صباح كلِّ يوم سبتٍ من سبوت حقبة زمن جبهات الثمانينات، كم كنَّا نُبكِرُ النهوض متلهِّفين لسماعِ صوتٍ إذاعيٍّ يحترف لغة الإعلام ويبدع في توزيع تقاسيم الإعلان، وكم أثار فينا من عمق أحاسيس الانتماء ذلك الإذاعيُّ المعلِن عن صدور عددٍ جديد من أعدادها، وهي جبهة قد فُتحت لهدف إعدادنا إعدادًا فكريًا تثقيفيًا تاريخيًا روحيًا معلوماتيًا ووثائقيًا وحتى فنيًا ورياضيًا. عناوينها بوصلة وجهاتٍ صحيحة آمنة، وكلمات مقالاتها تدخل بصرنا وبصيرتنا دخول جنودٍ مرقّطين بالحبر، مدرّعين بالمعنى والمبنى يحرسون في عقولنا وضمائرنا حقوق أهلية انتسابنا لأهلٍ لم يخوضوا معاركهم إلّا مع المستحيلات، ولأرضٍ مسحها لنا الرب بكامل وسيع ضياء نظرات عينيه.
سُبُوتٌ يا ما انتظرنا صبحياتها وسمَعُنا مشدودٌ إلى مُدرجٍ موسيقيٍّ حماسيّ تشويقي يوالف الإعلان عن عناوين تتجاسر ولا تهاب، ومقالات تقتحم ولا تتردَّد، تتوغَّل في مسافات الأصوات الصَّارخ من دون حساب لمأمورية حرّاس الأفواه المطبقة. كيف يسهى البال فينا عن تخشّعنا السمعي لتألّقِ وأناقة هذا الترافق المبدع بين جملة إعلانية وجملة موسيقية تؤلِّفان معاً جملةً كنّا على دوام شغفنا بلحظة سماعها: “في المسيرة هذا الأسبوع”!!
… حتى انقضاء الدهر
في المسيرة هذا اليوم والأسبوع والشهر والسنة وما قبل كل التواريخ وما بعدها حتى انقضاء الدهر: محرِّرون متجنِّدون متحرِّرون من أنظمة تجنيدٍ إجباريٍّ يجنِّد صاحبة الجلالة من غلافها الأول حتى الأخير كببغاءٍ داخل قفص معلَّقٍ في صالونات أصحاب الجلالة الزائفة، تنطق بما ينطقون من دون ارتجال حرفٍ واحد أو تناسي كلمة واحدة. والكلمة في خورس المسيرة أبيّة عصاميّة مؤمنة بمهنية تعابير تأبى كلماتها أن تمتهن مهنة السكريتاريا كأنها سكريتيرية تسجّل المواعيد وتقرع الأبواب، وتستأذن الدخول…
كلمة المسيرة لا مقام عندها يعلو قيم آية وصيّة المعلِّم: “ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا”. وكلُّ ما زاد على ذلك هو من شرّ تهاوننا بتقدير قيمة أقلامٍ نسير وإياها إلى أية موقعةٍ إعلامية، كما مشى أبطال لنا وشهداء بمعيّة بنادق أطلقوا منها النار على فصائل الحرائق والرماد، وكتبوا فيها مجلدات عن حياة تليق بأبناء الحياة!
في المسيرة هذا العدد
مجموعة أعدادها المرقَّمة من العدد الصفر مروراً بفضائل جميع رؤساء مجالس إدارتها وصولاً إلى كبير الآمال بهممِ إدارة “أصفرها” المختار لمواكبة نصرِ تحريرها وسمعانية عواميدها ونذور كل المترهّبين فيها ولها نذرهم وهمُّهم تصفير جميع أنواع وألوان الهفوات الإعلامية، كما الشِّح الإعلاني، كما الغفلات الإملائية أو السقطات اللغوية!
أعداد مسيرتنا ذاكراتٌ تِلو ذاكرات، تشعل انطفاء الذاكرة فينا وتلهمها كيف تبقى على قيد الحياة والحياء. أعدادها مئاتٌ، صفحاتها آلافٌ، مقالاتها مراجعُ، تحقيقاتها حليفة الصّدق، صورها تذكارات تَقَويَّة ورموز ودلالات وعلامات، وثائقها دليل المؤمنين إلى بيعةٍ لبنانية مجاهدة مرّت مروراً مطهريًا طيلة 1600 عام تقارع فيها أبواب الجحيم، وستبقى تقارعها إلى 1600 عام آتية حتى لو تواصلت دورات الاقتراع على ثيابها وجراحها ودمائها!.
