سعره بسعر جريدة الاسبوع الفائت، بدأ شيوعيًا علمانيًا “الحاديًا” متطرفًا في طروحاته، ثم اشترته الجمهورية المذهبية الإمامية في إيران، بحفنةٍ من القروش الطاهرة، فتحوّل بوقًا مذهبيًا رخيصًا يرّوج للقضاء على أطفال سوريا “عمّو رقبتي عم توجعني”، واضطهاد نساء العراق وأطفالها، وضرب استقرار اليمنيين وتهديد استقرار دول الخليج.
لم يلتفت لرفاقه الشيوعيين السابقين من جماعة “جمّول” وهم يتساقطون الواحد تلو الآخر بسلاح الغدر والتقيّة والباطنية والاغتيال على أرض الجنوب، لاحتكار هذا الجنوب وتسخيره للأجندة المذهبية الرفضية، التي أصبح برهوم “العلماني” من دعاتها وغُلاتها وعُتاتها.
يدعّي برهوم حرصه على الشارع السنّي في لبنان وخوفه عليه من هذا “الوحش المفترس” الذي اسمه سمير جعجع، مسخّرًا جريدته “الغراء”، عفوًا، فمعنى هذه الصفة يبقى في قلب الشاعر، للاصطياد بالماء العكر بين المسيحيين والسنّة، تمامًا مثلما حاول حزبه زرع بذور الفتنة داخل الشارع السنّي عبر اختراع شخصية أحمد أبو عدس، لإلصاق جريمة اغتيال الرئيس الحريري بالسنّة المتطرفين، وخلق صدعٍ وشقاق بين مؤيدي الرئيس الحريري من جهة والجماعات السنية الأخرى من جهةٍ ثانية.
إنه ابراهيم “أبو عدس” الذي جعل من قضية قتلة الرئيس الحريري قضيته الدعائية، فراح يُسخّف جرائم الاغتيال التي طاولت قيادات الطائفة السنية في لبنان وينسبها لقضايا مالية أو أخلاقية أو صراعات داخلية، محاولاً بذلك اغتيال شهداء السنّة مرتين، وإضعاف هذه الطائفة في كل الشرق الأوسط، حتى يتسنّى لحزب الممانعة والجمهورية المذهبية الامامية من خلفه، شرذمتها وأخذها بالمفرّق واتخاذها غطاءًا طائفيًا لمشروع الاستيلاء على الدول والشعوب العربية والاسلامية من المحيط الى الخليج.
هذه الحقائق ليست جديدة أصلاً بل تعرفها الشعوب العربية والاسلامية التي قررت أخيرًا رفع الغطاء الإسلامي عن حزب الممانعة، ممّا جعله لقمةً سائغة في فم إسرائيل، بعدما كانت هذه الشعوب بالذات هي الحاضنة السياسية والشعبية له، والسدّ المنيع بوجه إسرائيل لمنعها من الاستفراد به وتفكيك بنيته العسكرية والأمنية، مثلما تفعل أخيرًا.
إمعان حزب الممانعة والجمهورية المذهبية من خلفه في جرائمهما وارتكاباتهما بحق الشعوب العربية والسنّية طيلة عقود، فاقت كل إعمال إسرائيل تجاه الشعوب العربية بأضعاف، لدرجةٍ صارت فيها تلك الشعوب مؤيدة ومتضامنة مع غزّة ضد إسرائيل في فلسطين المحتلة، ولكنها مؤيدة ضمنيًا وأحيانًا علانيةً لإسرائيل ضد حزب الممانعة وإيران في سوريا ولبنان والعراق وطهران، وهذا ما تبدّى من خلال عشرات آلاف التعليقات والفيديوهات على وسائل التواصل، خصوصًا بعدما حرضّت إيران أذرعها لافتعال حربٍ تدميرية عبثية في التوقيت الغلط، ثم تنصلّت من هذه الأذرع وراحت تفاوض من تحت الطاولة وفوقها على حماية مصالحها الخاصة، ضاربةً شعار “وحدة الساحات” عرض الحيطان المهدمة فوق رؤوس أطفال غزة ولبنان… فيا لها من خدمةٍ جليلة قدّمها محور الممانعة لإسرائيل في معرض سلوكه الدموي السلطوي التدميري بحق الشعوب العربية!
هذه هي الحقيقة المرّة التي ترفض أبواق محور الممانعة الاعتراف بها، محملّةً محطةٍ إعلامية لبنانية من هنا، أو حزبٍ سياسي لبناني من هناك أو مرجع ديني من هنالك، مسؤولية هذا المسار الإنحداري الفاشل، شعبيًا، وطائفيًا، وعربيًا، واستراتيجيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا.
