الى السيد أحمد الشرع: موضوع “التقاسم الطائفي”

حجم الخط

ممّا قاله القائد العام للإدارة الجديدة في سوريا السيد أحمد الشرع خلال لقائه بالأستاذ وليد جنبلاط أخيرًا في دمشق: “ندعو بالنصح والحب والود الى أن يخرج لبنان من حالة التقاسم الطائفي الى حالة توزيع الأدوار على الكفاءات… لأن تقاسم السلطة الذي يحصل في لبنان لن يؤدي الى بناء”.

ونحن بنفس الود والاحترام والمحبة نوضح للسيد أحمد الشرع ما يلي:

إن التقاسم الطائفي في لبنان هو مبدأ تأسيسي للدولة اللبنانية يُعرف بـ”الطائفية السياسية”، ولا يمكن الخروج عنه الا عبر إعادة النظر بكل تركيبة الدولة اللبنانية من أساسها، وهو مبدأ تعود جذوره التاريخية الى نظام الملل العثماني الإسلامي، والى بروتوكول متصرفية جبل لبنان سنة 1861 الذي كرسّته الدولة العثمانية بالاتفاق مع الدول الخمس الكبرى حينها، وبالتالي فهو مبدأ تاريخي ودستوري ومجتمعي وديموقراطي وشرعي ومتجذّر في لبنان، وليس موضوعًا طارئًا أو إشكاليًا في الحياة السياسية للبنان، إلاّ لمن كان يرفع شعار “الغاء الطائفية السياسية”، ليس للإتيان بالكفاءات وتحقيق المساواة وظيفيًا و”طبقيًا”، بل لمجرد الاستقواء بلغة العدد والسلاح داخليًا وخارجيًا على المسيحيين، ومحاولة فرض إرادته الآحادية على بقية اللبنانيين، وإقامة نظامٍ سياسي “فوقي” مفروض على المجتمع التعددي من فوق، أسوةً بالأنظمة السوفياتية والالحادية والشمولية السابقة، وتشريع احتلال المنظمات الغريبة، ولاحقًا الاحتلال الأسدي للبنان، ممّا كان سيؤدي الى مزيدٍ من القهر والظلم والاستبداد والآحادية، تحت يافطة “الغاء الطائفية السياسية”، والغاء “التقسيم الطائفي”.

علمًا أن الميثاق الوطني بين المسلمين والمسيحيين لسنة 1943، والذي هو بمثابة عقدٍ اجتماعي تأسيسي لدولة لبنان الكبير التي نشأت عام 1920 بعد تجربة متصرفية جبل لبنان، قد أنتج بموجبه صيغة توزيعٍ للصلاحيات الدستورية والمواقع السياسية والإدارية داخل الدولة اللبنانية بين المسلمين والمسيحيين انطلاقًا من الجذور التاريخية لنظام الملل العثماني الاسلامي، وانتج بالتوازي صيغةً دستورية فريدة يتميّز بها لبنان عن سواه في الشرق هي “الديموقراطية التوافقية”، التي هي بمثابة الترجمة العملانية لمبدأ تعددية المجتمع اللبناني، وانعكاس هذه التعددية على شكل السلطة السياسية وتوزيع الصلاحيات والمواقع فيها.

ولمّا كانت البنية المجتمعية للبنان تتألف من طوائف متعددة، لذلك جاء هذا التقسيم الطائفي، متوازنًا ومتناسبًا ومتساويًا بين طوائف لبنان الـ18.

وتاليًا، فإن الخروج من “حالة التقاسم الطائفي”، تعني خروجًا من حالة “العقد الاجتماعي” التأسيسي بين المسيحيين والمسلمين وذهاب الأمور في لبنان باتجاهات ثلاث:

أولًا، العلمنة الشاملة أي فصل الدين عن الدولة، وهذا ما ترفضه الغالبية الاسلامية من منطلقاتٍ دينية وشرعية.

ثانيًا، الغاء الطائفية السياسية، وهذا يؤدي الى تغليب منطق الغالبية العددية على منطق التوافقية والتعددية ومنطق الكفاءة، وهو يتناقض أساسًا مع طبيعة المجتمع اللبناني التعددية، ويعني تحويل التعددية على مستوى المجتمع، الى آحادية على مستوى السلطة، فيما المنطق الجدلي الدستوري الديموقراطي السليم يفترض بأن تكون السلطة السياسية مجرد مرآةٍ وانعكاس لطبيعة المجتمع وتكوينه وتعدديته وثقافاته المتنوعة، لذلك يرفض المسيحيون مع سواهم من اللبنانيين منطق الغاء الطائفية السياسية.

ثالثًا، إعادة النظر بشكل الدولة اللبنانية الموحّد، والذهاب نحو الدولة المركبة الاتحادية والصيغة الفدرالية، وبذلك يتم إخراج التقاسم الطائفي من النصوص الدستورية والأعراف الميثاقية ضمن دولةٍ مركزية موحدّة كما هو الحال اليوم في لبنان، ووضعها ضمن وحداتٍ جغرافية مجتمعية مستقلّة، ولكن ضمن دولةٍ لبنانية لامركزية مركبّة جديدة.

إن التقاسم الطائفي في لبنان، والذي يُعبّر عن نفسه عرفيًا ودستوريًا أيضًا بـ”الديموقراطية التوافقية” هو مفهوم دستوري غربي متطور جدًا، ولا ينّم عن رجعية أو طائفية أو تخلّف كما يعتقد البعض، وقد استوحاه المنظرّون الدستوريون الغربيون من التجربة اللبنانية بالذات، وذلك بعدما أصبحت بعض الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية عُرضّة للديموقراطية “المتوحشّة”، بحيث لم تعد تلك الديموقراطية تفي بالمطلوب منها، باعتبارها ادّت الى سلب المجموعات والأقليات الطائفية والاثنية والعرقية والثقافية ارادتها السياسية لصالح تحّكم الأكثريات، تحت عنوان الديموقراطية.

لذلك تم ابتداع مفهوم “الديموقراطية التوافقية” في الدول التي تتكّون من مجتمعاتٍ تعددية، كبلجيكا وسويسرا وسواها، للحفاظ على خصوصية تلك المجموعات والأقليات، والحؤول دون سلب إرادتها السياسية من قبل الأكثريات، وهذا ما نتمنّاه لسوريا الجديدة بكل مودّةٍ ومحبةٍ واحترام.

المشكلة التي يعاني منها لبنان ليست مشكلة توزيع طائفي على الاطلاق، فلبنان كان يُعتبر بمثابة “سويسرا الشرق” مباشرةً بعد الاتفاق على تطبيق صيغة التوزيع الطائفي فيه سنة 1943، وطيلة عقودٍ عديدة من بعدها، بل هي مشكلة التدخلات الخارجية السلبية بالشؤون اللبنانية وخصوصًا تدخلات نظام البعث منذ وصوله الى السلطة في سوريا، بالإضافة الى رفض بعض اللبنانيين الالتزام بموجبات الميثاق اللبناني، خصوصًا لجهة “حياد لبنان” عن الصراعات الخارجية، وهو ما أدّى الى انفجار الأوضاع عسكريًا في لبنان ووقوع الحرب فيه.

ولو أن اللبنانيين احترموا الميثاق وصيغة التقاسم الطائفي في لبنان وموجباتهما التوافقية والحيادية والسيادية لبقي لبنان سويسرا الشرق حتى اليوم، ولما تمكّن نظام الأسد من التدخل في شؤونه، والمساهمة بإنشاء حزب الممانعة وتقويته حتى يعود ويساعده لاحقًا في تثبيت نظامه داخل سوريا حتى سقوطه، لا أسفًا عليه، أخيرًا.

كما أن المشكلة الراهنة في لبنان، ومنذ عام 1990، أي تاريخ التوقيع على اتفاق الطائف وانهاء الحرب في لبنان، هي مشكلة التطبيق الأسدي الأعوج لدستور الطائف الذي بالمناسبة أعاد تثبيت صيغة التوزيع الطائفي في لبنان، برعايةٍ سعودية وأميركية ودولية، وذلك بعدما كان جزءٌ من هذه الصيغة هو مجرد أعرافٍ غير مكتوبة سنة 1943.

ومن بين هذه التطبيقات العوجاء لاتفاق الطائف اللغم الذي زرعه نظام الأسد في الداخل اللبناني تحت شعار “مقاومة إسرائيل”، والذي تمكّن بموجبه حزب الممانعة من الاستحواذ على السلاح، بحيث عمل النظام الأسدي مع محور الممانعة على بناء شبكة من المصالح بين مجموعةٍ من الفاسدين والمستفيدين والوصوليين لتغطية هذا السلاح في مقابل استحصالهم على الحماية وعلى المال والصفقات والخدمات، وهو ما أعاق تقدم الدولة وازدهارها، وعرقل النمو الديموقراطي الطبيعي للبنان، ومنع تداول السلطة بشكلٍ مرن وتلقائي، وأدّى الى تأجيج العصبيات الطائفية والمذهبية، وعدم استقرار لبنان، ومنع المحاسبة وأعاق عمل القضاء، وأدّى تاليًا الى هجرة الأدمغة ووصول عددٍ كبير من المحاسيب والفاسدين والمستزلمين الى مواقع المسؤولية، بدل وصول الكفاءات.

لذلك فموضوع التقاسم الطائفي لا يُشكّل أي مشكلة في لبنان، فالفاسد والعميل وغير الكفوء لا طائفة له، تمامًا مثلما أن الكفوء والنزيه والشريف يمكن أن يكون مسيحيًا ويمكن أن يكون مسلمًا أو درزيًا.

كما أن الفاسد يمكن أن يصل الى موقعه في ظل عدم وجود تقاسم طائفي، تمامًا مثلما أن الكفوء يمكن أن يصل الى هذا الموقع في ظل وجود تقاسم طائفي، فالعِبرة هي في مبدأ قيام دولة لبنانية سيدة حرة مستقرة خالية من أي سلاحٍ غير شرعي، حتى لو في ظل النظام القائم فيها حاليًا، أي نظام الطائف، وفي ظل الصيغة المعمول بها حاليًا أي صيغة التوزيع الطائفي، وهذا ما كان نظام الأسد يمنعه في لبنان.

من هنا، فإن صيغة “التقاسم الطائفي” هي الحل للكثير من المشاكل، اللهم إذا اُقيمت دولة فعلية خالية من السلاح في لبنان وتم احترام هذه الصيغة بكل جدية، باعتبارها تحافظ على وحدة لبنان، كونها توزّع المواقع والصلاحيات بالتناسب والتساوي بين الطوائف المجتمعية اللبنانية المتنوعّة، وتحول بالتالي من دون تفجّر الأوضاع الداخلية بين هذه الطوائف، خصوصًا أن مبدأ التقاسم الطائفي لا يتعارض بتاتًا مع مبدأ الكفاءة كونهما يشكلان وحدتا قياس مختلفتين تمامًا، بل ان هذا المبدأ يخدم الكفاءات ويُشجّع التنافس الايجابي بين الطوائف لتقديم أفضل ما لديها من مهارات.

وبالمقابل فإن تغليب منطق العدد بفعل الغاء التوزيع الطائفي، قد يؤدي الى تهميش الباقين واستبعادهم عن المواقع باعتبار أن المجموعة الأكثر عددًا هي التي ستقبض على الدولة وستُحيك الدستور والقوانين على قياسها وحدها، مما قد يدفع الباقين لليأس من الدولة والهجرة الى الخارج، وهو ما يُفقِد لبنان رونقه وتميّزه وتعدديته وتنافسه الإيجابي بين الطوائف، ويُصبح شبه دولة على غرار ما كانت عليه سوريا في عهد آل الأسد.

من هنا فإن تصويب المفاهيم والمصطلحات السياسية والدستورية الأساسية هو أول حرفٍ من أبجدية المقاربات الموضوعية، والاستنتاجات الدقيقة، والقرارات الصائبة.

وفي الختام، ما نعوّل عليه، بكل مودة ومحبة واحترام، هو أن تقتدي سوريا الجديدة بلبنان الديموقراطي التعددي المستقل الحر، أقلّه على مستواه الدستوري القانوني النظري، بانتظار تحقق ذلك بالتطبيق قريبًا إن شاء الله، لا أن يصبح لبنان الجديد نسخةً عن سوريا الأسد القديمة.

فاقتضى التوضيح.​
إقرأ أيضًا

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل