“بحضرة الله القادر على كل شيء، والطوباوية أمنا مريم العذراء، وأبينا القديس أنطونيوس الكبير، وقدس أبينا العام، أنا الأخ… أنذر الطَّاعة والعفّة والفقر الاختياري حتى الموت حسب مضمون قوانيننا ورسومنا”!
جملةُ قَسَمٍ ترهُّبيّ ركنها الأوّل إسمي والركن الثاني خبريّ وكلماتٌ مقطوفة كلمةً كلمة من شجرة عائلةٍ رهبانيَّة تمتدُّ جذورها النذورية إلى منبتِ جذور عصا أبي الرهبان، تخرجُ من فَمِ المَدعو إلى أذن من دعاه إلى الوليمة المتسامية عن تخمة الموائد المتفشِّية بين مدمني العيش بطقوس الذين “آلهتهُم بطونهم ومجدهم في خزيهم”. ها هو المبتدئ الحاضر لمهابة مسؤولية الترهُّب ينهض بقامةٍ تفيض خشوعًا، وعينين ترتفعان انخطافًا، وركبتينِ تنثنيان سجودًا، وشعاع القربان يبارك تفوَّقَه بامتحان قُرعةٍ ديريَّةٍ علاماتُها حبَّات قمحٍ لا تُمنح إلاَّ للذين وضعوا يمينَهم على المحراث الرهباني من دون أي التفاتةٍ إلى الوراء ومن دون أي إيماءةٍ تُشتِّت بصيرة رجال حقل الرب يمينًا ويسارًا.
باسم الجماعة الرهبانية جمعاء ينتقلُ رأس السّاجد بحضرة القربان من اختبار “شالة” الابتداء إلى خبرةِ إسكيم يرفع جبين لابسه إلى الدائرة الملائكية، تليه عباءةٌ سوداء لونها لون تطويب الحزانى بالروح، يليهما زنَّارٌ جلديّ مُزرَّر بصليبين يشدَّان الحقَوين برباط القوة والنعمة والحق، ورابع زيٍّ من أزياء رهبان لبنان هو قُبَّعة رأسٍ مخمليَّة دائرية ذات أضلعٍ مطرَّزة ترمز إلى خوذة الخلاص، وبعدها يتكامل اللباس الرهباني البسيط غير المُعقَّد التفصيل بمشلحٍ فضفاض الأكمام يرسم على قامات المتحصِّنين به كامل مهابة الأنطونيوسيين!!
مَن هم الأولى منكم والأحق يا رهبان المذهب اللبناني إن ختمتم لازمة آيات حضرة الله ومريم الأم وأنطونيوس الأنبا وقدس الأباتي بالعبارة الإسمية الخامسة المُستحَقَّة لكم: “وبحضرة لبناننا السَّرمديِّ”.. جميع الرهبانيات المسكونية اكتسبت اسمها وشهرتها من إسم وشهرة مؤسِّسها إلاَّ أنتم منذ إعلانكم في أول أيام تحديد وتثبيت هوية الانتماء بأنَّ مؤسسكم البلدي هو لبنان!
في حضرة جبل أرز الرب وعذراء أودية وتلال أديار وصوامع كوكب البريّة نصبتم أساكيمكم مظالاً دائمة لأعياد تجلٍّ تجلَّت يوم سادس شهر آب كصوت آبٍ سماوي يغمر مسامع الأرضيين: “هذا هو إبني الحبيب فله اسمعوا”. كما تجلَّت أصواتًا ما زالت منذ 1600 عام تضرع وتهتف: “حسَنٌ أن يبقى لبنان وقفَك يا رب. حَسنٌ أن نبقى في لبنانكَ ولبناننا يا ربّ”!!
رهبان رهبانيتنا اللبنانية المارونية
لوحة الوصايا اللبنانية العشرة قد نزلَت عهدًا ثابتًا في كل مكان أقمتم فيه، كما استقرَّت وصمدت نذرًا كيانيًا مؤبَّدًا يؤكِّده تراب أرضنا الذي لم يكن يومًا بين أيديكم إلاَّ بمنزلة بخور كنائسكم ومذابحكم وقداديسكم، كما تبصم عليه صخورٌ استخرجتم منها جلول زرعنا وأغراسنا ومواسمنا بذات البرارة التي تستخرجون بها أسرار الأفخارستيا من طحين قمح حقولكم المُثقلة بسنابل بالحصاد الكثير والآهلة بفعلَةٍ لا يسنَّون شفار مناجلهم الرَّهيفة إلاَّ بمسامير سنَّت لوطننا شريعةً تقاربُ مساحته بمساحة الصَّليب، وصليب لبنان الرهبان هو الإشارة الفاصلة بين مفارق الطرقات الوسيعة ذات السهولة المؤدية إلى الهلاك، وبين مفارق الدروب الضيِّقة الوعرة التي لا يستحق سلوكها إلاَّ المؤمنون بأنَّ كلفة البقاء في أرض الآباء والأجداد رأسمالها الوحيد والموفور هو الصِّدقُ التام في تلاوة صلاة: “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”.. وكرامتنا!!
رهبان مارونيتنا اللبنانية
بحضرة الرب الكلّي الأبوة، ومارون المعتزل الأرضيات كي تمتلك رعيته السماويات، ويوحنا مارون المختار تاجه الأنطاكي على قياس جبله اللبناني، إننا نتقدَّم بكبير رجاء الأبناء بآبائهم قارعين أبوابنا البطريركية والأسقفية والديرية مؤمنين بأنَّكم أنتم الصَّرح الحصين الأمين.
المقصود الذي عناه الرب بآيته: “الراعي الصالح يعرف رعيته ورعيته تعرفه من صوتِه”، ونحن نعرفكم معرفتنا ببطاركتنا الشهداء وأساقفتنا الشهداء ورهباننا الشهداء وكهنة رعايانا الباذلين دماءهم وأعمارهم زودًا عن رعاياهم. أنتم اليوم يا آباءنا الرعاة الرادعين عنا الذئاب الخاطفة وقادتنا إلى ميناء الخلاص، لن نستلهم فيكم إلاَّ أنكم القائمون مقام الرب يسوع في زجركم الأمواج المعربدة والأعاصير القاصفة وشعبكم وَسطَ بحرٍ إقليمي أممي غضوب، وشعبكم في موضع التلاميذ القابعين في سفينة مشلَّعة عاجزة عن مصارعة الأمواج والرياح ومجابهة هاوية الغرق. ومَن غيركم يا مرتفعين إلى رتبة ملوكية ملكيصاق يمكنه التحكُّم بدفّة الربّان الحكيم؟ ومن غيركم يا حماة “القطيع الصَّغير” يمتلك موهبة وقوة وجرأة وعزيمة وقرار بحّارة المسيح وسط هذا الأعصار الوطني التدميري المرعب؟
من كل بيتٍ من بيوتنا وحيٌّ من أحيائنا وقرية من قرانا وبلدة من بلداتنا ومدينة من مدننا، نتطلَّع بنظراتٍ عصيَّة على الانكسار والخيبة، إلى قباب أجراس صرحنا البطريركي وقلاّياتنا الأسقفية وكنائسنا الرعائية وأديارنا الرهبانية، فنراها بأمٍّ العين والعقل والقلب منارات الأمان والإيمان والالتزام بوعد المعلِّم القدّوس: “سِيروا في النور ما دام لكم النور”، وأنتم نخبة مَن يقودوننا إلى منابع النور!!
رهبان لبنان والكيان
الزمن الضّاري يداهم منتظري السرّاب بدون هوادة، والوقت القاتل يتعامل مع المتردِّدين من دون رحمة، والسَّاعة القاهرة تغافل المتبصِّرين المُتريِّثين من دون أدنى تردُّد، وأنتم منذ كنتم نحن كنّا، وبدونكم الرهباني التاريخي المشهود له بارتجال أفعال الرجاء والأمل بأقسى أيام الخيبة واليأس والإحباط والانكسار، أنَّه لصعب علينا نحن شعبكم وأبناء أبوَّتكم الكبيرة القلب الواسعة الصَّدر أن نواجه هذا الزمن الطَّارئ العاتي الذي يدور بنا دورانًا متلاعبًا طاحنًا مرة كحجارة الشطرنج وأخرى كحجر الطواحين!
ها إننا نخاطبكم من أدياركم وكل دير منها كان يتَّسع لوطنٍ، ومن محابسكم وكل محبسة هي بوسع ملكوت. نخاطبكم من أول مطابع الشرق التي غيرُ منطقِ الرب لا منطقٌ بشريًا يستوعب كيف أبحرت من مرفأ إحدى دول أوروبا واجتازت مسافات البحار وعبرت إلى قزحيِّاكم داخل عواصي وادٍ لا ترفُّ فوقه إلاَّ أجنحة نور الشمس وأجنحة طير السماء، كما لا تطأ أرضه غير أقدام أصفياء الله القدوس جيرانًا يُقيمون في حسن جوار ومودة مع جميع ما خلق الخالق من حيواناتٍ تقطن تلك الأدغال والمغاور القزحيازية. حروف مطبعتكم “الغونتبرغية” شكَّلت السلاح الفتّاك الذي حسم معركة على جهلٍ ظلاميٍّ كلَّفه قادة الظلامية اعتقال العقول المتفتِّحة على ساحات الحرية ومساحات الفكر المصرِّ المصمِّم على الخروج من قماقم أدب وكتب حكايات الأنس والجن، كما اكتشف حبرها شعاعًا كحليّ الطَّبعة انبثق من شمس سماوية الكلمات إنسانية المعاني أشرقت بضياء المزامير وأمجاد مريم وبستان الرهبان إيذانًا ببدء انحسار وتلاشي زمن الجاهليات والغيبيات.
نخاطبكم مِن جيل أبيكم العام الأول المغبوط عبدالله قراعلي وما قَبلَ جيله وما بعده مخاطبتنا لمصباح رهبانيٍّ لا ينضبُ زيته من نذره النوراني الذي لولاه لكانت العتمة الكالحة سقفًا وحيدًا تلوذ إليه عقولنا المنقِّبة عن جذور الإيمان العقلاني القويم في شتَّى حقول ألغام البِدع والهرطقات الفاعلة في النفوس النقية والنوايا السليمة والمزايا البريئة ما تفعله المتفجِّرات الناسفة.
نخاطبكم من أبيكم العام الرهباني اللبناني الأول ميخائيل اسكندر الإهدني الذي اختبر المواجهة المضنية طيلة خمسة أعوام مع “روما من فوق” كما مع “روما من تحت”.. كي ينقذَ رهبانيتكم الناشئة الطريَّة العود والنيّة من بعض أصحاب سيادات هالهم أن تقع تيجانهم وصولجاناتهم الرئاسية وسلاسل صدورهم الذهبية ضحية التفاف شعبكم التفاف المعصم حول نفوسكم الذهبية ومعيشتكم الفلاَّحية التي انبثقت منها آية: “فلاًّح مكفي سلطان مخفي”، ولو استطاعوا هدم حصونكم الديرية لكان انهدم المُلك الأغلى في وجودنا اللبناني.
ونخاطبكم يا أعزاء قلوبنا وقدوة ثباتِنا أننا نخاطبكم مِن رهبنة وثيقة تلك «الرهنية» الإغناطوسية الداغرية التنورية الكليَّة الأبوَّة والمسيحانية التي لولاها لضاعت وثائق وفيات أجدادنا داخل مقابر موتهم جوعًا وتجويعًا.. قبور ضائعة المعالم منتشرة في مجهول حفائر أرض أهلنا الجائعين من طول ترابها إلى عَرضه وعمقه.
ونخاطبكم أخيرًا لا آخرًا من فتافيت كل رغيف شربليِّ فاضت علينا شبعًا زهديًا تقويًا ليس بغيره ننال حظوةً بخمير خبز الحياة وقوت الأرواح وعربون النَّعيم. ولا يسعنا يا رهبان قلوبنا وقدوة صمودنا وثباتنا إلاَّ أن نختم المخاطبة الوارفة الظلال التعليمية الرهبانية، نختمها من تحت كل سنديانةٍ ديرية دهرية كانت ذخائر مدارسنا اللبنانية، وقد دعاكم المعلم الأقدس كي تكونوا نسّاك صفوفها وعنصرة تعاليمها ورُسل كراريسها. ومهما جنحت برامج العلم إلى تطورٍ متسارعٍ وثوريَّة مهرولةٍ لا تستريح، تبقى سنديانات أديار رهبان لبنان مرجع أسفار الحكمة والرؤى والنبؤات!!
