الحزب “سياسي” بعد أفول “العسكري”: قوَّة تعطيل أم قوَّة تفعيل؟

حجم الخط

الحزب السياسي

المشهد بعد الحرب أصبح واضح المعالم: لا سلاح في لبنان سوى سلاح الشرعية، والمواجهة الإسرائيلية مع إيران ستستمر فصولاً حتى إنهاء الدور الإيراني التخريبي في الشرق الأوسط وتخيير طهران بين تغيير دورها أو سقوط نظامها، ومع هذا التطوّر يكون البعد الخارجي للأزمة اللبنانية قد انتفى وانتهى للمرة الأولى منذ العام 1965، وسيتحوّل التركيز بعد ذاك إلى البعد الداخلي وتحديدًا، في المرحلة الأولى، إلى دور “الحزب” السياسي بعد أفول دوره العسكري، فهل يكون قوّة تعطيل أم قوّة تفعيل؟

ثمة أمور من الصعب تقديرها والحسم فيها لارتباطها بخلفية الفريق المعني ورؤيته لدوره ومشروعه، خصوصًا أن الدور العسكري لـ”الحزب” يشكل علّة وجوده، فمشروعه مرتبط بسلاحه، والجمهورية الإسلامية تتوسّل العنف والفوضى تحقيقاً لهدفها التوسعي، ولن يكون من السهل على الحزب الانتقال إلى الدور السياسي الكلاسيكي بعد انسداد أفق دوره العسكري، فهل سيتعامل بواقعية وبراغماتية مع المعطيات الجديدة، أم سيرفض الأمر الواقع الجديد ويعرقل مسار الحياة الوطنية والسياسية؟

الاحتمال الأول، قوّة إيجابية: تأسيسًا على تجربة العام 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان على وقع الضغط الأميركي والدولي والرعاية الأممية للمسألة اللبنانية، تعامل “الحزب” بواقعية مع هذا الحدث الكبير، فلم يعرقل عملية الانتقال من مرحلة ما قبل هذا الخروج، إلى مرحلة ما بعده، والسبب خشيته بطبيعة الحال من أن يتحوّل التركيز الدولي على سلاحه، فأراد تمرير هذا القطوع من خلال إظهار وجهه الإيجابي والمتعاون متحيّنًا الفرصة لقلب الطاولة، فافتعل حرب تموز 2006 بهدف تغيير مسار الأمور، وما كادت تنتهي الحرب حتى أسقط قناعه الإيجابي ودخل البلد في نفق مظلم لم تنتهِ فصوله بعد.

ولكن المقصود قوله إنه لم ينتحر مع خروج الجيش السوري، إنما قرأ المتغيّرات وتعامل معها، وعندما وجد فرصة للانقلاب لم يتأخّر، ولو لم يجد هذه الفرصة لكان انتظر توافرها، وبالتالي لا يفترض استبعاد أو إسقاط احتمال تسليمه بالمعطيات الجديدة، خصوصًا أن هذه المعطيات لا تنحصر بالساحة اللبنانية، إنما ترتبط بالدور الإيراني برمته، ما يعني أن قائدة المحور، أي طهران، ستطلب منه التعاون بانتظار أن تتكشّف الصورة النهائية للدور الإسرائيلي المدعوم أميركيًا والذي هدفه إنهاء النووي والدور الإيرانيين.

وأن يتعامل “الحزب” بانفتاح مع المرحلة الجديدة لا يعني تخلّيه عن مشروعه، ولكن طالما أن الظروف لا تسمح له بقلب الطاولة والعودة العسكرية، فإنه يتأقلم مع الأوضاع المستجدة، خصوصًا أنه بحاجة لفترة من الراحة والهدوء والتهدئة ليلتقط فيها أنفاسه وينظِّم صفوفه ويُبدي تعاونه وانفتاحه بهدف تلقي المال الخليجي لإعادة الإعمار، وهذا هدف استراتيجي بالنسبة إليه ليتجنّب النقمة الشيعية ضده.

أن يتعامل بإيجابية لا يعني أنه تخلّى عن مشروع الجمهورية الإسلامية العابر للحدود والرامي إلى توحيد الساحات، ولا يعني أنه أصبح مع مشروع الدولة ومع لبنان أولاً، إنما يعني أنه قرّر التعامل بواقعية مع الأحداث من خلال الانتقال إلى التبريد السياسي والإيحاء بأنه منفتح على المرحلة الجديدة، وعندما تسمح له الظروف الإقليمية والمحلية بالانقلاب على الوضع السياسي القائم ينقلب مجددًا.

