لا يتحقّق التغيير في الأوطان والمجتمعات من دون وجود أحزاب تشكل رافعات تاريخية لمشاريع إنسانية ووطنية وسياسية، و”القوات اللبنانية” آمنت منذ تأسيسها بضرورة توافر أربعة عناصر أساسية لدورها النضالي:
العنصر الأول من طبيعة تنظيمية، فالتنظيم ضرورة ماسة لتحقيق الأهداف، ومن دون توحيد الجهود وتنظيمها وترتيبها وتوجيهها يصعب تشكيل قوة ضغط تدفع بمسار الأمور بالاتجاهات المطلوبة.
العنصر الثاني من طبيعة فكرية، فمن دون فكر سياسي يُصبح همّ الأحزاب والأفراد السلطة والكراسي والنفوذ، وغياب الفكر يعني غياب المشروع الذي يتحوّل إلى مشروع خاص، ولا يوجد في قاموس “القوات” ما هو خاص، إنما مشروعها يستند إلى فلسفة سياسية تتعلّق بالبعد العام الإنساني ـ الوطني.
العنصر الثالث من طبيعة شعبية، فلا تأثير لحزب من دون رأي عام مؤمن بأفكاره ومشروعه ونهجه وممارسته، والتحدّي الدائم إقناع أوسع شريحة ممكنة بهذا المشروع، لأنه من دون الرأي العام لا يتحقّق التغيير، وإلا يُصبح مفروضًا بالقوة، فيما “القوات” تريد أن يكون نابعًا من قناعة الناس بهذا المشروع الذي يجسِّد تطلعاتها.
العنصر الرابع من طبيعة نخبوية، فالتغيير يتحقّق عن طريق النخبة المؤمنة بمشروع وأهداف، لأن الرأي العام المنشغل بهمومه ويومياته يفوِّض من يمثِّل أفكاره، فيما النخبة متفرِّغة للعصف الفكري الذي يخدم أهداف المشروع الخلاصي للرأي العام، وأي حزب أو تيار لا تلتف حوله نخبة يفتقد إلى عمود فقري أساسي من الأعمدة الأربعة المطلوب توافرها.
وأي حزب يريد إحداث تغيير في المجتمع يجب أن يجمع هذه المداميك، فمن دون تنظيم لا أمل بتحقيق أي شيء، ومن دون فكر يُصبح الهدف عابرًا من قبيل “قوم تا إقعد محلّك”، ومن دون رأي عام يفتقد إلى مفاتيح التأثير، ومن دون نخبة يفتقد إلى تدعيم المشروع وتطوير الأفكار وتقديمها بأفضل حلة إلى الناس.
و”القوات” منذ تأسيسها تعمل وفق هذه الأسس وهذا البنيان المرتكز على أربعة عواميد مترابطة ومتكاملة، فالتنظيم كان دائمًا حديديًا، والفكر السياسي واضح المعالم تحت عنوان القضية، والرأي العام يلتف حول “القوات”، والنخبة تضع نفسها بخدمة القضية و”القوات” التي تعمل على تحقيق أهداف هذه القضية.
وعلى رغم الطابع السياسي لمؤتمري معراب الأول والثاني، إلا أن الهدف العميق من هذين المؤتمرين وما سيليهما من مؤتمرات، يكمن في جمع أوسع نخبة داخل المجتمع حول أفكار وعناوين تتفرّع من الهمّ الوطني الأساسي، وإيجاد مساحة تواصل معها دائمة للتفكير في كيفية دفع أهداف القضية قدمًا.
ولأن “القوات” مثلّت وتمثِّل ضمير المجتمع تعرضّت على مرّ تاريخها لحملات تضليل الهدف منها تشويه دورها وصورتها من أجل إفقادها قدرة التأثير والتغيير، وأصحاب مشاريع الإلغاء والتشويه يمكن اختصارهم بمن يريد لبنان ساحة للمشاريع الإقليمية، ومن لا يريد للإنسان في لبنان أن يعيش في وطن سيِّد وبأمن وأمان، ومن يريد لبنان مزرعة فساد ومكاسب على حساب الناس، ومن لا يريد دولة فعلية تسائل وتحاسب وتعطي كل مواطن حقه.
وقد أثرّت هذه الحملات التي استُخدمت فيها وسائل القوة والتضليل على “القوات” ومشروعها الانقاذي، وعلى رغم أن تأثيرها أضرّ بـ”القوات”، إلا أن ضررها لحق بالناس، لأنه بقدر ما تتأخّر “القوات” بتحقيق مشروعها، بقدر ما ينعكس الأمر سلبًا على الناس، إلا أن الرأي العام لمس مع الوقت أن هذا الفريق لا يريد شيئاً لنفسه، وما يعمل له هو لوطن يخدم وجود اللبنانيين واستمراريتهم في بلدهم.
وبعد عبور صحراء الإلغاء والتضليل انقشعت الرؤية لدى الشريحة الأوسع من الرأي العام الذي لمس بأن “القوات اللبنانية” تجسِّد وجدان المجتمع وتمثِّل الدولة العميقة داخله، وأن خلاصه يرتبط بالمشروعية التاريخية لرئيسها سمير جعجع، وبالقوة التنظيمية للحزب الذي يمتلك الرؤية والمشروع والتصميم على تحقيق الأهداف، وهذا ما جعل الرأي العام يلتف بشكل واسع وكبير حول “القوات” في السنوات الأخيرة، كما جعل النخبة ترى فيها خشبة الخلاص المطلوبة.
