لم يعد خافيًا على أحد أنّ صحّة اللبناني النّفسيّة ليست بخير أبدًا. وهذا ما انعكس سلبًا على تلك الرّوح الوطنيّة التي لطالما تغنّى بها اللبنانيّون جميعهم، كلّ من الوجهة التي يؤمن بها. بينما تطغى في هذا الفراغ اللولبي الذي يقضّ مضاجع العقول، تلك النّزعة الانسانيّة التي لا يستطيع اللبناني نزعها من صلب كِيانِه. وما بين الإنساني والوطني يسقط اللبناني سبعين مرّة سبع مرّات في اليوم في أتانين خطيئة وخز الضمير. فهل سيستطيع اللبنانيّون التوفيق بين وطنيّتهم وإنسانيّتهم؟ أم أنّ حالة الانكار قد تكون السبيل إلى الهروب من الاثنتين؟
اللبناني والواجب الوطني الرّباعي
لا يمكن الوقوف أمام الواقع الذي نجح فريق الممانعة بفرضه على اللبنانيّين جميعهم مكتوفي الأيدي. فالانقسام الكياني هو الانقسام الأخطر الذي يعاني منه مجتمعنا اللبناني؛ حتّى بات هذا الانقسام بحدّ ذاته عطبًا كيانيًّا هزّ الكيان برمّته. وهذا ما نجحت به منظمة “الحزب” عبر الثقافة التي نجحت ببثّها في عمق المجتمع اللبناني على اختلاف مكوّناته الحضاريّة. هذه الثقافة التي لا تشبه تلك التي تربّى على أسسها اللبنانيّون كلّهم. حيث بات تمجيد القاتل وتخوين القتيل بطولة. والموت في سبيل المبدأ الأيديولوجي فريضة تقدّم لله، والشهادة مبتغى يرتجى ويبارَك. فيما الموت في سبيل لبنان لم يعد مستساغًا. لا بل أولئك الذين سقطوا فداء للبنان، نجحت هذه الثقافة بالذات عبر بعض يوضاسيّيهم، بشيطنة شهادتهم وتشويه الذاكرة الجماعيّة في مجتمعهم لتحطيم صورتهم. لكنّ شمس الحقيقة لم تغب أبدًا. فضحت عوراتهم كلّها ولو بعد أربعة عقود.
أمام هذا الانقسام اختلف مفهوم الواجب الوطني. وذلك طبقًا للمشروعَين المتناحرين في لبنان. المشروع السيادي والمشروع الممانِع. وعلى هامش هذين المشروعين لاح مشروع ثالث بزغ نجمه بعد ثورة 17 تشرين، حيث حاول هذا المشروع اللعب في الفراغ الموجود بين هذين المشروعين لكنّ تجربته هذه أسقطته وهو في نعومة أظفاره.
يبقى وجود الذين قرّروا التنازل عن حضورهم الفاعل حيث قرّر هؤلاء العيش على هامش الوطن. ومنهم من آثر الرّحيل.
اختلاف المقاربات الوطنيّة
فدعاة المشروع السيادي رؤيتهم واضحة وضوح الشمس. الهمّ الأوّل لأصحاب هذا المشروع يكمن في كيفيّة العبور إلى الدّولة وبنائها على صخر صلب، وليس على رمال متحرّكة لا تهتزّ كلّما أصابها وهن ما.
مشروع الممانعة لا يريد من لبنان سوى ساحة لتدخل منها تلك الدّول والمشاريع التي يدينون لها بالولاء، بدءًا من المشاريع الاستعماريّة المملوكيّة والعثمانية والفرنسيّة والعروبيّة وصولًا إلى تلك الشيوعيّة، ومرورًا بالفلسطينيّة، والاسرائيليّة والسوريّة والايرانيّة. هذا الفريق الذي يحمل المشاريع كلّها إلى المشروع اللبناني. وغالبًا ما كان يعمد هذا الفريق على تخوين الآخرين لأنّه ضليع بالخيانة، وغارق بالعمالة حتّى أخمص قدميه.
