حدد الدستور اللبناني نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية بـثلثي أعضاء مجلس النواب أي 86 نائبًا من أصل 128، ووزّع القانون اللبناني أعضاء البرلمان اللبناني وفق تقسيمٍ طائفي يُعطي 64 مقعدًا للمسلمين، و64 للمسيحيين؛ ووفق تقسيمٍ مذهبي ضمن الطوائف، يُعطي النواب الموارنة 34 مقعدًا، والشيعة 27، والسنة 27، والأرثوذكس 14، والدروز 8…الخ.
ولو أن المشترع اللبناني أراد منح المذهب الماروني ضمن الطوائف المسيحية مثلًا، حق الفيتو على انتخاب رئيس الجمهورية، لكان رفع نصاب جلسة الانتخاب من 86 نائبًا الى 94، أي 128 ناقص عدد نواب الموارنة الـ34، ولو أنه أراد منح المذهب الشيعي ضمن الطوائف الإسلامية حق الفيتو، لكان رفع نصاب الجلسة من 86 الى 101، أي 128 ناقص عدد نواب الشيعة أي 27، وهكذا دواليك…
وهذا يعني أن المنطق الدستوري والميثاقي الذي يتحدّث به الدكتور سمير جعجع صحيح وسليم مئة بالمئة، أقلّه من حيث المبدأ، والمنطق الدستوري والميثاقي الذي كتبت عنه يا أستاذ عماد مرمل اليوم في صحيفة “الجمهورية” غير صحيح وغير دستوري وغير ميثاقي، أقلّه من حيث المبدأ أيضًا.
والشيء بالشيء يُذكر، هل يمكنك يا أستاذ مرمل أن تُرشدنا بالضبط الى المادة الدستورية أو العرف الميثاقي الذي يعطي الحق الدستوري أو الميثاقي لحزبٍ واحد بعينه في امتلاك السلاح والتفرد بإعلان الحروب، من أصل عشرات الأحزاب و18 مذهبًا؟
هل من داعٍ لتذكيرك أن هذا الواقع المسلّح نشأ في ظل غياب مكوّن مسيحي بأمه وأبيه، وفي ظل احتلال أسدي للبنان، اعتبارًا من عام 1991 وحتى عام 2005؟ وهل من المنطقي أن يستمر هذا الواقع حتى اليوم، وخصوصًا بعدما كان لبنان مُحررًا بالكامل بموجب القرارين 425 و1701، مع كل ما استجلبه ويستجلبه هذا السلاح من تعطيلٍ وتشريد ودمار؟
هل استشرتم المسيحيين أو السنة أو الدروز أو أقرب المقربين اليكم بالذات، يا استاذ مرمل، قبل أن تنفردوا بإعلان حربكم التدميرية غصبًا عن إرادة كل هؤلاء، وقبل ان تُنظرّوا علينا بالميثاقية والتوافقية؟
فمن أعطاكم الحق أيضًا بعد كل ما سبق بإقفال مجلس النواب، وتعطيل انتخابات موقع رئاسة الجمهورية المخصص للمسيحيين أولًا، ولكل اللبنانيين ثانيًا، وليس للـ27 نائبًا فقط الذين بُح صوتنا ونحن نطلب منهم الحضور، لكنهم قرروا بملء إرادتهم التغيّب. فالذي يريد تغيّيب الشيعة يا أستاذ عماد هو الذي قرر نيابةً عن كل الشيعة الخروج من اللعبة الديموقراطية والدستورية في البلد، من دون أن يُخرجهم أحد منها، بل على العكس تمامًا.
وللتذكير أيضًا يا أستاذ مرمل فإن الميثاق الوطني التأسيسي للجمهورية سنة 1943 لم ينص على حق المذاهب بامتلاك الفيتو، بل حق الطائفة المسيحية والطائفة الإسلامية ككل، وإذا كنتم ترفضون هذا الأمر، فما عليكم الا القول صراحةً بأن الميثاق التأسيسي بين المسيحيين والمسلمين لم يعد يُعجبكم، حتى نبني على الشيء مقتضاه.
وهل من داعِ لتذكيرك أيضًا أن معظم الحكومات التي شُكلّت مباشرةً بعد الميثاق الوطني التأسيسي سنة 1943، لم تكن تأخذ بعين الاعتبار التوزيع الوزاري المذهبي ضمن الطوائف اللبنانية، لماذا؟
لأن القيّمين على هذا الميثاق والموقعّين عليه، والذين هم آباء دولة لبنان وآباء الاستقلال فيها، كانوا أدرى بشِعاب الميثاقية والتوافقية التي يتشدّق بها البعض اليوم لتغطية سماوات السلاح بقبوات التعطيل، ولم يُفكرّوا أن السنّة هم غير الشيعة، مثلما يحاول البعض اليوم الاصطياد بالمياه المذهبية العكرة تحت شعار “الميثاقية المذهبية”، بل نظروا الى السنّة والشيعة نظرةً جامعة، باعتبارهما طائفةً اسلامية واحدة.