منذ اتفاق الطائف و”القوات اللبنانية” تمارس العمل السياسي والإعلامي والإنمائي والاجتماعي البحت، بعيدًا عن أي أمورٍ أمنية أو عسكرية، في وقتٍ يُخزّن فيه محور الممانعة الصواريخ بين البيوت، ويخبئ الأسلحة تحت غرف الأطفال، ويمارس الأعمال الأمنية والعسكرية بأبشع صورها، متورطًا في عشرات جرائم الاغتيال، منذ ما قبل اغتيال المفكر الشيعي مصطفى جحا عام 1992 وصولاً الى اغتيال المفكر الشيعي الآخر لقمان سليم، وما بعدهما وما قبلهما، مرورًا بتفجير الحقائب داخل الأزقة المسيحية وبالقرب من إذاعة صوت المحبة في جونيه، وصولاً الى ما أفصح عنه المدعو نبيل مكرم مرسي علي الى مثلث الرحمات البطريرك صفير قبيل تفجير كنيسة سيدة النجاة عام 1994، حول دعوته من قبل جولان ضيا، المنتمي الى “الحزب”، لتفجير كنيسة في كسروان مقابل المال، وهو ما أبلغه البطريرك الى الأجهزة المعنية التي عملت على لفلفة الموضوع وإخفاء أي أثرٍ لهذا الملف.
الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية تحصي كل شاردة وواردة في لبنان، وتعرف من يُخزّن حبّة خردق، ومن لا، وخصوصًا “القوات اللبنانية” التي هي حزب سياسي اجتماعي انمائي بحث، تركت مئات آلاف الصواريخ وآلاف الآليات والطائرات وعشرات آلاف المقاتلين، ودخلت في مشروع الدولة، لأنه المسار الأسلم والأضمن والأنجح، خصوصًا في ظل الحاضنتين العربية والدولية.
القوات عادت من الحجّ منذ 34 سنة، فيما محور الممانعة وأبواقه المندثرة مصّرين على الذهاب اليه، على الرغم من كل خياراتهم المدمرة والفاشلة والفوفاش… التعويل الوحيد لـ”القوات اللبنانية” لحماية الاستقرار واللبنانيين، هو على الجيش اللبناني عسكريًا وأمنيًا، وعلى الدستور والقوانين والشرعيتين العربية والدولية سياسيًا، وكل ما عدا ذلك هو مجرّد توهمّات وخيال تعيشه أبواق الممانعة، تمامًا كالكذبة التي عاشها هذا المحور وأودت به الى الهلاك.
امّا بعد، كنّا اعتقدنا للوهلة الأولى أن النكبة التي تعرّض لها حزب الممانعة مع بيئته وكل الشعب اللبناني، بفعل سلاح الخردة والتنك المُخزّن بين البيوت وتحت البنايات، وبفعل الأوهام المعششة في رؤوس أصحاب شعارات وحدة الساحات، ستدفع بأبواق هذا المحور الى وقفة ضمير، وإجراء مراجعةٍ شاملة لكل حقبة التسلّح والاغتيالات والتفرّد بقرارات السلم والحرب والتورط في حروبٍ عبثية داخل لبنان وخارجه، بهدف استقاء الدروس والعبر، وبداية العودة معها الى كنف الدولة اللبنانية الجامعة.
وكنّا اعتقدنا أيضًا أن الحسابات الخاطئة المبنية على أوهامٍ ايديولوجية التي ورطّت بيئة الممانعة في نكبة العصر، قد تدفع بأبواق هذا المحور، ممن ينتحل صفة صحافيين ومفكرين ومثقفين، للانكباب على دراسة الأسباب الاستراتيجية والنفسية والشعبية والسياسية والتاريخية والدستورية العميقة لهذه النكبة، من أجل اجتراح الحلول التنويرية السلمية المنفتحة، والبدء بمسار المحاسبة والاصلاح والنهضة، بغية انتشال بيئتهم من نكبتها، تمامًا مثلما حصل خلال عصر النهضة في أوروبا والذي أدّى الى تحرر الشعوب من موروثاتها المتخلفة والسير بها الى التقدم والتنوير.
وكنّا اعتقدنا أيضًا وأيضًا أن احتضان اللبنانيين للنازحين ودفعهم الأثمان التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل نيابةً عن أصحاب الحسابات الخاطئة والمحور الفوفاش، قد تدفع بأبواق الممانعة الى فرملة لغة التخوين والاتهامات وسفك الدماء التي اعتادت عليها، والاهتمام بشؤون هؤلاء النازحين إعلاميًا ومعيشيًا وتنمويًا، ورفع القلم والصوت عاليًا بوجه أصحاب الأمر والنهي في بقايا حزب الممانعة وإيران من خلفهم، للالتفات الى أوجاع هؤلاء الناس بدل المكابرة والصراخ ورفع إشارات النصر فوق انقاض هزائمهم الشعبية والميدانية والعمرانية والاجتماعية التي لا تنتهي…
ولكن، على من تقرأ مزاميرك يا داوود، فحليمة لا يمكن أن تترك عاداتها القديمة، والصحوة النفسية والسياسية المفترض بها ان تأتي بعد النكبة، والتي يتولّد معها الوعي والحكمة والتغيير، ما زالت بعيدة المنال، خصوصًا وأن إيران لم تفرغ بعد من اجندتها في المنطقة، وما زالت مستعدة للقتال بالسلاح وبأبواقها الدعائية حتى آخر شيعي في لبنان…
في الحقيقة، إذا كان “صحافيو” الممانعة و”مثقفوها” على شاكلة ابراهيم الأمين وفرقة حسب الله التي يديرها في جريدته، لا عجب أن تحل النكبات والويلات المتتالية بالبيئة العادية غير المثقفة، التي عليها أن تتحمّل في أماكن الإيواء بصبرٍ، قلّة وعي هؤلاء أو جبنهم عن قول الحقيقة ووضع الأصبع على الجرح… حتى تقضي إيران أمرًا كان مفعولاً.
وفي معرض كل هذه النكبات والحسابات الخاطئة والقرارات الغبية التي أدّت الى تدمير شعوب بأسرها، لا نعرف أين يقع موقع “القوات اللبنانية” من الإعراب في كل هذه المصيبة التي استجلبها محور الممانعة على نفسه وعلى ناسه، خصوصًا وأن هذه القوات سبق لها وحذرّت مئات المرّات من السلاح غير الشرعي، ومن احتكار قرار السلم والحرب، وصبيحة 7 تشرين الأول 2023 بالذات، أي قبل 24 ساعة من إعلان حزب الممانعة فتح جبهة الإسناد، حذّر الدكتور سمير جعجع من مغبّة فتح جبهة الجنوب اللبناني، لما لذلك من تداعيات كارثية على لبنان، أمنيًا واقتصاديًا ومعيشيًا… ومع ذلك تُصّر أبواق الممانعة على تحميل “القوات اللبنانية” مسؤولية هذه النكبة بالتكافل والتضامن مع إسرائيل!
ما يعتقده جعجع في فكره ليس من شأنك يا برهوم، فهذه محاسبة على النوايا وهي من اختصاص الله وليس اتباع محور الشرّ أمثالك، أما ما يفعله جعجع على الأرض فهو من اختصاص القوانين اللبنانية والأجهزة المعنية التي تعرف تمام المعرفة من يمارس العمل السياسي والحزبي بكل احترامٍ للقوانين وشفافية وحكمة، ومن يخزن الصواريخ تحت غرف الأطفال ويتحضّر للانقلاب على الداخل اللبناني تعويضًا عن هزائمه ونكباته الكثيرة، على عادة كل المنظومات الشمولية البائدة.
عندما كانت القوات تحذّر من تداعيات السلاح غير الشرعي على أمن لبنان واستقراره منذ التوقيع على اتفاق الطائف، كان حزب الممانعة يتفاوض مع إسرائيل في تفاهم نيسان، وفي مفاوضات الأسرى، وفي موضوع الترسيم البرّي ولاحقًا البحري، ولم تكن إسرائيل مهتمّة أصلاً بما يفعله حزب الممانعة في الداخل اللبناني من قتل واغتيالات وتخزين أسلحة وضرب الديموقراطية، طالما أنه يعطيها ما تريده من ضبطٍ للحدود معها، وطالما أن سلوكه المخرّب للسياحة والاقتصاد والمقوّض لتعددية الدولة يصّب في مصلحة إنعاشها وإنمائها واستقطاب الرساميل والسياح اليها، ويعطيها الذرائع والمبررات لتصوير نفسها على أنها الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
هل إذا تقاطعت تصاريح الجنرال اسحق بريك مع مقالات جريدتك يا برهوم، تصبح أنت متعاملاً مع المعارضة الصهيونية مثلًا؟ وهل إذا أكلت أنت “رز ع دجاج” في الوقت ذاته الذي أكل فيه نتانياهو “رز ع دجاج” تصبح أنت وإياه شركاء في قضايا الطهو، هل يمكننا القول بأنكما تديران مطعم “رز ع دجاج” سويًا؟