أمّا المشروع الذي ولد مع 17 تشرين فهو مشروع عاش حالة الانكار الواقعي وحاول أن يتخطّى المشروعيَن السابقين، شاملًا إيّاهما في سلّة واحدة من دون أيّ تمييز، حيث اعتمد التّعميم مبدأ له واعتنق شعار “كلّن يعني كلّن”، لدرجة وصوله إلى شعار “كلّن يعني كبّن”. وهذا ما لا يجوز في بلد تعدّدي إذ لا يمكن أن نساوي بين أفراد المجتمع كلّهم، لتتبيّن حقيقة أصحاب هذا المشروع أنّ مشروعهم على أحقّيّته، افتقد إلى عمليّة التأطير السياسي. فهو لم يرتقِ إلى مستوى الحزب السياسي، لكنّه تعدّى الحراك الشعبي، واستقرّ بين هذين البعدين.
والفئة الرابعة هي التي انصدمت من سوء خياراتها السياسيّة، أو بالإمكان القول إنّ روّاد هذه الفئة هم ممّن يهتمّون بأطرهم العمليّة فقط، ولا يكترثون لأيّ خيار سياسيّ ظنًّا منهم أنّهم لا يلوّثون أيديهم بما يرونه مدمّرًا لمصالحهم الخاصّة.
التمايز الوطني
هذه الفئات الأربع تمايزت في أداء واجباتها الوطنيّة في المراحل كلّها؛ ولاسيّما في هذه المرحلة التي يعيش فيها لبنان حربًا لم تخترها هذه الفئات مجتمعة، بل فئة الممانعة هي التي فرضتها على اللبنانيين كلّهم. من هذا المنطلق، صار الواجب الوطني مرتبطًا برؤية كلّ فئة كالآتي:
1 ـ الفريق السيادي رؤيته هي الدّولة وحدها بمؤسّساتها الشرعيّة. لذلك، حصر واجبه الوطني في كيفيّة الحفاظ على وجوديّة هذه الدّولة، ومن دون أن يتعارَض أداؤه مع دورها. وهذا ما انعكس ارتياحًا في شارعه وامتعاضًا في الوقت عينه من الذين لا يولون للدولة أيّ اهتمام. أولئك بدّوا مصالحهم الخاصّة على مصلحة الدّولة. ما يعني أنّ مصلحة الفرد غلبت مصلحة الشخص. والتمايز هنا بين الفردانيّة المرتبطة بالفرد البشري من منظوره الفردي هي التي غلبت على المنظور الشخصي للإنسان الذي يرتبط بشخصانيّة الكائن البشري. ويقودنا هذا التفكّر إلى البحث في التمايز بين الوجود والحضور. فالوجود هو مجرّد احتساب كمّي للإنسان؛ بينما الحضور هو الاحتساب الفعلي لهذا الانسان عبر تثبيت ذاته، كيانيًّا بالحضور الفاعل في وسطه. لذلك، المعركة الحقيقيّة بين هذين الفريقين تكمن في تثبيت الحضور الفاعل لكلّ منهما في تركيبة الدّولة.
2 ـ عاين اللبنانيّون الحضور الممانع وفعله في صلب تركيبة الدّولة على الأقلّ منذ انقلاب السابع من أيّار 2008 وحتّى يومنا هذا. بينما يكفي العودة إلى بعض النماذج في التاريخ الحديث التي استطاع الفريق السيادي أن يقدّمها في طريقة حكمه وإدارته للدولة والمؤسّسات؛ إن كان في زمن الحرب يوم كانت للحرّيّة منطقة محرّرة بإدارة حزب “القوات اللبنانيّة”، وإن كان في فترات السلم يوم صار لـ”القوّات اللبنانيّة” تكتّل الجمهوريّة القويّة الذي وحده يشهد أداؤه على قدرته في العمل المؤسساتي، وعلى نزاهة كلّ الذين خاضوا هذه التجربة عبره.
3 ـ أمّا مقاربة الواجب الوطني من قبل الفريق الذي اتّخذ الثورة علمًا لظهوره السياسي الجديد، فتكمن في حالة إعادة البناء من جديد، وكما يراه هذا الفريق بالتحديد. فمن هذا المنطلق، أتت مقاربته للواجب الوطني وحصر اهتمامه بالتغيير الذي وعد به، ولم يستطع تنفيذه حتّى الساعة. جلّ ما استطاعه خلق رأي عام مؤيّد، ما حدا بعض الرؤيويّين من هذا الفريق للانضمام إلى صفوف فريق المعارضة السياديّة.
4 ـ أمّا الفريق الرابع، الذي يمكن تسميته بالفريق اللامبالي، فهذا الفريق بالذات هو الذي قرّر العيش على هامش الوطن تحصينًا وتحصيلًا لمصلحته الفرديّة على حساب المصلحة المجتمعيّة، لكأنّه يعيش حالة انفصال كلّي عن الواقع. فصار هو الصامت الأكبر عند بدء عمليّة التغيير الحقيقي. لذلك، وجب العمل على تصويب بوصلة هذا الفريق نحو الاختيار الصحيح، ليستقيم بذلك أداؤه لواجبه الوطني إن انتخابًا وإن مشاركة بالحياة العامّة.
النزعة الانسانيّة التّائهة
أمام الواجب الوطني وطرائق مقارباته المختلفة بحسب الولاءات السياسيّة، تاهت النّزعة الانسانيّة عند كلّ إنسان. فمنهم مثلًا لم يستطع فصل انتمائه السياسيّ عند وقوع أيّ حدث يستوجب مقاربته إنسانيًّا. ومنهم مَن نجح بفصل انتمائه وتعليب حسّه الإنساني في هكذا ظروف. ففي موضوع اللّجوء الفلسطيني الذي حرّك بعض اللبنانيّين إنسانيًّا مثلًا، لم ينجح بتحريك بعضهم الآخر. كذبك في موضوع النّزوح السوري الذي بات معظم اللبنانيّين ينظر إليه بعين الواجب الوطني وليس من النّاحية الانسانيّة وحسب.
حتّى وصلنا راهنًا إلى النزوح اللبناني. هذا النّزوح الذي لمعظمه من المكوّن الحضاري الشيعي، ورأينا كيف تفاعل معه معظم اللبنانيّين. فالبيئة التي نجح هذا المكوّن بشيطنتها عبر صهينتها وأسرلتها وأمركتها طوال أربعة عقود من تاريخ وجوده الايديو – سياسي، كانت الأولى باحتضان أبناء هذا المكوّن الذي لم يألُ جهدًا عبر الميديالوجيا التي نجحوا بتأطيرها في عملهم الثقافي ـ الحضاري (والذي لا يمتّ إلى لبنانيّتنا بصلة) بتشويه سجلّها الوطني عبر تصوير رموزها خونة، والتباهي بقتلهم، والتهديد بقتل قادتها اليوم، إن نجحت بإيصالهم إلى السلطة. فارتقت ثقافة القتل عبر الميديالوجيا الخاصّة بهم إلى أرفع مستويات التمجيد، وصار قتلتهم قدّيسين، وضحاياهم شياطين وطنيّة، قتلهم واجب وطني، وقتل الذين ساروا ويسيرون على دعساتهم واجب أقدس.
هكذا تاهت النزعة الإنسانية في غياهب ديجير الحقد الميديالوجي الذي لطالما استعر عند كلّ مواجهة خاسرة يخوضها هؤلاء كلّهم. حيث بات الفريق السيادي الأكثر عرضة للإلغاء عبر هذا النّظام الأيديولوجي تارة بالسلاح وتارة بالميديا وطورًا بالعسكرة والقتل. المهمّ في ذلك كلّه لا وجود لرأي حرٍّ يقارع به الرأي المختلف.
أمام هذا الواقع، يا أخي بالمواطنة وشريكي بالمواطنيّة اللبنانيّة، ترى ممّا قدّمت من أمثلة وغيرها أمثال لها – أنّ الممانع واللامبالي سيّان، فكلاهما يساوم ويطعن، وأن اللامبالي والثائر سيّان، فكلاهما يجمع ويُعمّم، يقوى ويضعف، يقتنع بعلمه ويزهد به. الضدّان في السطوح ضدّان معكوسان في الأعماق، فما موقفك أنت بالتحديد من هذه الأضداد؟ ما التقويم وما الخيار؟
أتُوثِرُ ما في السطوح إيثار سواد الناس؟
تُؤثر السيادة على التبعيّة، والوطنيّة على العمالة، والسلاح الشرعيّ على السلاح غير الشرعيّ، والاستقلال على الاستغلال؟
أم تُؤثر ما في الأعماق؛ رثاء الممانع على مديح السيادي، وزهد السيادي على مال الممانع، وقوّة الأعزل على قوة المسلح، واطمئنان الممانع على قلق السيادي؟
أم أنت تساوي بين الأضداد، في السطوح والأعماق، تلقى أي ضدين مثلين: الممانع كالسيادي، والثائر كاللامبالي، والواجب الوطني كالنزعة الانسانيّة؟
لست أدري ما تُؤثِرُ، لكن أنا أدري ما أوثر.
ألم يآن الأوان لتدري أنت ما تؤثر لأجل لبنان؟!