فهل المطلوب اليوم إثارة النعرات المذهبية، بعد النعرات الطائفية، حتى “يكتمل النقل بالزعرور”، تحت شعار “الميثاقية المذهبية” غير الموجودة لا في الدستور ولا في الميثاق، لمجرد الإمعان بتعطيل انتخابات الرئاسة، والقبض على هذا الموقع، ليس حبًّا بالشيعة وبالميثاقية الشيعية طبعًا، بل للاحتفاظ بالسلاح الذي لم يستجلب للشيعة ولكل اللبنانيين سوى الدمار والتشرد والويلات.
وهل من داعِ لتذكيرك أن الميثاقية بين المسيحيين والمسلمين لم تنشأ مع اتفاق الطائف، بل مع الجمهورية الأولى سنة 1943، ولم يطرأ عليها في الطائف أي تعديل أو أي update، بل بقيت كما هي في حالتها الأولّية، أي ميثاقية مسيحية إسلامية، لا ميثاقية مذهبية، وهذا المبدأ الميثاقي استند اليه الرئيس السنيورة سنة 2006 لمتابعة عمل الحكومة بعد اعتكاف الوزراء الشيعة منها، خصوصًا بعدما كان معظم رؤساء الحكومات السابقين في الجمهورية الأولى، وخصوصًا في الفترة التي تلت التوقيع على الميثاق الوطني قد اعتمدوه بدورهم.
وللتذكير أكثر فأكثر فإن 8 حكوماتٍ في الجمهورية الأولى كانت تتألف من عشرة وزراء، وكان نصيب الطائفة الشيعية منها وزيرًا من أصل عشرة، وحكومتان كانت تتألف من عشرة وزراء كان نصيب الطائفة الشيعية فيها وزيران، بالإضافة الى عشرات الوزارات التي لم يكن نصيب الطائفة الشيعية فيها أكثر من وزيرٍ واحد، ومع ذلك لم يُثِر هذا الأمر أي اعتراضٍ شيعي يُذكر، لا بل كان لبنان وقتها سويسرا الشرق، وكان المسلمين سنةً وشيعة في تآلف وتفاهم وانسجام. الا لعن الله الفتنة ومن يوقظها يا أستاذ عماد!
لا نقول هذا الكلام لأننا نرغب بالعودة الى تلك الفترة بتاتًا، بل لمجرد لفت الانتباه الى أن مسألة “الميثاقية المذهبية” لم تكن موجودة في التفكير الإسلامي الوطني الجامع للزعامات الشيعية والسنية وقتها، بل هي نشأت كسياقٍ سلبي وليس إيجابي لتطوّر الأحداث في لبنان، خصوصًا مع نشوء حزب الممانعة وتمدده اعتبارًا من أواسط الثمانينيات وبداية التسعينيات وحتى 7 أيار 2008.
وإذا كنت تقول في قرارة نفسك يا أستاذ عماد أن الشيعة كانوا مُستضعفين وقتها، فسنستبق عليك الأمر بتذكيرك أنه سنة 1946 انتخب مجلس النواب اللبناني ارثوذكسيًا لرئاسة مجلس النواب ليحل مكان الرئيس صبري حماده، وربما برضاه أيضًا، وكما تعلم فإن غالبية الأرثوذكس لم يكونوا من ضمن المحسوبين على “المارونية السياسية” المزعومة وقتها، بل أقرب الى المسلمين منهم الى الموارنة، فاحتلت العشائر الشيعية المسلّحة كل المباني الحكومية في بعلبك والهرمل، ونزل الشيعة بأسلحتهم في الجنوب، وتم تكريس هذا الموقع من حصة الشيعة، والذي كان في حقيقته تكريسًا لموقع صبري بك حماده ولأحد المواقع الإسلامية في النظام، أكثر منه تكريسًا لموقع يخص الشيعة بعينهم.
لا نريد العودة الى تلك الأزمنة يا أستاذ عماد، ولكن الميثاق هو الميثاق take it or leave it، ولا يمكنك أن تأخذ منه ما يناسبك وتترك منه ما لا يُناسبك، وإذا كان لديكم ثمّة ما تقولونه أو تعترضوا عليه بخصوصه، يمكنكم طرح هذا الموضوع التأسيسي على بساط البحث بشكلٍ واضح وصريح، من دون اللف والدوران حول موضوع “الميثاقية المذهبية” غير الموجودة أصلًا في أي اتفاقٍ عرفي، أو أي نصٍ مكتوب يُعنى بتأسيس هذه الدولة.
