضر في قلبي ووجداني في كل تفاصيل حياتي، أحاوره أستشيره وآخذ دائما بنصيحته عند كل قرار اتخذه، ومنه استمد القوة لأستمر.
طوني نصر عن والده الشهيد يوسف نصر نصر… لا تغيب عن بالي المجزرة التي استشهد فيها أبي، فهي لا تزال مغروزة في رأسي كأنها حصلت البارحة. 24 شخصًا من أبناء الضيعة قُتلوا بوحشية في خلال 24 ساعة، استشهدوا فداء عن أبناء بلدتهم، وهذا ليس بالأمر الغريب عن العيشية، التي قدمت 110 شهداء على مذبح الوطن، لذلك كل سنة في 26 تشرين الأول، نحتفل بالذبيحة الإلهية عن أرواح شهدائنا الأبطال، ونذكرهم أيضا في قداس الشهداء في معراب مع دمع أيلول وشجن اللقاء بهم فوق.
فادي خليل الخوري عن الشهيدين نجى الخوري وغنطوس درويش الخوري… استشهدوا في 15 كانون الثاني 1986 يكفي أن نكمل المسيرة على خطاهم، وأن نربّي أولادنا والأجيال القادمة على فكرة أن هناك من ضحوا بحياتهم كي نبقى نحن هنا، ولولاهم لما كنا الآن موجودين. أهم ما يمكن أن نقدمه لهم اليوم غير الصلاة لراحة أنفسهم، إنما الدعوة لتحقيق العدالة، فإن لم تتحقق عدالة الأرض فعدالة السماء آتية لا محالة. نحن قوات على الأرض وهم قوات في السماء وسنكون أوفياء للمسيرة التي استشهدوا لأجلها، وللمبادئ والفكر الحر الذي ضحوا بحياتهم في سبيله. يجب ألا نكون مسيّرين ولا تحت وصاية أحد، وألا نساوم على الأفكار التي تربينا عليها. نحن دفعنا الدم ثمنا لاستمرار وجودنا الحر في هذه الأرض ولن نقبل بأن تذهب دماء شهدائنا هدرًا. وكما قال الدكتور جعجع شهيدنا لا يموت مرتين مرة بالحرب وأخرى بالنكران، وسنكمل المسيرة.
فاديا خضرة عن أخيها الشهيد جابي خضرة… كنت ألعب معه، نذهب معًا الى المدرسة، ونمضي ساعات النهار معًا. عشنا معًا كل اللحظات الحلوة، لذلك عندما استشهد ترك لي فراغًا عميقاً جدًا. لا أريد أن أنساه، ولن أنساه ما حييت، لذلك ولكي أحافظ على إرث شهادته، أتواصل دائمًا معه عبر رفاقه القواتيين، فأشعر بأنه حاضر بيننا وأنه لم يرحل، لذلك أنا مؤمنة وأقول دائمًا بأن المسيرة مستمرة الى أبد الآبدين.
كريستيان إندراوس عن الشهيد الياس الحصروني… الحنتوش لا يُنتسى. في الحرب علّمنا الثبات والعنفوان والكرامة لنبقى شجعانا صامدين في أرضنا، والآن وكما ترون، شباب وصبايا قوات عين إبل صامدون في قراهم في الجنوب 24 على 24 ساعة، لا يهابون شيئاً ولا أحداً، يحرسون البيوت والأرزاق ليمنعوا دخول الغرباء إليها. بفخر كبير سأخبر أولادي عن أعمال الحنتوش الخيّرة وعن بطولاته الحقيقية، وسأبقى أحكي حكايته وكيف اغتيل غدرًا فقط لأنه ينتمي الى “القوات اللبنانية”، أحكي عنه لأنه مصدر فخر ولكي تبقى المسيرة مستمرة من جيل لجيل.
ماري سعيد الحاج عن أخيها الشهيد إيلي الحاج… شهادتي مجروحة بأخي. نحن بيت مقاوم منذ بدايات النضال، ولم نقدم شهيدًا واحدًا، بل لنا شهيد آخر حي هو أخي الثاني، بيتنا مندور للنضال ولحب الأرض. كيف يمكننا ألا نكون أوفياء لكل هؤلاء الأبطال، والوفاء يقضي بأن يبقى لشهادتهم ولنضالهم الحيّز الأكبر في حياتنا، وأن نذكرهم دائمًا أينما وجدنا، ونحكي حكايتهم المشرقة بالشجاعة للعالم كله، وأن نمشي في الطريق والقضية التي استشهدوا لأجلها لنبقى ونستمر.
مارلين نعيم قشوع عن والدها الشهيد نعيم قشوع… منذ 42 عامًا دخل أبي الفردوس الى جانب العذراء مريم، كنت في العاشرة من عمري عندما قرر بذل ذاته لبقاء لبنان سيدًا حرًا مستقلاً. أتذكره بحنيته وبحبه الكبير لنا وللجميع، وبعطائه اللامحدود. أذكر أنه كان صاحب همّة، شجاعًا يساعد الجميع، ولا يزال كل من عرفه حتى اللحظة يذكره بالخير ويترحّم عليه. أقول دائمًا “يا ريت بعدك طيب يا بيي”، كيف يمكن أن أكرمه أكثر من أن أكون حاضرة في قداس الشهداء في معراب، وأحمل بفخر كبير صورته الحلوة، فهو لم يمت لأجلي فقط إنما لأجل كل لبنان.
وفاء سركيس عن زوجها الشهيد باسم سركيس… لم يكن باسم إنساناً عاديًا، كان محبًا حنوناً يهتم بعائلته ويحاصرها بالحنان، كان يحب لبنان بشكل كبير، وقبل استشهاده بفترة كان دائمًا يقول لي وكأنه شعر باقتراب الشهادة “أنا رايح ويمكن ما ارجع”، لدرجة أنه ذهب الى المصوّر ليأخذ له صورة رسمية، وقال لي إن هذه الصورة ستُرفع في يوم من الأيام كصورة شهيد، وها أنا اليوم ومثل كل سنة، أرفع صورته شهيدًا، وأجدد له ولرفاقه وعد الوفاء والالتزام وحمل المشعل من جيل لجيل، وأقول له ولهم إننا ما زلنا على الوعد وإن استشهادهم لم ولن يذهب سدى لأنهم استشهدوا دفاعًا عن لبنان، وإن دماءه وحياته التي أعطانا إياها لنبقى ونحيا، ستبقى معنا وسنبقى نذكره هو ورفاقه الشهداء الى الأبد، ونقول لهم إن الغد لنا وهم ليسوا فقط شهداء بل هم برتبة قديسين لأن الإنسان الذي يبذل ذاته لأجل أرضه هو برتبة قديس وليس فقط شهيد.
نزيه أيوب عن أخيه الشهيد ألفرد أيوب… لا أنسى ما حييت يوم استشهد أخي ألفرد. ذكراه محفورة بوجداني ولا يمكن أن أنسى اندفاعه وشجاعته اللامتناهية هو ورفاقه الأبطال الذين كانوا يرافقون أحيانا أخي الى البيت. ما بعمري رح أنسى صورته، ووجهه مغروز في رأسي. أحاول أن أمشي على خطاه وأن أتبع الطريق التي سلكها، فهذا تكريم له ولشهادته، أحب أن أحكي عنه دائمًا، إذ أشعر أن من واجبي أن أفعل، ليبقى حيًا في ذاكرة المقاومة، بطولاته ورفاقه كانت ملهمة لأجيال وأجيال لذلك علينا الحفاظ على هذا الإرث العظيم.
كتبت فيرا بومنصف في “المسيرة” ـ العدد 1754
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]