الميلاد في ضيافة الصامدين.. أهالي القرى الحدودية: ميِّل يسوع

حجم الخط

الميلادالميلاد

تقرع أجراس الميلاد، على رغم النار والبارود والدمار ومظاهر الموت الفاقعة. لا أحد، لا إنسان، لا متسلِّط، لا جبروت، لا محتلّ، لا عميل، لا أشدّ الأسلحة فتكاً، يمكنها التصدي لنعمة الحياة، لميلاد يسوع المسيح الإله. هنا في تلك الأرض الغامرة بالمسيح، في ما تبقى من القرى الحدودية الصامدة، يولد الطفل الإله من جديد، على وقع التفجيرات المحيطة، وأيضًا على طنطنة أجراس الميلاد المجيد.

وكأنها “غربة” تقف عند الباب تنتظر فاتك المتسلّط ليموت على أيدي الأهالي الصامدين، عند أبواب البلدات الصامدة. صحيح تموت غربة لكن تحيا الضيعة والمدينة وبلد الأرز، وفي تلك اللحظة بالذات تولد الحياة وتقرع أجراس الميلاد. لبنانيون صامدون في أرض النار والبخور، يقتلون بالصمود والحياة مظاهر الموت المتسلّط على حياتهم، ويحتفلون بميلاد الرب من قلب موت البشر والأشياء والمقوِّمات.

هذه سوريالية غير مسبوقة يعيشها اللبنانييون الصامدون في بعض قرى الشريط الحدودي. معقول أن يولد المسيح بعد هناك؟ هل تبقّى له مزود حقير من قش وتبن طري؟ هل لديه زريبة حيوانات وبقرة وخروف وحمار ينفخون بوجهه لينعم بالدفء؟ أصلاً كيف اهتدى مار يوسف والعذراء مريم الى بيت لحم هنا، وسط كل ذاك الهول المدقع بفقر الإيمان وروح السلام؟!

“على رغم كل شي، نتحضّر للعيد. أول ما بيسمحولنا نطلع خارج الضيعة، بينزلوا أصحاب المحلات وبيشتروا الزينة والألعاب والتياب، إضافة طبعًا للطحين والمؤن الأساسية وحتى مأكولات العيد. مصرّون أن نعيش زمن الميلاد للآخر”، يقول غابي الحاج منسق بلدة رميش الحدودية المحاصرة.

تقرع أجراس الميلاد هناك على رغم النار والبارود وحصار مشهدية الموت. من قلب الموت يأتي ميلاد الرب ليحيي الإنسان، هي رمزية استثنائية تعلن أن ثمَّة ولادة دائمة من رحم الأفول والأحزان. لا يغيب يسوع ولو غاب بابا نويل. هو لن ينزل من داخون المدفأة ليوزع الهدايا والفرح الطفولي المجاني، إذ قد يتعرض لقصف صاروخي مباشر ظناً أنه جاسوس ما، أو إرهابي ما، أو ما شابه. لكنّ المزود الحقير البارد سيضخ دفئاً غير اعتيادي هذه السنة، على القرى المدمّرة قبل تلك الصامدة، ليعلن على الناس الحياة، على رغم مَن اعتنق ثقافة الموت ومن حوّل الجنوب الى مقبرة للبشر والحجر.

“إن الله راد رح نحتفل بالميلاد بشكل طبيعي، وأصلاً جراسنا بتضل تدق، حتى في دبل وعين إبل يقرعون الأجراس كل أحد ليعلنوا الحياة وحتى يقولوا للناس إنو نحنا لو مش كلنا بالضيعة لكن قراب كتير ورح نضل نطل عليها”، يقول الحاج.

الى بلدة رميش نزح غالبية أهل بلدة دبل، وما تبقى فيها إلا نحو 120 شابًا لحراستها، بينما نزحت أكثر من 85 عائلة من عين إبل الى رميش، والكل يعيش معًا كأنهم عائلة واحدة تنتظر تلك اللحظة المجيدة، ولادة المسيح وولادة الأمان في لبنان. “يحاول أهل الضيعة شراء كل ما يحتاجون كلما فتحت الطريق، نحتاج ساعة ونص الساعة من رميش الى صيدا، حيث كل القرى فارغة. إشترى الأهالي الثياب والزينة والمؤن، ومصرّون أن يوزع بابا نويل الهدايا على الأولاد، لكن الغصّة الكبيرة هي أن العائلات غالبيتها مشتتة غير مكتملة، تقطّعت أوصال الطرق وكذلك العائلات التي نزحت في غالبيتها الى أماكن أكثر أمانا، وهذا ما ينغص فرحة العيد، لكن منقول الحمدلله بعدا الضيعة صامدة وأهلها مصرّين يبقوا فيها، وهيدا التجذر بأرضنا، بدنا نضل هون لو شو ما صار، يا منموت يا منبقى وبتصمد الأرض والبيوت” يقول الحاج.

ستقرع أجراس القرى الحدودية الصامدة لاستقبال الطفل الإلهي، وسيحضر بابا نويل الى الكنيسة ليوزع الهدايا والحلم الذي يخترق كل صواريخ الواقع المدمّر المميت، والعائلة المقدسة التي هربت من بطش هيرودسات الواقع، الذين تبادلوا الأدوار في تدمير الجنوب وبيروت والبقاع، تتحدى بالمحبة صقيع الكراهية والاضطهاد، لتصل على ظهر حمار متواضع حنون وتسكن مغاور القلوب المسكونة انتظارًا لطفل يشع بالسماء.

“ميِّل يسوع ناطرينك”، يقول أهل القرى الحدودية الصامدة، ميِّل وتذوّق المغلي الذي سنصنعه ليلة عيدك، وتحلّى بضيافة الصامدين التي لن تتذوّق طعمًا مثيلاً لها في أي مكان من هذا العالم، هو مذاق الصمود بك من قعر العلقم الموشّح بالموت. ميِّل يسوع واسهر معنا ليلة ميلادك، لن نطعمك دجاجة محشية بالأطايب، ولا التبولة والتابلة النيئة، بل ستأكل معنا على مائدتك الممتلئة غفراناً وضياءً، أملاً لا يقارب بالغد لأنك معنا، وستثلج السماء وتنهمر رقع الثلج فوق أهدابنا على وقع طنطنة أجراسك، وسنشعل قبّولة نار أمام مذبح مزودك الحقير العظيم، وسنلتف كما لم نفعل في أي زمن مضى حول مغارتك، نشعل الأضواء في شجرة الميلاد، وسينحني الصاروخ، ويسكت المدفع، ويخجل الإرهابي والمحتل والعميل، وستلمع ليلة الميلاد بنجوم لم تشهد أرض الجنوب على بريق مماثل لها، أتعرف لماذا يسوع؟ لأن في تلك الليلة لن نهتم لسفرة العيد، بل لعيونك المتوهجّة حباً وخوفاً علينا، وسنسكن قلب الطفل ونكون معك أطفالاً كبارًا بالمحبة والأمل الكبير بالغد وبالحرية، بس إنتَ ميِّل يسوع…

 

كتبت فيرا بومنصف في “المسيرة” ـ العدد 1759​

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل