مولود مغارة بيت لحم.. لا تَخفْ إيُّها القطيعُ الصغيرُ!

حجم الخط

آشعيا هو السَّابق الأول في إعلان مجيء المزمع أن يكون الأكثر تأثيرًا وحضورًا وديمومةً في أجيال البشريةِ من أول آدم فيها حتى آخر حواء. كيف تجرَّأ إبن الله هذا المتحدِّر من أشراف مملكة يهوذا وبدَّد آمال بني سبطه المُترقِّبين المنتظرين ظهور المسيَّا من بين أحد أسباطهم الاثنتين والسبعين. آشعيا بن أموص المولود عام 760 قبل ولادة ذاك المولود الذي تنبَّأ على ولادته ولادةً عذريَّة، إنَّ بصيرته التي هندست كامل هيكلية مغارة الميلاد قبل سبعمئة وستين سنة من لحظة المخاض الأعجب، قد كانت الدَّافع الأوَّلي لسوقه إلى الرجم والقتلِ، والشهداء هم دائمًا المحرِّضون على أنفسهم كلَّما حرّضوا مجتمعاتهم كي تحرر ولادتها من سجلات قيد دوائر كل يوليوس قيصر أكان أجنبيًا أم محليًا!!

 

نورًا للأمم

الثريَّات المرصوفة بشموعٍ عسليَّةٍ مطَيَّبة بعطر الغار هي حِكرٌ على بيوتاتٍ وداراتٍ تأنَّفت من فتح أبوابها لمريمكَ المُجهدَة فوق مركوب أتانٍ (أنثى الحمار) جلودٍ لا تحرن، ويوسف السَّكوت المتيقظ لكل إشارةٍ يزوّده بها ملاك الرب. نار الرعيان هي النور الوحيد المتوافر لتدبير أمور والديك ونارهم هي القابلة الوحيدة المشرفة على توليدكَ. مزود تبن الماشية تحوَّل تلك الليلة إلى مملكةٍ لا حدود أرضية لها ولا قوانين حياتيَّة تنهكها الشرائع.

مزودك تلك الليلة كان متَّسعًا كاملاً لألوهيتك وملوكيتك وملكوتك، ومنجيرات الساهرين على قطعانهم في هجعة الليل استوعبت مجمل ألحان الأجواق المنشدة للذي أرسله الله ضياءً للشعوب ونورًا للأمم!!

 

وصرت وطننا

الذي طاردك من بداية طفولتِك خوفًا على تاجه وصولجانه وقصره، ما زال حيًا يرتزق ليس في بلاد اليهودية وحدها بل في شرق الدنيا وغربها. هيرودس يعيش اليوم بمئة إسم وإسمٍ، وبألف إثمٍ وإثم.. إنَّ في كلِّ بقعةٍ من بقاعِ هذه المسكونة المسكونة بالأرواح الشريرة راحيل تبكي على بنيها، فحمَلةُ سيوف قطع الرؤوس والأعناق والأرزاق والأعراض والقيم هم بأغلبيتهم من الذين يحملون مبادئ حقوق الإنسان ومقرَّات القرارات الدولية ما أشبهها بآية “القبور المكلَّسة”..

ولادتك هذه السنة وما بعدها لعلَّها يا رجاء الشعوب لن تكون كما قبلها، وهل لك أيُّ عتبٍ علينا إن رجوناك شخصيًا أن تبدأ الاقتحام حتى ولو ما زلت رضيعًا. فإخوتك الصغار ما عادوا يتحمَّلون انتظارًا كي تبلغ عامك الثلاثين، والهياكل الواجب اقتحامها لا تُحصى ولا تُعدُّ، وصوتكَ وسوطكَ يدعمان إنذارك القاصف رؤوس وظهور وأقفية رعاع التجارة والصيرفة، و”بيتكَ بيت الصلاة يُدعى”، وكأنَّك تقدِّس الغضب وتبارك التَّحطيم، والذين تصرَّفوا بمداخل أبواب الملكوت تصرُّفهم بعمليات مضاربات بورصة مداخيلهم، هم تحديدًا مَن سلبوا ويسلبون الإنعامات والوزنات المعطاة لهم  منصرفين عن مغارة الإبن الوحيد المرسَل نورًا للأمم إلى مغارة لصوص. أثمن ما سرقوه ويسرقونه هي رسائل البشارة كي يبقى زكريا الكاهن أبكمًا ويوسف بن يعقوب مرتابًا، ومجّانًا أطاع الصدِّيق الحائر وتقاسم خواتم الخطوبة العذرية بينه وبين الروح القدس.

مجَّانًا حملت الأتان الصبورة أنقى الحبالى من دون أن تعرف رجلاً. ومجَّانًا فتح الرعيان الطيِّبون مضاريف أجبانهم وجرار حليب نعاجهم ومرقوق خبزهم لضيفةٍ وضيف مؤتمنين على مجّانية ألوهيَّةٍ لم تأنف من افتراش تبن المعلف وتوسُّل الاستدفاء من لهاث الماشية!!

 

مولود مغارة بيت.. قاديشا

أيها المنحدر إلينا من سدر الأزليات تشاركنا معيشتنا الأرضية متحاشيًا آثامنا وخطايانا، لكنَّك لم تتحاشَ يومًا مجالسة ومؤاكلة وتعزية الخطأة المنبوذين نبذًا فريسيًا مساويًا بين اجتراحك الأعاجيب والآيات وبين جراحكَ المتكاملة مع جراح أضعف بني البشر. إنَّ تفاصيل ليلة الكوكب المُشرق من يعقوب مدوَّنة بأكملها ضمنَ محتوى رقيم بطريركيٍّ آبائيٍّ صادرٍ عن صرح أبيك الذي في سماوات سِفرِ تكوين المحبة، كما في فردوس الرحمة والنّعمة، كما في جنَّة الاحتضان الأبوي والتسامح والغفران!

لأن لبنان المُشيَّد على مداميك أسفار الكتاب المقدس واحدًا وسبعين تشييدًا ونشيدًا، قد أمسى الموطن المركزي الوحيد الحصين لمملكتك المسيحانية في هذا الشرق المضروب منذ عهود من نكبات وحلبات مصارعة الآلهة، وحمأة منازلة مزمنة مستعرةٍ بين جبهتي التديُّن لشريعة “السنِّ بالسِّن والعين بالعين”.. والأنياب بالأنياب والمخالب بالمخالب، ومزمور: “نجِّني من الدماء يا الله” غصَّةٌ في الإنسانية وبحَّةٌ في الصَّدى وغرقٌ في مستنقعات الدماء وأكوام الجثث المسحوقة..

ميلاد هذه السنة كالذي سبقه في مسلسل سنواتنا، إننا ما زلنا نزجُّ الجوهر الميلادي بهوامش وحواشي إحتفالاتنا التنكرية، فلا نتقبَّل دخولكَ أعياد بيوتنا وجمعنا العائلي واحتشاد صفوف الأطعمة على موائدنا الخاوية من الشَّبع الروحي والإنساني إلاَّ متنكِّرًا بأزياء ومزايا وهدايا سعادة الكونت “سانتا كلوز”، وأنتَ لا تولد بيننا إلاَّ حاملاً محمَّلاً بخطايا العالمّ!

يا ابن الأزلي وبهجة قلب البتول وقرَّة عين مربِّيك الصديِّق، إن لبناننا يعيش زمن ميلادك شغوفًا إلى لقياك ليل الخامس والعشرين من كانونك الأول، إنَّ لولادتكَ ولادةً لبنانية مكانًا ليس ككل الأمكنة، مكانكَ بيننا هذا الكانون يتناسب تمام التناسب مع إيماننا الميلادي المسوَّر بسور وثورة شعب الرجاء، إنَّه الإيمان المتطرِّف المعلن في رقيم بطريركيٍّ لبناني يتخطَّى رمزية الكرسي الأنطاكي ويوثَّق دليل المؤمنين بحتمية التمرُّد على الرَّخاء أيام الشدائد وقدسية العصيان على العيش الرغيد المشروط بالتنازلات، ومبارك يا رب في صرحك السماوي ومغبوطٌ غبطة الأب الذي أرَّخ لأجلنا رقيمًا ميلاديًا لا يتمكَّن مستبدٌ قاهرٌ من حذف حرف واحد منه إن أحسنّا الأمانة له: “نحن الذين لجأنا إلى المغاور والكهوف في عهد الظلم والظلام طوال مئات السنين كي يسلم لنا الإيمان بالله على طريقتنا”!!

 

صاحب مملكة الهللويات

تلك التي حُبل بها بلا دنس، ذلكَ الصفي العفيف الذي ظهر عليه ضميره المنور بوجه وصوت ملاك الرب: “لا تخف يا يوسف من أن تأخذ مريم “سيجُدَّان أيضًا وأيضًا في رحيلهما المضني للاكتتاب في مدينة داود مهد الآباء والأجداد، لكنَّ إسمكَ الذي هو مخاض روحك القدوس لن يدخل دفاتر إحصاءات الإمبراطور الروماني. فهلّا تقبَّلت أسماءنا مطبوعةً في هويتك المتمردة على قوانين الإحصاءات السلطانية ومنطق العديد والأعداد والتَّعداد.. هويتنا ثابتة مدى الدهر مثبَتة حتى قيام الساعة في نصوص آية وعدك لنا: “لا تخف أيها القطيع الصَّغير”!!!

هلل هلل هللونوي

كتب ميشال يونس في “المسيرة” ـ العدد 1759​

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل