على مرّ تاريخها، منذ ما قبل إنشاء دولة لبنان الكبير الى يومنا هذا، عاشت بلاد الأرز في خطر داهم، وتعرضت القضية اللبنانية، وهي مدماك أساس لبنان الى انقلابات وتحديات. وجدت الهوية اللبنانية نفسها، تحت أنياب التدمير المنهجي، بعنوانه الأبرز: “استبدال الانتماءات الوطنية بأخرى عابرة للحدود”. لم ينعم “لبنان الدولة” باستقرار ثابت وطويل، ولم يعش اللبنانيون حلم القضية اللبنانية الجامعة، كما أرادها قسم كبير منهم، لفترات طويلة. ومع كل خضة، تقف القضية اللبنانية، ثابتة على مبادئها إنما أيضًا، عاجزة على تحقيق أهدافها الأساسية، إذ كانت التركيبات الداخلية الهشة تعيق هذه الورشة البناءة.
اليوم، وبعد التحولات الناجمة عن مواجهات أيلول 2024، وفرض بنود دولية على لبنان تطبيقها، هل يمكن القول إن اللبنانيين سيعيشون فعلًا، مفاعيل القضية اللبنانية التي ناضل واستشهد من أجلها الآلاف؟
ينتظر اللبنانيون التحول الجدي لـ”الحزب” ولفريق الممانعة، بالعودة الى كنف الدولة، للبناء عليه. حتى الساعة، تبدو كل “الإيجابيات” الكلامية، على شاشات التلفزيون، قرقعة شكلية لا تقدم ولا تؤخر، بعدما ذاق اللبنانيون “مرّ زيتون” هذا الأسلوب الذي يتبعه محور الممانعة لتقطيع مرحلة ما، بهدف إعادة عقارب الساعة الى الوراء، وإسقاط اللحظة السياسية التي يتعرض فيها لضغط شديد، بإعطاء الانطباع بأنه على استعداد للتعاون وتبديل مواقفه، على أن ينقلب على هذا الواقع وينقض عليه في اللحظة التي يراها مناسبة.
لكن، بالعودة قليلا الى تاريخ ليس ببعيد، من الضروري التوقف عند المواجهات الشرسة التي تعرضت لها القضية اللبنانية، من محاور لا قدرة لها على مواجهتهم.
بدأت الصفعة الأولى، مع المقاومة الفلسطينية من جنوب لبنان. مسألة كانت أكبر بكثير من قدرة لبنان وطاقته على تحملها. هنا، نتحدث بالتحديد عن محاولة دولة إقليمية السيطرة على الواقع اللبناني.
الخضة الثانية، تمثلت بمحاولة إلحاق لبنان بسوريا الأسد والسيطرة التامة على البلاد وإحكام قبضة النظام السوري على مساحة الـ10452 كيلومترًا، وهنا أيضًا نتكلم عن محاولة دولة إقليمية السيطرة التامة على الواقع اللبناني.
التحدي الثالث ارتبط بوضع اليد الإيرانية على القرار السياسي في لبنان، مترافقًا، كما في التحديين الماضيين، مع الخلافات اللبنانية الداخلية، حول ماهية لبنان وأي لبنان نريد؟ ومرة جديدة نتحدث عن محاولة دولة إقليمية السيطرة التامة على الواقع اللبناني.
فشل لبنان الهش داخليًا من التصدي للمحاور الثلاثة المذكورة، إذ كانت أكبر من قدرة أي طرف على معالجتها نهائيًا، ولأن لبنان الوطن دفع الثمن، دفعت القضية اللبنانية معه، فواتير باهظة من تقويض سلطة الدولة، وتغليب التحالفات السياسية التكتية على تلك الاستراتيجية، والانسياق إلى انتهاك الدستور وحكم القانون، وتحويل المؤسسات الدستورية الى مواقع نفوذ لزعامات طائفية، وأهم من كل ذلك، تمدّد تنظيمات مسلَّحة بأيديولوجية وأجندات غير لبنانيّة لضرب السيادة، وتكريس الاغتيال السياسي مسارًا للتطويع والترهيب، وترويعِ القضاء وانتهاك استقلاليّته، وضرب القرارات الدولية بعرض الحائط، مع مجاهرة وقحة بما معناه: “بلوها واشربوا ميتها”.
اليوم، وبعد كل هذا المسار التراجيدي، تتنفس القضية اللبنانية بعضًا من الأمل، فبعد خمسين عامًا من المعاناة والمناداة، استجاب المجتمع الدولي لأصوات اللبنانيين الأحرار الذين يرفعون القضية اللبنانية وينادون بها، ووجد آلية لتطبيق السيادة والقانون والدستور، تكون ضمانة لهذا المجتمع التعددي، الذي فرقته الأجندات والإملاءات الخارجية ولم يتمكن العيش المشترك بكل إيجابياته، من إعادة لحمته.
لم يعد ما نسمعه من تحولات لفظية لا تقدم ولا تؤخر يعنينا، ما هو مهم، وجود الآلية الدولية، لتطبيق قيام الدولة القادرة، الفاعلة والمستقلة. تأخر المجتمع الدولي في اتخاذ القرار، على الرغم من أن لبنان يشكل جزء لا يتجزأ من شرعيته ومن مجلس الأمن الدولي. نعم، تأخر في الاستجابة لنداء اللبنانيين التواقين الى العيش الكريم في كنف الدولة، بأن يرفع قبضة القوى الخارجية عن القضية اللبنانية وبأن يتدخل فعليًا وليس لفظيًا، لكن أن يتأخر الموضوع خير من الا يحصل أبدًا.
في هذا السياق، تؤكد مصادر سياسية عبر موقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني، أنه “للمرة الأولى منذ انهيار الجمهورية اللبنانية في 13 نيسان 1975، استجاب المجتمع الدولي للدعوات اللبنانية التي تقاطعت مع مصلحته الاستراتيجية بالحفاظ على الاستقرار الإقليمي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال ضبط الساحة اللبنانية”، وتضيف: “للمرة الأولى منذ ستين عامًا الى اليوم هناك آلية دولية تشكل الضمانة للقضية اللبنانية بمواجهة المحاور الخارجية التي تريد إلحاق لبنان بمحاورها وبساحاتها. وبالتالي منذ أن انتكست القضية اللبنانية وكبت ووقعت وتشلّعت، تحقق القضية اللبنانية للمرة الأولى أحد أهم أهدافها: الحياد بقرار دولي وتدويل لبنان بشكل عملي وواقعي”. وتختم المصادر، بأنه “يمكن الاعتبار أن لبنان دخل بشكل واضح مسار التعافي، بعد أن فرض المجتمع الدولي قرار منع تدخل القوى الخارجية وبطليعتها إيران والمحور الإيراني في شؤونه لبنان الداخلية”.