ابراهيم الزيز هو شخصية هزلية مشهورة في تاريخ بلاد جبيل القريب، يعاني من اختلال عقلي، وينام بين المقابر من دون ان “يشّم ريحة وِحشة”، والأنكى انه يتمتّع بـ “أنا” متضخمة جداً بحيث انه لم يكن يرى ما في نفسه من خللٍ وشوائب وعورات، مبادِلاً كل من يحاول انتقاده وانتشاله ممّا هو فيه، بالرجم والشتم والاسقاطات التي لم تكن تنطبق الا عليه وحده، حتى بات ابراهيم الزيز مضرب مثل لكل من هو على شاكلته.
حاشى ان تكون المدعوة رلى ابراهيم تُشبه ابراهيم الزيز، مع انها تعمل مستكتبة في جريدةٍ تتبع لمحورٍ يعيش بين السجون والقبور، ومحاصر بين شمال الليطاني وجنوب الأولي، ويعاني كل انواع العزلة والعقوبات والتقوقع السياسي والمذهبي والستراتيجي والعربي والدولي، مستجبلاً الموت والدمار والفشل اينما حلّ، ومع ذلك لا “يشم اي ريحة وِحشة”، ولا يخجل من نفسه، بل على العكس تماماً يرى نفسه دائماً أنه هو الصح، وهو “الإلهي” وهو المنتصر، رامياً كل ما هو فيه من قوقعة وفشل استراتيجي واخفاقاتٍ انسانية وسياسية واقتصادية واجتماعية وتكنولوجية، على كل من يحاول ان يرشده الى طريق القانون والصواب والحق والدولة، والانفتاح داخلياً وعربياً ودولياً وحضارياً.
آخر ابداعات رلى ابراهيم الزيز ما استكتبته اخيراً من مقالٍ في “جريدة” الأخبار بعنوان “جنبلاط يتولّى إحباط جعجع”، الذي يُشبه الزيز في ازعاجه للناس بمواويله وحشرجاته التي يكررها دون ملل وكلل، فيما كل الأمور المستقبلية افلتت من يده دفعة واحدة، لصالح من عمل بكل كد وتعب وجد على الخط القويم، طيلة المرحلة الماضية.
تبدأ رلى ابراهيم الزيز مقالها بالقول ان جنبلاط يتولّى دوراً كبيراً في إخماد أحلام سمير جعجع، وتختمه بالقول ان جعجع يبرع في ممارسة القوقعة!
اذا كان جنبلاط يتولّى دوراً كبيراً في اخماد احلام جعجع، بحسب ما تدعّيه الكاتبة، فهذا يعني بأن جعجع لديه احلام كبيرة تتناقض مع مفهوم القوقعة اصلاً، وثمّة من يريد اخمادها له، وقوقعته. فكيف يكون جعجع هو الذي يبرع في ممارسة القوقعة، فيما هذه القوقعة هي التي تُمارس عليه؟
لذلك كان من الحري بـ رلى ابراهيم الزيز ان تُضيف الى مقالها ايضاً بأن “النظام الأمني الاسدي-اللبناني” تولّى سابقاً دوراً اكبر بكثير في إخماد طموحات جعجع ومحاصرته سياسياً وامنياً، وتركيب الملفات الأمنية له وصولاً الى اعتقاله في زنزانةٍ انفرادية، ثم تستنتج قائلةً: لذلك فهو برع في “ممارسة القوقعة” عام 1994، كما يبرع في ممارستها اليوم!
القوقعة القسرية التي فرضها نظام الأسد وعملائه على الدكتور جعجع سابقاً، انتهت الى ما انتهت اليه الأمور اخيراً، فالأسد صار ارنباً يهرول في سهول روسيا، وعملائه الصغار صاروا ايتاماً يتبرأون من اولياء نعمتهم السابقين، ويبحثون عن ام واب آخرين بالتبنّي، فيما الدكتور جعجع والقوات اللبنانية في رحاب الشمس والنور والمجد والحرية والافاق العربية والدولية الواسعة، والانتصارات.
وهذا ما ستؤول اليه ايضاً اي محاولة عزلٍ ومحاصرة مفترضة من قبل بقايا الأسد والفاسدين والمستفيدين والوصوليين، تجاه القوات اللبنانية اليوم في لبنان.
اما بعد، ليست المشكلة في ان جعجع “يبرع في القوقعة”، بل في ان تحالف السلاح والفساد المدعوم سابقاً من نظام الأسد، معطوفٌ عليهم مجموعة من الوصوليين والرماديين والمنخرطين في منظومات الفساد والمحسوبية، يحاولون بكل ما أوتوا من قوة محاصرة وعزل كل من لا يُشبههم، وكل من لم يتورّط معهم في ارتكاباتهم، وكل من يُذكرّهم، بسلوكه السياسي النظيف، ومواقفه الوطنية وعقليته الاصلاحية النزيهة منذ اتفاق الطائف حتى اليوم، بكل ماضيهم الفاسد وحاضرهم الأفسد ومستقبلهم السيء.
هل المطلوب من سمير جعجع ان يعقد التفاهمات المتناقضة، ويُبرم التسويات في كل الاتجاهات كما فعل ميشال عون للوصول الى الرئاسة، حتى يكون غير متقوقع مثلاً؟
هل المطلوب منه ان يُجري تحوّلا في طبيعته الاساسية حتى يرضى عنه البائسون والفاسدون والرماديون والوصوليون والمتقلبّون والعملاء، فيكفّوا عن محاولات عزله ومحاصرته، لأنهم يكرهون الصوت الصارخ بالحق والحقيقة والحرية، كما كانت هيروديا الفاسقة تكرهه؟
اين اوصلت سياسة “الانفتاح” و”عدم التقوقع” والهروب من الحقيقة تلك؟ اوصلت الى انهيار الدولة وافلاسها وغياب المحاسبة والنزاهة والشفافية، والى ثورة 17 تشرين.
القوقعة التي تتكلم عنها رلى ابراهيم الزيز هي المبدئية بحد ذاتها، وهي التمسّك بـ “اهداب” الدستور والقوانين اللبنانية التي التزم بها الدكتور جعجع منذ الطائف كونها الطريق الأسلم، والأضمن، والأكثر استقامة، حتى لو كانت الأكثر تكلفةً تكتيكياً عليه وعلى القوات اللبنانية، خصوصاً في ظل نظامٍ اراده الأسد وحليفه حزب الممانعة، ان يقوم على الغش والفساد والمحسوبية والسلاح غير الشرعي، حتى يؤمن لهما الغطاء الشرعي والضروري وغير المؤقت لبقائهما في لبنان.
وهذه القوقعة هي رفض المساومة على الأساسيات، وهي الاستقامة بحد ذاتها، التي قد تُخسّر القوات اللبنانية سياسياً على المدى المنظور، لكنها تُربحها وتُربح لبنان على المدى الطويل.
هذه الاستقامة التي تدعوها رلى ابراهيم الزيز بـ “القوقعة”، تستجلب للقوات كل انواع العداوات ومحاولات العزل والمحاصرة وتلاقي الاضداد من الفاسدين والمفسدين والعملاء والمستفيدين الذين يخشون على مصالحهم ووجودهم من صعود القوات اللبنانية ووصولها الى الحكم، لذلك يحاولون القوطبة من هنا، وقطع الطريق من هناك، والتكتل من هنالك، والاستدارة في كل الاتجاهات من هنا وهناك وهنالك… ولكن فلتطمئن رلى ابراهيم وامثالها لأنه في نهاية المطاف لن يصح الا الصحيح.
اذا اراد جنبلاط دعم العماد جوزف عون فهذا لا يُضيرنا بشيء على الاطلاق، بل على العكس تماماً، فقائد الجيش هو احد الأسماء الرئاسية البارزة على الساحة اللبنانية والعربية والدولية، قبل ان يُعلن جنبلاط تأييده له بفترةٍ طويلة جداً، والقوات سبق لها في محطاتٍ عديدة ان اعلنت ان العماد جوزف عون هو مرشح طبيعي ومقبول لديها لرئاسة الجمهورية، ولكن المطلوب هو إيصال المرشح الذي تدعمه القوات او سواها الى سدة الرئاسة، لا مجرد طرحه لحرقه، وإثارة العوائق والمطبات السياسية والميثاقية والدعائية في طريقه، تحت شعار تأييده.
من جهةٍ ثانية، على المستعجلين لإيصال رئيسٍ كيفما كان الى سدة الرئاسة بموجب التزاماتهم تجاه هوكشتين اولاً، وبموجب رغبتهم بإبقاء قديم السلاح والفساد واللاموقف على قِدمه، ان يتفقّوا هم فيما بينهم على مرشح اولاً، قبل ان تتفق المعارضة على مرشّحها. التخبط واضح لدى فريق الممانعة بهذا الصدد، فهل ما يزال فرنجية هو مرشح الثنائي؟ ام ان هناك مرشح آخر سواه؟ الرئيس بري يفاوض مع باسيل على مرشح آخر، فيما نواب من الحزب يعلنون ان مرشحهم ما يزال فرنجية! هل يمكن لرلى ابراهيم الزيز ان تُطلعنا على هوية المرشح الرئاسي الذي اتفق عليه محور الممانعة، قبل ان تسأل المعارضة غير المستعجلة اصلاً بإيصال رئيس كيفما كان، عن مرشحها؟
اذا اعلن جنبلاط تأييده لقائد الجيش، فهذا لا يحرق ورقة جعجع الرئاسية، لأن جعجع ليس مرشحاً اولاً، ولأنه سبق واعلن في محطات عديدة بأنه لن يعلن ترشيحه من تلقاء نفسه ولن يعقد تسويات وتفاهمات جانبية لتسويق ترشيحه، بل فقط اذا طالبته كتل نيابية وازنة بذلك، ومن دون اي التزامات مسبقة بالمقابل.
لذلك فإن تأييد جنبلاط للعماد جوزف عون يحرق مرشح التهريبة الذي يحاول احد اركان الثنائي التوافق عليه مع باسيل، ولا يحرق “مرشحاً” ليس مرشحٍ اصلاً.
امّا بالنسبة لعدم فهم “الزعماء المسيحيين” للتحولات الستراتيجية في المنطقة، فهذا بكل اسف ينطبق على محور الممانعة ككل بما فيه “زعاماته” المسيحية، وهو الذي يعيش القوقعة السياسية والستراتيجية والمذهبية بأبهى حللها بعد فشل كل خياراته الخنفوشارية.
اما الدكتور جعجع الذي تعرّض لشتّى انواع القصف الاعلامي والسياسي والمحاصرة والعزلة السياسية لأنه دعم ربيع الشعوب العربية، وناصر المظلومين في سوريا، ونسج افضل العلاقات مع الدول العربية والخليجية، فهو يعيش عصر الانفتاح العربي والدولي الذهبي، لو مهما حاول بقايا النظام البائد وبعض ابواقه في لبنان، محاصرته بمقالٍ بائس متقوقع من هنا، وحرتقاتٍ صغيرة من هناك.