ينتصرون عندما يُدركون أنهم أضاعوا 42 سنة من عمرهم وعمر أجيالهم، جرياً وراء كذبةٍ وأوهام لم تستجلب لهم سوى الدمار والتشرد والهزيمة، وإرجاعهم مئات السنوات إلى الوراء.
ينتصرون عندما يكتشفون أن الرعيان في وادٍ والقطعان في وادٍ آخر، وأن “البعبع” السنّي والمسيحي والدرزي، والقواتي والاشتراكي والكتائبي والمستقبلي…، كان الضمانة لهم عند الشدائد والصِعاب حائلاً دون هزيمتهم الاجتماعية والانسانية والحياتية الفعلية، وليس كل ما تمَّ زرعه في رؤوسهم من أفكار تحريضية وأخبار لم تأتِ سوى بالهزائم والويلات.
ينتصرون عندما يُدركون أخيراً أنهم أشخاص عاديين كبقية اللبنانيين، يخافون ويهربون، يعطشون ويجوعون وينهزمون وينتصرون، يبحثون عن مستقبل أفضل لأولادهم، يطيعون التحذيرات الإسرائيلية ولا يعاندونها حتى لا يموتوا، يكذبون ويُكذَّب عليهم، يتحايلون على مبادئهم ومعتقداتهم للحصول على كرتونة إعاشة إضافية، وليسوا سوبرمان، ولا أشرف من سواهم من اللبنانيين، ولا أشخاص إلهيين خارقين يخوضون البحار والمحيطات، ويتجوّلون بالمركبات النارية، وينتصرون بالسيف والترس والتعاويذ والرقى على الـ”أف 35″ التي تنهزم أمامها أقوى الجيوش والطائرات.
ينتصرون عندما يفتحون قليلاً كُتب التاريخ فيُدركوا أن “المقاومة” التي يخوضها اليوم أو بالأمس القريب مقاتلين منهم، ليست حصرية ولا هي فريدة من نوعها، أو أن الله “خلقها وكسر القالب”، بل سبق لكل الطوائف والأحزاب في لبنان أن خاضت أشرس وأصعب وأخطر منها بكثير عبر التاريخ.
فالدروز خاضوا حروباً متواصلة “على فرد نفس” طيلة قرنين من الزمن مع السلطنة العثمانية في أوج قوتها وصعودها، دعك من حروبهم الأخرى وآخرها في 11 أيار 2008. والمسيحيون قاوموا أصعب الظروف وأقوى الممالك وأخطرها عبر التاريخ، وواجهوا الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1958 قائد الجمهورية العربية المتحدة بذاته، وقاوموا ياسر عرفات قائد ثورة مئات الملايين وعشرات آلاف المسلحين الشجعان والشرسين، مدعومين من صوماليين وإفريقيين وليبيين ولبنانيين وشيوعيين وعرب آخرين، وقاوموا حافظ الأسد بذاته في أوج قوته، ورمى مقاتلوهم بأنفسهم من الطابق العشرين في “الهوليداي إن” رافضين الاستسلام للمُحاصِرين، وتسلّقوا جبل النورية الشاهق بالحِبال لصد المهاجمين على شكّا، وتصدَّى أربعون مقاتلاً منهم للواء سوري بأكمله في قنات طيلة أيامٍ وأسابيع، وقاوم 100 مقاتلٍ منهم مدعومين من شباب زحلة، الجيش السوري طيلة 100 يوم من القتال المتواصل بعد سيرهم كيلومترات كثيرة في الثلوج والجبال في أرضٍ مكشوفة لمروحيات الأعداء، وقاتل المئات منهم قتال الانتحاريين الاستشهاديين في الأشرفية، وخصوصاً في الجبل، وبشهادة كتابات أخصام الأمس، أصدقاء اليوم…
ينتصرون عندما يعرفون أن لا شيء خارق للطبيعة، ولا شيء إلهي، ولا شيء حصريّ في ما يفعله مقاتلون منهم في الجنوب، خصوصاً بعد تحضيراتٍ امتدت عشرات السنوات، وخصوصاً أن إسرائيل هي “أوهن من بيت العنكبوت”، بينما النظام الأسدي والمنظمات الفلسطينية وحلفاؤهما كانوا أقوى من الفولاذ والحديد. لذلك ينتصرون عندما يعرفون أنهم أناسٌ عاديون مثل بقية اللبنانيين، يملكون العزّة والشرف والكرامة التي يدافعون عنها حتى الاستشهاد، فلا يعيشون في وهم النكران والاستقواء منفصلين عن الواقع، مستخفّين بالرجال والنساء، مستهترين بالزلم من بقية اللبنانيين، فعندها حتماً سينهزمون.