الاحتمال الثاني، قوّة سلبية: أن يُعرقل المسار السياسي للبلد منذ اليوم التالي لانتهاء الحرب، فليس هناك ما يمكن أن يخسره أكثر من الخسارة العسكرية التي مُني بها، وسيحاول التعويض سياسيًا ما خسره عسكريًا، ويخشى من أن يؤثِّر التطبيع السياسي مع الأمر الواقع الجديد على حضوره ودوره، خصوصًا بعد فقدانه ثلاث أوراق أساسية:

الورقة الأولى، السلاح والتي تمنحه فائض القوة وتجعله في الموقع المتقدِّم على القوى الأخرى، وتشكل أساسًا علّة وجوده، فقوة الحزب أنه مسلّح، وأهدافه ترتبط بسلاحه، ولم يكن في أي يوم في حسابه أنه سيتجرّد من سلاحه، فالحزب نشأ مع السلاح والسلاح هو جزء من بنيته العقائدية وفكره السياسي وهدفه الذي يتحقّق بتوسُّل العنف.

الورقة الثانية، ما يُسمّى المقاومة التي تمنحه الوظيفة ومن دونها يفقد مبرِّر وجوده منذ نشأته إلى اليوم، فلم يعد هناك أي إمكانية لعمل عسكري ضد إسرائيل مع الترتيبات الجديدة.

الورقة الثالثة، التخويف من سلاحه والتي تجعل مؤسسات الدولة وقوى سياسية عديدة تحسب الحساب لهذا السلاح، ومن دونه تسقط عقدة الخوف لدى هذه الشريحة.

ويعتبر “الحزب” أن عامل الوقت لا يعمل لمصلحته، لأن الناس ستتجرّأ عليه أكثر بعد فقدانه هذه الأوراق، وبعد النكبة التي ألمّت به، ما يفسح في المجال أمام توسُّع حالات الاعتراض داخل البيئة الشيعية، وصعود التيارات المناهضة له، وهذا عدا عن تراجع تأثيره في السياسات الوطنية بعد خسارة ورقته العسكرية، وإدراكه أن التعامل معه كحزب سياسي سيختلف عن التعامل معه كحزب مسلّح، ومعرفته أيضًا بأن الانقلاب على الوضع الجديد أصبح شبه مستحيل مع الضوابط العملية الدولية على سلاحه ودوره، واستطرادًا الدور الإيراني الذي لن تنتهي المواجهة معه قبل أن يعدِّل في دوره، وإلا سيواجه السقوط الحتمي.

انطلاقًا من ذلك كله وغيره من العناصر التي تصبّ في الاتجاه نفسه، سيحاول “الحزب” الاستفادة من وهج سلاحه وصورته القديمة من أجل أن “يضرب الحديد وهو حامي”، فلن يتنازل مجانًا عن ورقة تعاونه السياسي، خصوصًا أنه ما زال يُمسك بكتلة وثنائية وتحالفات، ما يعني أنه سيبتز القوى السياسية عند أول مفترق له علاقة بانتخاب رئيس للجمهورية أو تكليف رئيس حكومة أو تشكيل الحكومة من خلال التشدُّد في مطالبه بهدف عرقلة مسار الدولة وتخيير خصومه بين ثنائيته المفضلة: التعطيل أو التجاوب مع مطالبه، وصولاً إلى مطالبته بتعديلات دستورية تعزِّز دوره السياسي.

اليوم التالي للحرب سيكون من دون سلاح سوى سلاح الشرعية، وهذا تطوّر تاريخي في الحياة الوطنية اللبنانية، ولكن ماذا لو رفض “الحزب” التعاون مع المرحلة الجديدة وهو يُمسك بالقرار الشيعي، والرئيس نبيه بري تجنّب وسيتجنّب الخلاف معه تلافيًا لنقل الخلاف إلى شيعي-شيعي داخل القرى والعائلات؟

ففي حال رفض “الحزب” أن يكون قوة إيجابية في اليوم التالي للحرب، فهذا يعني أنه قرّر نقل الأزمة اللبنانية من أزمة سلاح يسيطر على قرار الدولة ودورها، إلى أزمة دوره السياسي في المرحلة المقبلة، ولا يريد ترحيل هذه الأزمة إلى وقت آخر كون عدّاد الوقت بعد الحرب سيعمل ضده، ويعتبر أن ما يستطيع انتزاعه اليوم، سيفشل في انتزاعه غدًا.

الجميع يتطلّع إلى اليوم التالي للحرب، ولا شك أن هذا اليوم سيكون أفضل بكثير من اليوم الذي سبقه ومن المرحلة كلها الممتدة منذ العام 1990 إلى اليوم، لأن المساواة بين اللبنانيين تكون قد تحقّقت، والسؤال سيتمحور حوله النقاش: ماذا يخبئ اليوم التالي سياسيًا: انفراج أم تعقيد؟

شارل جبور ـ رئيس جهاز الإعلام والتواصل في “القوات اللبنانية”

 

كتب شارل جبور في “المسيرة” ـ العدد 1759

إقرأ أيضًا

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل