من الضروري جدًا مع اختلاط المفاهيم ومع اختلاق الممانعة تفسيرات لها مضلِّلة للجماهير المضلَّلة، ولأن أقل الإيمان قبل الاحتفال بذكرى استقلال لم يُنجز بعد، أن نوضح ونفسّر ونعرّف للمضلِّلين قبل المختلِقين المعنى العميق والسياسي لـ”الاستقلال”. تُجمع كافة المراجع على “أن الاستقلال السياسي Polititical Independence ينطوي على تمتّع الدولة بالسيادة، أي بما لها من سلطان تواجه به الأفراد داخل إقليمها وتواجه به الدول الأخرى في الخارج”.
كما يعني “الاستقلال” حرّية الشخص الطبيعية، أي عدم تدخّل الغير في شؤونه الخاصّة أو إشرافه أو نفوذه المباشر أو غير المباشر. وكما ورد في أحد المعاجم للمصطلحات القانونية “أن الاستقلال هو لفظة مؤلفة من البادئة السلبية “in” ومن “dependence”، بما يعني غياب التبعية”. وعندما يتعلّق الأمر بدولةٍ ما تستعمل الكلمة كمرادف للسيادة، وحق الدولة في أن تمارس بنفسها مجموع صلاحياتها الداخلية والخارجية بدون تبعية لدولة أخرى أو لسلطة دُولية، مع وجوب مراعاتها القانون الدولي واحترام التزاماته وتضمينها في قوانينها الداخلية.
انطلاقًا من المفهوم الحقيقي وتفسيراته الملائمة، تُطل الذكرى الـ81 لاستقلال لبنان الأول مع وصول حماوة الحرب الدائرة على الساحة اللبنانية بين القطبين الإقليميين إسرائيل وإيران عبر وكيلها “الحزب” الى أعلى درجاتها التوسيعية التصاعدية والتصعيدية، كما تُطل هذه الذكرى مع تلاشي مفاعيل الاستقلال الثاني والذي تحدد مساره ومصيره في الحركة المتصاعدة سلميًا معارضة للاحتلال السوري ومقاومة لنظامه الأمني في لبنان، والتي ساهم فيها كوكتيل وطني سيادي من كل الطوائف والشخصيات والأحزاب، أدّت الى ما سُمّيت عن حق انتفاضة الاستقلال واستكملت من دون أن تكتمل بانسحاب الاحتلال السوري من لبنان.
غني عن التأكيد على أن استقلال 22 تشرين الثاني 1943 لم يكن منفصلاً عن ظروف ومواقيت وأحداث ورافعات تاريخية محلية إقليمية ودولية ومخاضات عبّدت طريق ولادته والاعتراف بالدولة المتمتعة به وبسيادتها على أراضيها بالحدود المعروفة والتي اعترف بها دوليًا.
بالتوازي، فإن ما تعرّضت له جمهوريات الاستقلال الأول المتعاقبة بعد هذا التاريخ من محطات وظروف وأحداث، قوّضت هذا الاستقلال بعوامل داخلية وخارجية بعيد نيله مع نكبة فلسطين عام 1948 وما تلاها من نكسة 1967 واتفاق القاهرة 1969 وأيلول 1970 واتفاقية ملكارت 1973، وصولاً الى الحرب في العام 1975 وتداعياتها وتعاقب وتنوّع الاحتلالات والهيمنات من فلسطينية وسورية وإسرائيلية وداخلية بالوكالة على قرارات ومؤسسات الدولة.
لقد وُلد الاستقلال الثاني بعد الانسحاب السوري في 26 نيسان 2005 وكان مرتبطاً مترافقاً ومسبوقاً بـ”ظروف ومواقيت وأحداث ورافعات تاريخية محلية إقليمية ودولية ومخاضات عبّدت طريق هذه الولادة في اللحظة المناسبة، التي نسمّيها اصطفاف الكواكب مع بعضها”. فبالإضافة الى اختمار ونضوج الفكرة السيادية محليًا مسيحيًا وإسلاميًا ودرزيًا كان لتمادي النظام الأمني السوري اللبناني بارتكاباته وتجاوزاته وتعدياته واعتداءاته، وتوتر علاقاته مع الدول المعنية اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، المساهمة الأكبر في إنضاج الغطاء والمواكبة الدولية التي تجسدت في قمة النورماندي في 4 حزيران 2004 بين رئيسي الولايات المتحدة الأميركية جورج بوش وفرنسا جاك شيراك، والتي مهدت للقرار 1559 وبداية الاهتمام الأميركي الأوروبي والعربي مع حزمة الضغوط والعقوبات على المحتل ونظامه في لبنان، والتي أدت بعد خطيئة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانتفاضة 14 آذار الى سحب الجيش السوري من لبنان..
طبعًا الجميع يعلم ومتأكد بأن وريث النظام السوري المتمثل بـ”الحزب” بوكالته عن الإيراني اعتمد نفس أسلوب ومضمون احتلالات ومنظمات ما بعد الاستقلال الأول تقويضًا للاستقلال الثاني من هيمنات وفرض إرادات وإدارات حزبه على مؤسسات الدولة، من حرب تموز 2006 وإقفال الطرقات والاعتصامات في وسط بيروت والتظاهرات، و7 ايار و11 أيار والقمصان السود، وتعطيل مجلس الوزراء وفرض الثلث المعطّل فيه وانتزاع التوقيع الثالث عبر وزارة المالية، ومصادرة مجلس النواب وتعطيل الإنتخابات الرئاسية والبلدية، والهيمنة على القضاء بوهج سلاحه، والتهديد بقبع المحقق العدلي في قضية تفجير المرفأ القاضي طارق البيطار، وصولاً الى ما نحن عليه اليوم من احتكار لقرار الحرب، من دون سلوك أي طريق من طرق السلم، والتي يبدو أنها متجهة بخطى حثيثة وسريعة نحو النموذج الغزاوي القاتل والمدمّر والمنتهك للأرض والكرامة والعرض.
أمام مأسوية ما يتسبب به النظام الإيراني عبر حزبه في لبنان من استجرار للدمار والقتل، وأمام خطر استبدال احتلاله باحتلال أسوأ، ولأن اللحظة، المرجو أن لا تتأخر باتت ملائمة ومناسبة “تصطف الكواكب” محليًا شعبيًا سياسيًا جزء منه “رسميًا”، عبر نضوج فكرة السيادة المطلقة للدولة على أراضيها عبر مؤسساتها الشرعية وقواها الأمنية وعلى رأسها الجيش اللبناني، ونضوج فكرة ضرورة احترام وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة وعربيا، عبر ما صدر مؤخرًا عن القمة العربية الإسلامية، وما تعبّر وتجمع وتعمل عليه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية عبر وسيطها، لنستبشر مع هذا الاصطفاف الملائم أن يغيب كل انتقاص لهيبة وسيادة ويتعزز دور المؤسسات وانتظامها وتحترم فيها المواثيق والاتفاقات والقرارات المحلية والعربية والدولية، وتنفذ كل أحكام القانون والدستور على جميع المكوّنات الطائفية والحزبية والنقابية والأهلية من دون تمييز أو تفرقة أو إجحاف، عسى أن يكون الاستقلال هذه المرة في نهاية المطاف والمخاض “الثالث الثابت”.
كتب أنطوان سلمون في “المسيرة” ـ العدد 1759
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]