وهل إذا تلاقت مواقف “القوات اللبنانية” الثابتة منذ 34 سنة، مع مواقف إسرائيل أو أميركا أو المجتمع الدولي اليوم، تصبح القوات على الأجندة ذاتها لإسرائيل؟ هذا هو قمّة الهراء والسخافة يا برهوم…
ولمعلوماتك، حتى في أوج الحرب اللبنانية، لم تُطلع إسرائيل “القوات اللبنانية” على مخططاتها لغزو لبنان سنة 1982، كما أن قرار القوات ومخططاتها كانت بدورها مستقلة عن أي طرفٍ آخر، ولو سلمنا جدلاً أن الدكتور جعجع قد تحدّث بالفعل عن مخطط إسرائيلي ضخم لاجتياح لبنان، فهذا الأمر يتردد في الأوساط الصحافية والسياسية العربية والدولية والإسرائيلية، وقد رددّه هوكشتاين ولودريان والموفدون الغربيون على مسامع المسؤولين اللبنانيين لتحذيرهم من مغبة الاستمرار في حرب الإسناد…
ثم أن كلام جعجع قد يكون أتى في معرض توصيف الواقع كما هو وإعطاء تقديرات خاصةً بشأنه، من دون أوهام العظمة التي يعيشها محور الخردة والتنك، بعد أن كان جعجع قد حذّر من الوصول الى هذا الواقع، داعيًا الى تطبيق قرارات الشرعية الدولية، فكيف يصبح المُحذّر والموصّف مذنبًا، وصاحب القرار الخاطئ والحسابات المدمرة بريئًا؟ ثم أنه وفي أوج قوتكم واستكباركم يا برهوم لم تستطيعوا إسكات أصواتنا التي تصدح بالحق والحقيقة على الرغم من الاغتيالات، فهل تعتقد فعلاً وأنت في عمق الحفرة التي تقبع بها، أنه بإمكانك إسكاتنا ومنعنا من المجاهرة بمواقفنا، أو إعطاء تحليلاتنا والتحدث عن توقعاتنا، تحت طائلة “الصراع المفتوح مع العدو” وشعار “فليسقط واحد من فوق”؟ اقعد عاقل وتأدّب، وتأدب كمان.
هذا هو المنطق الأعوج الذي أوصل بيئة الممانعة الي النكبة التي تعيشها اليوم، ويبدو أن أبواق الممانعة قد نسيت أن “القوات اللبنانية” هي خصمها في السياسة ولها مواقفها الواضحة والعلنية ضد كل ما يقوم به حزب الممانعة، ماليًا وأمنيًا وسياسيًا وعسكريًا، كما أنه ليس خافيًا على أحد أن القوات لديها لوبي اغترابي عربيًا ودوليًا فاعل ونشيط، وهذا اللوبي يعمل منذ سنوات طويلة لدى دوائر القرار الخارجية على تطبيق القرارات الدولية المعنية بسيادة لبنان وآحادية السلاح فيه، غير أن هذا النشاط السياسي والإعلامي المشروع شيء، واتهام القوات مباشرةً أو تلميحًا، بأنها تستعد عسكريًا وأمنيًا لملاقاة الاجتياح الإسرائيلي، هو كذبة أخرى تُضاف الى مجموع أكاذيب محور الممانعة التي أودت به الى الهلاك.
القوات لا تنتظر شهادةً بحسن السلوك أو بالوطنية من أحد، وخصوصًا من العملاء الصغار أتباع الأمين العام الإيراني، والقوات كفها أبيض، والحمد الله، بعكس محور الفوفاش والخردة والتنك الذي دمرّ شعبه وأوصل لبنان الى الفوضى والانهيار والفساد.
امّا بالنسبة لفتح ملفّات “الحزب” القديمة أو الجديدة، ومنها تفجير القوات المتعددة الجنسيات وغيرها، فهذه الملفات بالنسبة للقوات يسري عليها قانون العفو العام اللبناني داخليًا، أمّا ما تقرره الدول الكبرى بالنسبة لهذه القضية وسواها، فهذا ليس من شأن القوات ولا اختصاصها، فالحرب كانت الحرب وانتهت باتفاق الطائف، أمّا أن يستمر حزب الممانعة بسلوك مسلك الحرب في زمن السلم وزمن الدولة، فهذا هو بيت القصيد، وهذا هو جوهر الخلاف بيننا وبينه، مهما حاول تغطية السماوات بالقبوات، ومهما أمعن في لغة التخوين واختراع سيناريوهات المؤامرات الوهمية… وتذكر يا برهوم أنه في نهاية المطاف لن يصح الا الصحيح، فحاول أن تواكب هذا المسار الصحي السليم لتصل بنهايته الى درجة الوعي، بدل أن تبقى عليل النفس والروح بالأوهام والأفكار المختلفة والاكاذيب التي تجعل منك مسخرة المساخر، ووصلتم بسببها الى قعر الحفرة، والآتي اعظم… لا قدّر الله.