وإذا كان الهدف الأساسي من مؤتمر معراب الأول بعنوان القرار 1701 الآن، لأنّ تطبيقه الفعلي كان كفيلاً بقطع الطريق على الحرب التي ما كانت لتتوسّع وتحوِّل لبنان إلى وطن منكوب لو تمّ الالتزام الحرفي والدقيق ببنود هذا القرار، وكان تم تجنيب لبنان واللبنانيين الحرب التي تقتل وتدمِّر وتهجِّر، فإن الهدف الأساسي من مؤتمر معراب الثاني وضع الجهود كلها لوقف الحرب والتهيئة لمرحلة ما بعد هذه الحرب، وهذا ما جعل عنوان “دفاعًا عن لبنان” يفرض نفسه، وقد خرج بمبادرة إنقاذية استندت إلى الأسباب الموجبة الآتية:
أولاً، الخشية من أن تطول الحرب التي توسعّت في الأسابيع الأخيرة وأن تبقى على هذا المنوال لعدّة أشهر، وفي ظل أزمة نزوح غير مسبوقة في تاريخ لبنان، ما يشكل مخاطر كبرى على الواقع الداخلي، وبخاصّة أنّ الخسائر البشرية مقلقة جدًّا، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال أن تستمر هذه الحرب.
ثانيًا، ضرورة الوصول إلى وقف لإطلاق النار، الأمر الذي يبدو متعذرًا نتيجة أربعة عوامل:
1 ـ انشغال الإدارة الأميركية بانتخاباتها الرئاسية، واعتبار هذه الإدارة أساسًا أن “الحزب” أجهض الفرص كلها التي كانت متاحة لوقف إطلاق النار بفعل إصراره على ربط الهدنة في لبنان بالهدنة في غزة، وأن الأمور خرجت اليوم عن سيطرتها.
2 ـ رفض إيران التخلّي عن ورقة “الحزب”، وانتظارها الانتخابات الأميركية، ورهانها على عامل الوقت، وسعيها إلى منع إسرائيل من القضاء على الحزب.
3 ـ إصرار تل أبيب على إزالة الخطر الذي يهدِّد وجودها في لبنان، ولن توقف حربها قبل إنهاء التهديد الذي يمثِّله الحزب، لأنها لن تكون في وارد الانزلاق إلى حرب كل عشر سنوات.
4 ـ تقف الحكومة اللبنانية موقف المتفرِّج على الحرب والتهجير والنزف، ومن الواضح أنها عاجزة عن اتخاذ أي قرار سيادي يصبّ في مصلحة جميع اللبنانيين خشية من موقف الحزب وخلفه إيران.
ثالثاً، الاعتبار الوحيد الذي يمكن تغييره هو الاعتبار السلطوي اللبناني في ظل إصرار إسرائيل على تحقيق هدفها، ووقوف الولايات المتحدة خلفها، ورفض إيران التخلّي عن ورقتها، وبالتالي إنتاج سلطة جديدة فورًا من خلال انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس حكومة وتشكيل حكومة تأخذ على عاتقها تطبيق القرار 1559، واستطرادًا الدستور الذي لم يطبّق منذ لحظة إقراره لجهة تسليم الميليشيات سلاحها، حيث أبقى الاحتلال السوري على سلاح الحزب في سياق تقاسم النفوذ الإيراني السوري في لبنان.
رابعًا، إعادة تكوين السلطة التي تأخذ على عاتقها إرسال الجيش إلى الحدود وبسط سلطته على جميع الأراضي اللبنانية، يشكل فرصة لوقف الحرب الإسرائيلية، ويعطي الدولة ورقة قوة تمكِّن واشنطن وغيرها من استخدامها للضغط على إسرائيل لوقف الحرب.
خامسًا، بمعزل عن المعطى الأساسي المتعلِّق بالحرب وضرورة إيقافها، فإن الخروج المتواصل عن الدولة جرّ على لبنان واللبنانيين الكوارث، وحان الوقت للعودة إلى الدولة من خلال تطبيق القرار 1559، فلا سلاح خارج الدولة.
سادسًا، تشكل الانتخابات الرئاسية فورًا فرصة للخروج من الحرب والدخول في مشروع الدولة، ولكن طبعًا انتخاب رئيس سيادي لا يساوم ولا يناور، فالأزمة اللبنانية الأساسية سيادية بامتياز، والحلّ يبدأ من انتخاب الرئيس الذي يلتزم قبل انتخابه بضرورة إنهاء أي سلاح غير شرعي، وأن يكون الجيش وحده على الحدود، ويلتزم بالقرارات الدولية 1559، 1680 و1701.
وفي هذه الصورة كلها، وبعد المؤتمر الأول والثاني وما صدر عنهما من مبادرات وطنية إنقاذية تؤكد على الثوابت اللبنانية. وعلى رغم أن همّ “القوات اللبنانية” الأول إخراج لبنان من النفق المظلم الممتد فصولاً منذ 13 نيسان 1975، فإن الهدف الدائم لهذه المؤتمرات وغيرها تشكيل مساحة للتواصل مع الشخصيات العامة والكتّاب وأصحاب الفكر والرأي والأنتليجنسيا والنخبة التي تشكل مستقبل لبنان، ومع هذه النخبة ترسم “القوات” هذا المستقبل وتهندسه وصولاً إلى الوطن الذي يجسِّد آمال اللبنانيين.
شارل جبور ـ رئيس جهاز الإعلام والتواصل في “القوات اللبنانية”
كتب شارل جبور في “المسيرة” ـ العدد 1758
رباعية معراب.. انقشعت الرؤية
قوَّة تنظيميَّة “دفاعًا عن لبنان”
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]