بالمباشر قالها موشيه فوزييلوف الذي واكب خطط التحضير لاغتيال أمين عام “الحزب” نصرالله من خلال توليه مناصب رفيعة في جهاز “الشاباك” إن “الهدف الحقيقي من اغتيال نصرالله هو تصفية التهديد النووي الإيراني وخلق محور الخير الجديد في الشرق الأوسط”.
فكرة الشرق الأوسط الجديد انبثقت من الحاجة لتحويل هذه المنطقة الشاسعة والغنية بالإمكانات، وذات الموقع الجغرافي الخطير، من مستنقع نشط لإنتاج الاضطرابات والحروب والتهديدات الدائمة للمصالح الدولية المتجمعة فيه، إلى مكان أكثر أمنًا واستقرارًا لساكنيه أولًا، ولكل من له مصالح فيه. ولعل أكثر ما يجعلها فكرة قابلة للتطبيق وليس مجرد رغبة أو حلم، أن إمكاناتها المادية متوفرة، وكذلك القدرة على تحويل البوصلة من مؤشرات الاقتتال والتناحر إلى مؤشرات التعاون والتكامل والتنمية، وهذا أمر لا تملك الدول إلا الإقرار به، والتسابق على خدمة مصالحها من خلاله.
وفي تقرير نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، كلام مفاده أن عملية “طوفان الأقصى” التي بدأت في 7 تشرين الأول 2023 تحولت إلى طوفان لسلاح الجو الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت. ويخطئ من يعتقد أن “الحزب” يضبط نفسه بعدم إطلاق آلاف الصواريخ.
إذًا الكلام اليوم تحوّل إلى ما بعد بعد اغتيال نصرالله بعدما سقطت أسطورة “ما بعد بعد حيفا”، حيث تكثف إسرائيل عملياتها الحربية في الشمال لترسم صورة “الشرق الأوسط الجديد” وتوطيد التحالف الإقليمي ضد “المحور الإيراني”. وإذا كان التركيز على الخطط التي وضعتها القيادات الأمنية والعسكرية على المستويين السياسي والعسكري لتحقيق هدف الحرب لإعادة سكان الشمال إلى بيوتهم، لكن بالتوازي فإن الحفاظ على أمن الحدود اللبنانية وإزالة أي خطر من قبل “الحزب” هو الهدف الإسرائيلي الذي وضعه الجيش الإسرائيلي ويتطلب تحقيقه خططًا عسكرية عديدة.
وهنا لا بد من التوقف عند كلام رئيس حزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، مساء في ذكرى السابع من عملية “طوفان الأقصى” الأولى حين قال: “عندما اجتمعنا عند رئيس مجلس النواب نبيه بري وضعنا أسس لإمكانية الوصول إلى حل أو تسوية في الداخل وتطبيق القرار 1701 وانتشار الجيش”. وانطلاقًا من الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب اللبناني “الذي يتعرض للتهجير والاستباحة والتدمير في الجنوب” على حد قوله، “يجب تطبيق القرار 1701 و1559 وبعدها نتحدث عن الاستراتيجية الدفاعية وموضوع سلاح الحزب”. وتعليقًا على زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي إلى لبنان ولقائه مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قال جنبلاط: “لا يستطيع وزير الخارجية الإيراني أن يعطينا دروسًا في المواجهة. والكلام الذي صدر عن اللقاء الثلاثي واضح ومجلس النواب هو الذي يُقرر”.
ما يحصل ويؤمل منه على المدى البعيد قد يشكل الفرصة الأخيرة للبنان طبعًا. لكنها من دون شك لن تمر من دون مخاض عسير بين مشروعين، الأول يريد تطبيق القرار 1701 والذهاب إلى المنبع من خلال تطبيق الـ1559 الذي ينص أولًا على نزع سلاح كل الميليشيات، وبين مشروع الحرب وتشديد نائب أمين عام “الحزب” نعيم قاسم في إطلالاته على عبارة “النصر لنا” وعدم التخلّي عن “حرب الإسناد”، والمكابرة على واقع التململ الذي يعيشه الحزب والبيئة المشرّدة في الطرقات من دون مأوى وطعام ومال، باستثناء الذين احتضنتهم مراكز الإيواء في بيروت وجبل لبنان.
وفيما تبحث إسرائيل في كيفية استغلال ما تعتبره “إنجازًا كبيرًا باغتيال نصرالله وهاشم صفي الدين الذي كان مرجحًا تولّيه منصب الأمين العام مكان نصرالله”، وضعت القيادة العسكرية ثلاثة تصورات للعملية البرية، الأول وهو الذي بدأ تنفيذه على أرض الواقع، أي شن عمليات بمحاذاة الحدود يضمن خلالها إبعاد عناصر “الرضوان”. والعملية الثانية الدخول إلى عمق غير كبير لإنشاء منطقة عازلة يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، وهذا الاقتراح جاء تبعًا للقرار الذي أعلنه الأخير بفرض حصار على لبنان بما في ذلك حصار بحري وجوي وبري، بما يضمن منع وصول طائرات إيرانية أو أخرى تشك إسرائيل في أنها تنقل سلاحًا إلى “الحزب”، وقطع معبر المصنع أمام السيارات واقتصاره على المشاة فقط، لكن في ظل الكثير من المعاناة. أما العملية البرية الثالثة، وهي الأكبر، ومن شأنها أن تستغرق فترة طويلة وتشهد قتالًا شرسًا، بحسب مسؤول عسكري، حيث يتوغل الجيش إلى نهر الليطاني وما بعده.
كل هذه النتائج، من شأنها أن تساعد في رسم شرق أوسط جديد الذي بدأ يتردد عنوانه منذ حرب العراق عام 2003، ولم يكن ليتحقق لولا حرب غزة التي شرّعت له البوابة. ومع تعثر المفاوضات مرة جديدة بين قطر وإسرائيل لإطلاق سراح الأسرى، ما ساعد في إعادة تأجيج الحرب خصوصًا مع فشل الأمم المتحدة حتى الساعة في فرض قراراتها على إسرائيل، وبالتالي إعلان مسؤولين أميركيين عن وقف واشنطن لمحاولات لجم التصعيد بين إسرائيل و”الحزب”، مما يهدد أكثر بالتحوّل إلى حرب إقليمية شاملة.
في قراءة معمّقة لخارطة الشرق الأوسط الجديد يحدد مستشار الإتحاد الأوروبي في قطر لمنطقة الخليج جورج أبو صعب أبرز الخطوط المقبلة على المنطقة ويقول: “لم يعد خافيًا على أحد عمق التحوّلات والتغييرات الجارية في منطقة الشرق الأوسط والتي تستجرُّ معها انقلابات جذرية في المشهدية المعتادة. فمن حرب غزّة وتداعياتها ولا سيما اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة ح. إسماعيل هنية على أرض إيران، الى حرب لبنان وتداعياتها ومن ضمنها إغتيال الأمين العام لـ”الحزب” في لبنان حسن نصرالله وقيادات الصف الأول، وتداعي محور المقاومة تحت وطأة الضربات المتلاحقة على جبهاته، واغتياﻻت قادته، وصولًا الى المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية المباشرة، الى تهديدات إسرائيل بتوسيع مسرح عملياتها لتشمل الشرق الأوسط كاملًا، والموقف الأميركي الداعم من دون أي تحفّظ لإسرائيل حتى عسكريًا وأمنيًا، كلها إن دلّت على شيء فعلى دخول المنطقة عصرًا جديدًا ومرحلةً جديدةً وزمنًا جديدًا تستعدُ فيها لخرائط وتحالفاتٍ واصطفافاتٍ جديدة ذات أبعادٍ استراتيجية مختلفة عمّا سبقها.
في خضم “مخاض” شرق أوسط جديد
من أبرز تجليات هذا المخاض: حروب وسيناريوهات مخيفة واغتياﻻت وتصفيات جسدية تتخطى الخطوط الحمر كافةً لتصل الى تهديد كل دولة في أعماق وجودها. وانطلاقًا من هذا الواقع، بات المشهد جليًا وعلى الشكل التالي:
ـ أولًا: سقوط هيبة محور المقاومة بعدما فشل في تثبيت معادلة وحدة الساحات، وفشل إيران في إعادة الثقة لدورها الراعي للمحور، على رغم هجومها “المدروس” على إسرائيل، لا سيما وأن إيران عادت الى سياسة اللغتَين واللسانَين والوجهَين بين تيار التطرّف المتمثّل بالمرشد الأعلى والحرس الثوري، والتيار الإصلاحي المتمثّل بالثنائي بزشكيان – ظريف، فيما يبدو أن الكلمة الفصل هي للحرس الثوري الإيراني لتثبيت وجوده وإنقاذ “ماء الوجه” بعدما بدأ الشك يتسلّل ضمن صفوف المحور ورأيه العام حول صدقية طهران في حمايتهم.
ـ ثانيًا: سقوط الخطوط الحمر الإقليمية بحيث باتت الأجواء إقليمية تعجُّ بتبادل الصواريخ، وعلى الأرض بتخطي مناطق الاشتباك والحدود والحسابات الاستراتيجية، فالخطوط الحمر من لبنان الى غزّة واليمن والعراق فسوريا سقطت نهائيًا، إذ لم يعد بالإمكان العودة الى ما كانت عليه الأوضاع سابقًا. فثمة شيء ما قد تغيّر وتبدّل ولم يعد كما كان ولن يعود كما كان.
ـ ثالثًا: أمن المنطقة بات على المحك والردّ الإسرائيلي الموعود على الضربة الإيرانية (لم تنفذ الضربة حتى تاريخ كتابة المقال 8 تشرين الأول) مما يزيد من تعقيد الحسابات، خصوصًا في ما يتّصل بمصير البرنامج النووي ورزمة “الإغراءات” التي كان يغدقها الأميركي في مقابل فكّ التحالف مع روسيا والابتعاد عن الصين وكبح جماح ميليشياتها في المنطقة، الأمر الذي بات في مهب الريح مع حصول المواجهة المباشرة بين طهران وإسرائيل. وفي حال ردت إيران على الرد الإسرائيلي تكون كتبت سقوط النظام الإيراني وإنهاء أي اتفاق أو صفقة أو تسوية.
ـ رابعًا: تدرك إيران أنها باتت على أبواب تغييراتٍ كبيرة في المنطقة، وبالتالي تحاول الاحتفاظ بمقعدها الإقليمي بالحد الأدنى. وأيضا تدرك أنها لا تستطيع مواجهة ما وراء إسرائيل أي الوﻻيات المتحدة الأميركية، وقد قبلت باغتيالات قادة ميليشيا “الحزب” رغبة منها في تسهيل مفاوضاتها مع الأميركيين ومنحهم دفعة مسبقة “على الحساب”. فطهران محرجةٌ بشكل كبير وهذا صحيح، لأن ما يفوق إحراجها هي وضعيتها الجيو ـ سياسية غير المريحة بعدما باتت محاصرَة ديبلوماسيًا وسياسيًا من واشنطن والعواصم الأوروبية التي لم تعد ترى في النظام الإيراني سوى شريك روسيا في أوكرانيا والحليف المزعزِع لأمن القارة العجوز واستقرارها.
إذًا قواعد اللعبة تغيّرت و”كلمات السر” القديمة استُبدلت بأخرى جديدة رموزها ضرب وكلاء إيران من خلال اغتيالهم، والرسالة الإسرائيلية بغطاءٍ أميركي- غربي واضحة لجهة إسقاط قدرة إيران على حماية نفسها أولًا قبل حماية وكلائها من الخطر الإسرائيلي، وبالتالي تحجيمها وتحجيم الدور الإيراني في المنطقة بإرجاعها الى حجمها الدولتي الطبيعي.
القصة لم تعد متوقّفةً على ردٍّ إسرائيلي على الردّ الإيراني والعكس صحيح، بل انتقلت الى منازلة بين من يريدُ إخضاع المنطقة لرؤيته مدعومًا من حلفاء أقوياء، ومَن يريدُ حفظ حصته من الكعكة الإقليمية الى ما بعد آخر الحروب، والتي سترسمُ معالم شرق أوسط جديد مبني على توازناتٍ ومعادلاتٍ وحساباتٍ جديدةٍ.
ويختم أبو صعب: “إنها لحظة الوﻻدة القيصرية لنظامٍ إقليمي جديدٍ يجعل ما قبل تلك الوﻻدة مختلفًا تمامًا عمّا بعدها، فالساحات التي كانت مفترضَة لضرب إسرائيل باتت ساحات مهددة من قبل الأخيرة على وسع خارطة المنطقة. فهل تقوى الجمهورية الإسلامية على الاستمرار من دون عقيدة الثورة والتشيّع، لا سيما وأنها بنت ما بَنته من إمبراطورية عقائدية وجغرافية واستراتيجية على أساس هذه العقيدة؟
الإجابات رهن بتطورات الأيام والأسابيع القليلة المتبقّية قبل استحقاق انتخابات رئاسة الوﻻيات المتحدة الأميركية، فإما أن يتمَّ إنقاذ إيران من الغرق في اللحظات الأخيرة، وإما تُسدل الستارة على فصلٍ تاريخي عاشته المنطقة لسنوات حملت معها ما حملته من مآسٍ ودماء ودموع”.
في مقياس الإمكانات المادية، تبدو فكرة الشرق الأوسط الجديد، المتقارب حتى مع الجارة أوروبا، ممكنة كهدف واقعي شرطه أداء السياسات بصورة متقنة، وعلى نحو لا يشعر أي طرف من أصحاب المصالح في المنطقة بأنه بحاجة للإنفاق على حماية وتوسيع نفوذه، أضعاف ما يكسب من مزايا جرّاء ما هو متاح له من تعاون مع الآخرين.
لكن الأكيد أن ذلك لن يكون عملًا ميكانيكيًا سهلًا ومضمونًا بالرغبات والتوجّهات الإيجابية، بل يحتاج إلى الكثير من الجهد والمواظبة. فخارطة الشرق الأوسط الجديد ليست تلك التي عرضها بنيامين نتنياهو على الجمعية العامة للأمم المتحدة، مقارنة بالخارطة السعودية التي يقترحها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، من دون تسرّع في إعلانها بالألوان، حددت في تضاريسها الجغرافية والسياسة والكيانية “فلسطين” التي غابت تمامًا عن خارطة نتنياهو، وشتان ما بين فضاء الدعايات والتحليلات وبين عمل جدي حقيقي تحتاجه المنطقة وشعوبها والعالم. باختصار الفرق جوهري.
كتبت جومانا نصر في “المسيرة”ـ العدد 1758
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]