ولو سلمنّا معك جدلًا بوجود شيء اسمه “الميثاقية المذهبية”، غير أن المشترع اللبناني والآباء المؤسسين للبنان لم يُعطوا أي ميثاقية حق التعطيل، أو حق اقفال المؤسسات وحق الابتزاز، وهذا واضح وجلي في كل الاجتهادات الدستورية، وخصوصًا بالنسبة لمواقع دستورية غير مخصصة أصلًا للمعطلّين، بل الميثاقية وُجدت في جوهرها وأساسها، بحسب مبتدعها العلامة الدستوري ارند ليبهارت، للحفاظ على حقوق الجماعات في الدول التعددية، وإعطائها حق الفيتو على القرارات التي تمسّ بمصالحها الحيوية هي، وليس لتعطيل القرارات السياسية للدولة، ولا لتعطيل انتخابات رئاسية منصوص عنها بالدستور، وإفراغ مواقع دستورية مخصصة لطوائف غيرها، وخصوصًا، أعُيد تذكيرك أن نصاب جلسة الانتخاب هو 86 نائبًا وليس 94 ولا 101.
يبدو يا أستاذ عماد أنه سهى عن بالك أن الميثاقية مرتبطة عضويًا بتكريس التعددية المجتمعية، فهل نفهم من كل هذا الكلام أن الفكر الايديولوجي الشمولي لحزب الممانعة طرأ عليه تحوّل نوعي في هذا الصدد؟ هل أصبح هذا الفكر يعترف بالتعددية المجتمعية وبالمصطلحات الدستورية للثقافة الغربية المرتبطة بهذه التعددية، قبل أن يبتدع موضوع “الميثاقية المذهبية” الذي هو نتاج الفلسفة الدستورية الغربية والفكر الحضاري الغربي من أوله الى آخره؟
وكم كنا سنحترم صراحتكم لو قلتم لنا وللبنانيين بالمباشر بأنكم ترغبون بتعديل الدستور لتعديل نصاب جلسة الانتخاب وإيصال رئيس ملحق لكم بالكامل، عوض الالتفاف على المواثيق والأعراف والقوانين والدستور لانتزاع حقوقٍ ليست لكم وحدكم، والقبض على مواقع ومؤسسات دستورية، لا لشيء الا للاحتفاظ ببقايا أسلحة وصواريخ.
أما بالنسبة لقولك إن الشيعة والسنّة يمكنهم أن ينتخبوا رئيسًا بـ65 نائبًا، فلا مشكلة لدينا إطلاقًا إذا استطاعوا تأمين نصاب جلسة الانتخاب القانونية بـ86 نائبًا، ومن قال لك أصلًا أن اتفاق السنّة والشيعة على رئيس من ضمن الأطر القانونية والدستورية والميثاقية، يُضيرنا أو يُزعجنا بشيء، فمصالحنا الوطنية والسياسية والسيادية العليا ستكون مؤمنة في هذه الحالة من خلال النواب السنّة والدروز وبعض النواب الشيعة، وستكون مؤمنّة أيضًا من خلال النواب الـ21 الذين سيوفّرون نصاب جلسة الانتخاب الـ86، ومن خلال ممارسة حقنا الدستوري في المعارضة، فمشكلتنا معكم يا أستاذ عماد ليست مشكلة طائفية، ولا هي مشكلة “انتخاب رئيس” بل هي مشكلة تعطيل الانتخابات و”عدم انتخاب رئيس”، وهي مشكلة سيادية بامتياز، ووطنية بامتياز، وهي مشكلة القبض على المؤسسات الدستورية لاستخدامها مطية وستارًا للسلاح غير الشرعي، لا أكثر ولا أقل.
ولو أنكم يا أستاذ عماد تقومون بكل هذا الأمر لمصلحة لبنان ومصلحة إعادة إحياء سويسرا الشرق من جديد، وليس لمصلحة السلاح البائد ولا مصلحة الملف النووي الإيراني والايديولوجيات المذهبية المتطرفة، لأعطيناكم كل المواقع الدستورية والسياسية، لأن مشكلتنا لم تكن يومًا مشكلة طائفية أو مذهبية، ولا مشكلة حول مقعد بالزائد أو بالناقض، بل مشكلة وطنية حضارية، ومشكلة حول مبدأ قيامة الدولة وحريتها وازدهارها والمساواة بين أبنائها تحت سقف القانون، بعيدًا عن السلاح والفوضى وسياسة المحاور، وهذا ليس غريب أصلًا عن تاريخنا وتراثنا، فعندما كانت سيادة لبنان بخطر، تخليّنا عن كل المواقع والإغراءات ودخلنا الى المعتقلات والسجون، فيما غيرنا كان يمعن في الدولة نهبًا وسرقة وتعاملًا، ولا من يسأل كان عن حقوق شيعة، أو حقوق مسيحيين، أو حقوق سنّة أو حقوق دروز، أو ميثاقية من هنا أو طائفية من هناك، بل السؤال كان فقد حول حقوق الجيوب وحقوق المصالح والصفقات والسمسرات، وكيفية استرضاء المحتلين، أمّا اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب فكانوا آخر من يعلم…