رهبانيتنا الرهبانية اللبنانية المارونية
شبيبتنا المحاصَرة حصارًا كاملاً بين أبواب الغد اللبناني الواعد إقفالاً مُحكَمًا بأقفالٍ صدئة مجنزرة، وأبواب دوائر جوازات السَّفر، وبين أبواب سفارات منح تأشيرات الهجرة، وأبواب طائراتٍ تسحبهم سحبًا شبه غاصبٍ من مطار بلادهم لتحطَّ بهم على أرض مطارات مصيرهم المستجِدّ المجهول. إنَّنا يا آباءنا وملجانا ورجانا، وبحقِّ لوعتكم ولوعتنا الحارقة على نزف نُخب صبايانا وشبابنا، نناشدكم وحدكم مناشدةً وجدانيّة وجوديةً، وأنتم الأجدر بثقة الأمانة، لأن تبادروا وتنادوا إلى انعقاد مجمعٍ لبنانيٍّ أكثر إلحاحًا من أهداف مجمع سيدة اللويزة عام 1736.. إنَّنا بصريح التعبير وأصدقه جرأة ووضوحًا نترجَّاكم رفعكم النفير الرهباني الإنقاذي العام إلى مستوى تحديد موعدٍ سريع طارئ يعيَّن تاريخ يوم انعقاد الجزء الثاني “لمجمع الشَّواديح”.. مجمع ليس له أدنى صلة بأسباب وغايات وأهداف ذلك المجمع الأول..
شعبكم الرهباني التاريخي يا رهبان لبنان رهن إشارتكم حاضرًا حضور حرّاس متأهبين عند باب مجمع شواديح آنيٍّ يستلهم روحيته من روحية “مغاوير” رهبان دير قزحيا الآباء الروحيين الأول لثورة الأرز، يوم انتفضوا لكرامتهم اللبنانية والراهبانية فمسحوا أرض سرايا إهدن برأس وصدر وأوسمة وهّيبة رستم باشا متصرّف سلاطين الباب العالي عصر 22 أيلول 1877 مسبحين مهللين مرتلين: “لا أعلى من أبوابك يا رب ولا أعلى من رأسك يا جبل أرز الرب”.. كما بذات روحية وبسالة “مغاوير” رهبان أديرة جبيل والبترون يوم احتشدوا داخل مقر قيادتهم العسكرية العامة في دير سيدة ميفوق وانطلقوا نهار 2 تشرين الأول 1877 إنطلاقة رجال أنطونيوس الكبير لدحر وهزيمة وإذلال أبالسة الإنكشارية العثمانية وتحرير أخوتهم رهبان دير قزحيا المجرورين بالسلاسل والحبال إلى زنازين سرايا بيت الدين، فمرَّغوا رؤوس العسكر العثملي بتراب وادي حربا وجسر المدفون وتلال تحوم..
كما ننتظر على رجاء خلاص لبناننا من سنواته الطويلة العجاف انفتاح أبوابنا الرهبانية على مجمع شواديح يشرف عليه ويعضده ويسانده روح قدس دير وجامعة كسليك “جبهة الحرية والإنسان” عامي 1975 ـ 1976، ومَن غيرُ رهباننا اللبنانيين يحرسون طريق جونية وعيون السيمان.. وسائر طرقات لبنان، فلا تكون في أي يومٍ من الأيام ممرًا إلى فلسطين وغير فلسطين!!
آباء وأخوة رهبانيتنا اللبنانية المارونية
لا عدوٌ خارجي ولا غاصب غريب يلحق بنا خطر التبعية أو الزوال بقَدْر ما يلحقه بعضٌ من مجتمعنا وبيئتنا ممّن اعتنق الذميَّة مذهبًا له وديانة ووثنية.. إننا ننشد معكم نشيدنا الأثبت الأبقى: “كلنا للبنان الأرز والعز والرهبان. كلنا لرهبان قبب الأجراس وقببِ السنديان وقبب القداسة وقبب أعالي لبنان. كلنا لقبة إسكيم شربل لبنان”!!
لكل راهب لبناني ماروني سليل رهبان “مماشي الصنايعية” في دير قزحيا. لكل راهب من رهبان حقولنا وقمحنا وخبزنا وكتبنا وزيت مصابيحنا وخمرة قداديسنا وميراث قديسينا: المجد لله يا معلمي!!!
كتب ميشال يونس في “المسيبرة” ـ العدد 1758
إقرأ أيضًا
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]