في مسيرة هذا العيد وما قبله وما بعده
كبير عظيم الوفاء لكامل وجوههم الآسرة، وجوه مَن وافوها بنقاوة أفكارٍ كماء جرن العماد، وطموح تطلعاتٍ تزيل حواجز الآفاق البعيدة الطموحة. وجوه من حرسوها بعزيمة أقلامٍ لا يطالها سيّافٌ ولا ينال من حدِّها الرّمح. وجوه من أعطوها أثمن وأغزر ما في عقولهم، وأكرم وأسخى ما في قلوبهم، وأنبل وأرقى ما في أخلاقهم، وهم الأدرى بأن تقشفها وتنزهها عن مدّ اليد لأيِ متموِّل يمولها كوصيفةٍ تأتمر بما يأمر، لم ينصفهم إنصافاً مادياً إلا بمقدور رصيد آية: “من يخدم المذبح فمن المذبح يعيش”!!
عديدٌ محترمٌ بما يفكر، محترفٌ بما يكتب، انتسب إلى عائلة “المسيرة” ثم غادرها إلى عائلةٍ إعلامية أخرى، لكنها لن تسمح أن تغادر من بالها أيامُ وأشهرُ وسنواتُ كلِّ من كان منها وانتقل إلى إعلامٍ آخر مغايرٍ لإعلامها ومتباعد عن رأيها ومتعاكس لوجهتها، وهي مؤمنة كلَّ الإيمان بأن ما من مؤمن يدخل كنيسة ثم يغادرها إلى إيمان آخرَ إلا وتترك فيه كنيسته الأولى رواسخَ من قداديسها، وخبزًا من قرابينها، وتردادًا من صلواتها، وحنينًا دفينًا تؤججه أصداء أجراسها البعيدة!!
أعجوبة الحياة
أيتها المولودة في يوم تذكار الموتى الثاني من تشرين الثاني، أيَّة أعجوبةٍ أبقتك على قيد حياة الصحافة الورقية تواجهين عزَّ سطوة صفحات الرقميات على صفحات الورق. أيَّة آية مطلوبة منكِ لجيلٍ “لا يعطى إلا آية يونان النبيِّ”، ولوطنٍ ليس له غير الربِّ القدير أن يُخرجه من بطن الحوت، إنَّه حوتٌ ذو قرون ثلاثة محلية وأقليمية وأممية. لكنَّ لبناننا مطمئنٌ إلى مسيرة بلوغه الوعدَ الأقدس الأمنع من كل أقوياء الأمم: “ثقوا ولا تخافوا فأنا قد غلبت العالم”!!
مسيرة أجيالنا
عام 1983 ولدتِ مطبوعةً كنشراتٍ توجيهية خاصّة توزَّع قواتيًا على أهل البيت. لكنَّ عام 1985 رفعَ لك إشارة الانطلاق مِن محدودكِ الأضيق إلى انتشارك الأوسع فرحَّبَت بك وتأهلت مكتباتٌ تعرف طعم السيادة، وصدَّتكِ مكتباتٌ ليس بيد أوليائها حيلةٌ بزمن أولياء المقصَّات ومَن بيدهم أوامر القصّ والقصاص.. لكنّكِ واصلت شراء أوراقك وحبرك ولوازمكِ الضرورية من لحمك الحي واستمرَرْتِ بتهالك نظراتِ واحمرار عيونِ السَّاهرات والسَّاهرين في هجعات الليل حتى صباح خروجكِ بأبهى ما يمكن من باب المطبعة. وصمدتِ بمن لا يرعبهم تهديدٌ ولا وعيد، وبمن لا يرَغِّبهم إغراء مهما بلغت دسامته إلى أن كنتِ أول من بلغوا زمن البشارة بثورة الأرز!!
يوم تذكار الموتي المؤمنين اجترحتِ لكِ يومًا لولادتِك استحق ترنيمًا أشبهَ بترنيم الملائكة عند نصف ليل مغارة بيت لحم: “شعبنا الجالس في مديد ظلمٍ وظلمة قد أبصر مولودةً إعلامية ميلادية النجوم، لبنانية الشموع، أنوارها مسيرة لهيبٍ كتابي لا يخضع لمزاج دوران الهواء ولا ينزوي عند هبوب الرياح”!!
يوم تذكار الموتى المؤمنين، هو ذاته يوم عيد ميلادكِ. لبنانكِ بمقام هديتكِ زنّريه وزنِّريها بشموعٍ تدوم بأضواء لا تخضع لمزاج هواءٍ وأهواء، ولا يطفئ نورها هبوب الريح. يوم تذكار الأبرار المنتقلين دمتِ يا مسيرتنا حياةً متمرِّسةَ المعاني والمعاناة بلاهوت درب الآلام، فيكِ من الكلمات ما يبشِّر لبناننا: الكلمة صارت جسد ربّكَ العلي القدير، حاميًا جسدك وما ينفي كل شبهة موت عن مسكن القديسين والأحرار والأبطال والشهداء بتبشير يدوم: “لا تطلبنَّ الحي من بين الأموات”… ولن يكون للبناننا سبيلٌ إلاَّ لمسيرة أنبياء وأصفياء ورسل الحياة!!!
يوم تذكار الأبرار المنتقلين، دمت يا مسيرتنا حياةً لا يدركها ظلام!!!
للإشتراك في “المسير” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]