ينتصرون عندما سيكتب المؤرخون الشيعة المتنورّون بعد 5 أو 10 أو 50 سنة، أن التيار السيادي في لبنان وقياداته كانوا على حق، فيما زعمائهم كانوا يبيعونهم الأوهام التي أدّت إلى تدميرهم، لأن النكران والمكابرة والمعاندة وعدم الوعي هي الهزيمة والانهيار بحد ذاتها.
ينتصرون عندما يكتشفون أخيراً أن القوات اللبنانية التي كانت أقوى تنظيم عسكري غير رسمي في الشرق الأوسط قبل أكثر من 34 سنة، هيهات منها حزب الممانعة الآن، كانت مُحقّة عندما سلّمت سلاحها للدولة، بدل المكابرة والمعاندة وضرب الرأس بالحائط بمواجهة اختلال موازين القوى، والمعادلات الداخلية والاقليمية والدولية المقفلة، مانعةً حلول النكبة بشعبها، بعكس ما يقوم به زعماؤهم اليوم، والذي لا يمكن أن يؤدي، حتى لو حاربت كل شياطين الأرض معهم، إلاّ إلى الهزيمة والنكبات.
ينتصرون عندما يقتنعون أن أفكار العظمة والقوة والفوقية والاستعلاء كانت مجرد أوهام بيعت لهم لمجرد استخدامهم وقوداً في مشاريع أثبتت فشلها، أقلّه حتى الآن، فيعودوا إلى الواقعية والمقاربات المنطقية وكنف الدولة والقانون، لأن البديل عن الدولة في لبنان هو الهزيمة مع كل ملحقاتها الجغرافية، والطائفية، والمذهبية، والسورية، والفلسطينية، والاقتصادية والاجتماعية… ومن له أذنان… لا ينهزم!.
ينتصرون عندما يُدركون أنهم أصغر من وطنهم لا أكبر منه، كما قال الرئيس الشهيد رفيق الحريري “ما حدا أكبر من بلدو”، وبأن أفكارهم التوسّعية هي مجرد أوهام أدّت إلى التراجع والتقلّص والتشتت والانكماش وخسارة المكتسبات، لا إلى التوسّع. فالأفكار الشمولية تنكسر وتنهزم بمجرد أنها تراجعت قليلاً عمّا كانت عليه قبلاً، وخسرت مكتسبات ماضية بدل أن تربح مكتسبات مستقبلية.
ينتصرون عندما يعقلون ويفكّرون أن كل ما قاله السياديون في هذا البلد وحذّروا منه قبل وقوع الواقعة، كان ضنيناً على مصلحتهم، ولم يكن تهويلاً صهيونياَ. ينتصرون عندما يستمعوا إلى النصائح الوطنية والعربية والدولية بكل أريحية وعقل واسع، حتى لا تتضاعف الخسائر، وتصل بالنهاية إلى الهزيمة المدويّة بحقائقها التي قد تكون أعلى من كل أصوات التشويش والنكران.
