يعاني لبنان من أزمة عنوانها “رفض الرعية لراعيها”. منذ التأسيس وبعد الاستقلال، كان واضحًا أن مكونات المجتمع اللبناني تختلف بنظرتها للدولة اللبنانية. فجزء يبحث عن دولة قوية قادرة وجزء آخر يراهن على متغيرات خارجية داخلية تسمح له بالاستئثار بالسلطة في الداخل.
وللمراقب أن يسأل، هل عاد الرهان على الخارج بمنفعة للجماعة التي أقدمت على هذا الرهان؟ الجواب هو “كلا”. سيناقش البعض أن رهان جماعات الداخل على الخارج قد عاد عليها بالسلطة والثروة. إذا صح ذلك، فيصح لحظوة قليلة استولت وقامرت بمستقبل جماعتها، فوجب اعتبار هذه المكتسبات بمثابة “أجر” لقاء “عمل الخيانة” هذا.
من البديهي أن يستمر الرهان على الخارج طالما أن موازين القوى الإقليمية والداخلية ثابتة. أما عند كل تغيير يطرأ، نرى تهاوي من كان جالسًا على طاولة “البيع والشراء” ونرى جماعته تهوي من خلفه، متروكة لمصيرها المجهول بانتظار مراهن جديد، أو ربما أكثر.
وها نحن اليوم، نعيش مشهدية تحاكي ما قد وصفناه. قام “الحزب” بالرهان على الثورة الإسلامية في إيران، وحصل القادة والمحظيين فيه على مكتسبات كبيرة عربون شكر من النظام الإيراني الذي أشاد بعملهم الاستثنائي من خلال تمكنهم من السيطرة على قرار الطائفة الشيعية في لبنان برمتها، والإتيان بقرارها أمام الولي الفقيه. فكاalنت المعادلة سارية لحين تغير موازين القوى، وها هو “الحزب” يهوي وبقوة، تاركًا خلفه شيعة لبنان بمهب الريح، ينتظرون “أملًا” من هنا و”حرثًا” من هناك، وكلاهما لن يأتي!
في خضم هذا الواقع المرير والمؤلم، على الجماعة الشيعية في لبنان أن تقيّم خياراتها وقرارات قادتها التي أودت بها إلى هذا الحضيض. على كل شيعي أن يسأل نفسه، بعيدًا عن الشعارات التي لا طائل منها والغوغائية المستكبرة: بماذا أفاد “الحزب” طائفتي؟ هل استطاع حمايتها من الويلات؟ هل تمكن من خلال ترسانته العسكرية أن يفرض ردعًا منع بموجبه تعدي إسرائيل؟ هل فعلاً، ما يحصل، يستحق خسارة ما قمتم باكتنازه على مدى أربعين عامًا؟ هل تغييب الدولة المقصود خلال الأربعة عقود المنصرمة أتى على الشيعة بالأمان؟ هل من رهنتم له قرار طائفتكم برمتها أتى لنصرتكم وقام باحتضانكم؟ هل اقتنعتم اليوم أن منطق اللادولة لا هو بدائم ولا هو مربح؟
جراء رهان “الحزب”، خسر لبنان أربعين عامًا من عمره وخسر مقدراته وقدرته وسمعته، وها أنتم اليوم خاسرون. عليكم قبل الغد، أن تراهنوا فقط لا غير على الدولة اللبنانية، لأنها الوحيدة القادرة على أن تحمي جميع أبنائها، لأنها الوحيدة الشرعية والمنبثقة عن ميثاقهم المشترك. هلموا بسرعة قبل أن يفوت الأوان، هذا إن لم يكن فعلًا قد فات الأوان!
إيران كما كان معلومًا للجميع وكما أصبح معلومًا لشيعة لبنان، تفاوض على كل ما وُضع في جعبتها من أجل مصالحها البحتة. فميلوا عيونكم عنها وانظروا الى من ينتظركم في وطنكم لبنان، والى من قدم لكم وأعانكم، وهو الذي يمكن لكم أن تركنوا اليه. فالدولة اللبنانية هي الراعي الصالح والشعب اللبناني هو الرعية التي يجب أن تنتموا لها.
ببعض القساوة سأختم، تبعًا لما نعيش. أظهرت الواقعية السياسية أن حلفاءكم في الداخل ليسوا إلا أزلام، أما أخصامكم، ومنهم خصمكم الألدّ “القوات اللبنانية” الذي خونتم في الماضي، هو من فتح لكم بيوته ومناطقه. فكان أن من استهزئتم به وبلبنانيته أصبح خلاصكم. وإذا أردنا أن نقارن ما بين “الحزب” و”القوات اللبنانية”، لوجدنا أن الأول حرص على الهيمنة على الدولة اللبنانية، أما الثاني فحرص على قيام دولة لبنانية فعلية.
الأول حرص على إعلاء شأن طائفته على غيرها من الطوائف حتى لو اقتدى به الأمر، الى رهن قرارها لدولة خارجية، أما الثاني فحرص على احترام جميع الطوائف، معتبرًا أن خسارة أي طائفة هي خسارة لكل لبنان.
الأول حرص على أن يدخل لبنان عصر الحروب المتتالية وأن يعيش أهله التهجير والقتل، أما الثاني فحرص على أن ينأى لبنان بنفسه عن صراعات المنطقة التي لا قدرة لنا على التأثير بها.
الأول حرص على رفع شعار إيران أولًا، أما الثاني فرفع شعار لبنان أولاً.
الاول حرص على أن يخرج عن الرعية ويستهزئ بـ”الراعي”، أما الثاني فحرص على أن يكون حصنًا للرعية وسندًا للراعي.
الأول ظهر حرصه الزائف وسقط، أما الثاني فانجلى الغبار عن حرصه الحقيقي وشعّ.
الأول حرص على أن يبيع مستقبل الشيعة في لبنان حتى آخر شخص، أما الثاني فحرص على حماية هوية الطوائف في لبنان وبمن فيهم الشيعة!