ينتصرون عندما يتوقفون عن الارتداد على الداخل اللبناني، بالاغتيال حيناً وبالتهديدات و7 أيار حيناً آخر، كلّما اُقفل بوجه “انتصارهم الإلهي الموعود” أفقٌ خارجي، على عادة المنظومات الشمولية التي ترتد كالطابة المطاطية إلى الخلف إذا ارتطمت بحائطٍ من أمامها، لأن أي ارتدادٍ على الداخل بعد الآن هو الهزيمة المطلقة والنهائية بكل ما للكلمة من معنى، ولأن انتصارهم الحقيقي يستوجب ارتداداً إلى ذواتهم الداخلية فقط، لإخضاعها للمراجعة والتقييم والاصلاح، والجرأة على تحمّل المسؤولية والانطلاق بعدها نحو أفقٍ جديد ومقارباتٍ جديدة مليئة بالانتصارات الحضارية، والعلمية، والعملية، والوطنية، والسيادية.
ينتصرون عندما يتعلّمون من الشعب الياباني والألماني والإيطالي والشعوب الأوروبية التي أجرت مراجعة نقدية قاسية لتجارب الحروب المتواصلة منذ القرن التاسع عشر، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، من أجل بناء مجتمعات معتدلة متسامحة متحضرة بعيداً عن الأيديولوجيات السياسية البائدة والأفكار النازية والفاشية اليمينية المتطرفة، والسياسات الأمبراطورية التوسعية، التي لم تستجلب لهم سوى الدمار والخراب. فمليون ونصف مليون لبناني ليسوا أقوى من مئات ملايين اليابانيين والألمان والإيطاليين، الذين انهزموا بمواجهة العالم الحر، واعترفوا صراحةً بهزيمتهم، بدل النكران والاستمرار بتقلي الهزائم، مصحِّحين مسار تاريخ شعوبهم، فأصبحوا اليوم من أكبر المنتصرين.
ينتصرون عندما يأخذون العِبرة من حركة الإصلاح والتنوير في أوروبا بعد الحروب المذهبية الطويلة بين الكاثوليك والبروتستانت، وبعد عصور الظلام والأفكار الدينية المتشددة التي لم تكن تولي الإنسان أي قيمة، بل تُسخّره فقط في خدمة الأفكار الدينية وخدمة الأوهام، والتي كانت تُحمّل قطةً سوداء من هنا مسؤولية “الطاعون”، وإنسان مفكّر متحرّر من هناك مسؤولية عدم تطابق النص الديني مع الوقائع الجغرافية أو العلمية، وعجوز شمطاء من هنالك مسؤولية غضب الله عليهم، رافضين تحمّل أي مسؤولية بأنفسهم، فينهال الغضب الإلهي، لكن بأيادٍ بشرية طبعاً، قتلاً للقطط، واضطهاداً وإحراقاً للفلاسفة والمفكّرين والأحرار، واصطياداً للعجائز “السحرة”. لم تنتصر أوروبا المنهزمة في عصور الظلام إلا عندما تخلّت عن كل أوهامها، وصار الإنسان قيمةً حضارية قائمة بحدّ ذاتها.
ينتصرون عندما يدركون أخيراً أن تسليم السلاح إلى الجيش اللبناني هو ملاذهم الآمن والوحيد والأخير، وأن العودة إلى العقل والعقلانية والمنطق والاعتدال والقانون، بعيداً عن كل الأيديولوجيات البائدة، هو خيارهم الأضمن والأسلم والأفضل لغدٍ كله إنجازاتٍ وانتصارات إنسانية، وقبولٍ للآخر، وتطويرٍ ونهضة وازدهار وتسامح وتعايش واعتدال، بعيداً عن “ثقافة الموت والاستشهاد” التي يتمنّونها لأنفسهم ويباركون لبعضهم بها، ولكن إذا تمنّيتها أنت لهم، وباركت لهم بها، ثاروا عليك وانهالوا بالتخوين والتهديدات.
لذلك فالنصر أصبح أقرب مما تتصوّرون، وبذلك حتماً ينتصر لبنان وننتصر معه… وينتصرون.