خاص ـ مولودًا في مغاور قنوبين (ميشال يونس)

حجم الخط

ليلة الاكتتاب الإحصائي المأمور به من أغسطس قيصر إمبراطور روما وسائر مستعمراتها، توكَّلا على معونة الرب وقاما يجتازان طويل مسافات العتمات والزمهرير الكانونيِّ لا رفيق لهما ولا وليف إلاَّ طيف ملاك سبق وبشَّر ابنة يواكيم ثمَّ هدَّأ بعدها بآل ابن يعقوب وبدَّد هواجسه وجبر بخاطره. نظرات الخطِّيب تبرق بمزيجٍ حنان وقلقٍ وهو يرمق خطِّيبته الوديعة تجهد في إخفاء إرهاقها عنه وهي تشفق على الأتان الصَّبور حاملاً صباها المثقل بتسعة أشهر حبلها وحبلُ العفيفة يؤشِّر إلى أنَّها قد صارت على لياليها. ما همُّه الأغسطس الروماني إن تفحشَّت أسعار غرف منامة فنادق المدن المشمولة بحكمه وتعذَّر على هذه الفقيرة وهذا الفقير حتى تأمين نفقة منامتهما في المنازيل الشعبية وعزَّ عليهما إراحة الجسدين المرهقين ولَو في زاوية منزول واقتناصهما غفوةً يرضيانها على قشِّ الحصير.

أبواب بيوت المضافات ترتاب من قرعها بأيادي الغرباء ونوافذ الدَّارات العالية المتعالية لم تتنازل نافذةٌ منها وتسمح لقنديلٍ يطلُّ منها متحقِّقًا من وضوح هوية صبيَّةٍ قد مرَّ ذكرها منذ الدهر الأقدم في سفر الأنبياء وهي الليلة قد دنت لحظة مخاضها بنبوءة آشعيا عن آية الحبل العذريِّ بكامل إرادة وتخطيط وتصميم المزمع “ارسال ابنه الوحيد نورًا للأمم” اختار لمولده حظيرةَ ماشيَّةٍ أهلها غنَّامة معَّازة يسهرون على قطعانهم في هجعة الليل وباب مغارة ملء الزمان مفتوحٌ على مَرِّ ليالي السنين والأعوام للترحيب “بعذراءٍ تدعى مريم مخطوبةٍ على رجلٍ أسمه يوسف” !!

 

ناصرة ألهنا معنا

منذ ألفين وأربعة وعشرين رحلة من رحلات مريمية يوسفيًّة وطريق لا يحيدان عن خطها ومخطَّطها، بدايتها النَّاصرة المستكينة في هضاب الجليل وخاتمتها بيت لحم المتلهِّفةِ على لحظة وصول مَن “قد كان كلمة وشبلَ ليثٍ أعظم، فأضحى ساكتًا وحملاً وديعًا في بطن مريم”. بعد مرور ألفين وأربعة وعشرين كلمةٍ صارت جسدًا، أما حان موعد رحيل أهل المولود العجيب بمولودهم عن تلك المُسمَّاة حصريًا أرض الميعاد وقد انتهت إلى جبهةٍ تديُّنيَّةٍ يتواجه فيها المتديِّنون ويصوِّبون النار والدمار والأحقاد على بعضهم البعض متسابقين إلى مكافحة الاستيطان بالتناسل أو مواجهة التناسل بالمستوطنات… ويتعالى صوت ملاك الرب: “قم يا يوسف خذ الصبي وأمِّه “لكن إلى غير أرض مصر… أنظر شرقًا واتَّجه بعائلتك المسالمة إلى ذاك الجبل الذي حرَّمَ الربُّ موسى صعوده إلاَّ خاشعًا خالعًا خوذته الحربية من رأسه ونعليه من قدميه. هو الجبل الوقف والحَرمُ، أهله لا يكتتبون إلاَّ إذا تلقَّوا تعميمًا إيمانيًا صادرًا عن الذي أوكلهم على أرض وديعة الإيمان، ولا يلتزمون إحصائيًا إلا بقانون إحصائيٍّ مستوحى البنود القانونية من آية “لا تخافوا أنَّ شعور رؤوسكم كلها محصاة فلن تسقط منكم شعرةٌ واحدة إلاَّ بإرادة أبيكم السَّماوي”، كما أنَّه مستمَدٌ ومدَعمٌ بروح إحصاء الراعي الأقدس لعديد حملانه منصرفًا عن التسعة والتسعين موجودٍ كي يستعيد الحَمل الضائع عائدًا  به إلى أمومة وأثداء النَّعجة الحنون”!

 

توأم الكلمة والجسد

عقودٌ تلوى عقود وناصرة الجليل تنهكها توالي الأزمات، وبيت لحم تداهمها فواجعُ المِحنِ وعسير الامتحانات. أورشليم حلبة مصارعة بين أنبياء مزعومين وأولياءٍ آمرين غضوبين والجميع يقتل الجميع. درب آلامِكَ مفخخةٍ بألغام تقوم مقام جلاَّديكَ، وجلاَّدوكَ منهم مَن يحفر الأرض أنفاقًا متفجِّرة، ومنهم من يفجُر ويعربد بقاذفات قنابل خارقة الذكاء… وذكاؤها الأسود يخرق التَّحصينات العسكرية من دون أن تميِّزَ بأنَّ وجوه الرُضَّع والأطفال المحروقة ليست دُشمًا والأمهات والآباء والأخوات والعجزة ظلمُ لا مثله ظلمٌ أن يكونوا موضوع فضِّ نزاعٍ وتخاصم بين أنبياء متناحرين وأولياء متجاهلين بأنَّ “من يأخذ بالسَّيف فبالسيف يؤخذ”!!

 

الكوكب يشرق من قنوبين

إن كانت بيت لحم مقرَّا مقرَّرًا لولادتِكَ والمزود ملاذًا يأويكَ رضيعًا مِن لذعات هواءٍ قارصٍ يتسرَّب من فجوات مغارةٍ امتدَّت السَّماوات إليها تزوِّدها بنجمةٍ ملوكيَّةٍ مهمتُها إرشاد ملكوك الشرق القديم إلى مهد عهدك الجديد، فإنَّ لكَ في جبل نشيد الأناشيد قنوبين المغاور والكهوف وشقوق الأرض حيث تتفرَّع فروع الينابيع من أصول نبع المحبة الدافق مِن صوت وعدكَ الهادر: “أنا هو ينبوع الماء الحي، إن عطش أحد فليأت ويشرب منه، والذي يشرب لن يعطش أبدًا”. قنوبين لبنان أيها المُثقَل بمواسم الحبل من العذرية الأمومية المشمولة برعاية الروح القدس هيَّ الحصن الأخير الباقي في شرقٍ مهدَّدٍ دائمًا بعهود الهيرودسية والهيرودسيين. مغاورنا القنوبينية مذ كانت مأهولةً بالأمناء على ودائع الإيمان العُصاة على بائعي الأمن المشروط بطلب الأمان وتوسِّل العفو وتسوّل الحماية، وهي تناشد عذراء العذارى أن تقمِّطَ ولادتكَ بأساكيم حبساء قاديشا فهم بما عندهم يغنوكَ عن هدايا ملوك فارس وعن ما تنبَّأَ به بلعام، نسّاك القاديشية يضمون كامل أرصدة ثرواتهم على قيمة رصيد ثروات مملكتك وهي الوحيدة بين ممالك الأرض خارجةً عن ممالك العالم. إنَّه وادي قاديشانا مُصمَّمٌ لأبناء الخلاص كمنازل أبيك الكثيرة المتوافرة لكل درجات النعمة والطوبى والقداسة. ولادتُك يا يسوع في وادي القديسين يعفي ملائكة السماء نزولهم من قباب سماواتهم كي يسبِّحوا لولادتك ابنًا للبشر والأنسان، إنَّ ضفاف نهر لبنان المقدس مخضَّبة بأمواج المزامير والتهاليل والترانيم ومكنوزة بأجيالٍ عاشوا السيرة الملائكية وعيَّشوا تسابيح العلويين في آذان ونفوس الأرضيين!!

 

يسوعنا القنوبينيِّ

ولادتَك داخل مئات مغاورنا الدهرية تنقذ أرز الرب من جريمة ذبحه أخشابًا مساقة إلى بناء هيكل داود وسليمان في مذبحةٍ همجيَّة توازي فظائعها مذبحة أطفال بيت لحم ودماؤهم الطفولية هي السّابقة لدمائكَ التي مازالت تُسفكَ بأجساد أخوتَك الصِّغار وأنتَ المولود حاملاً كل سِماتهم وأسمائهم. قنوبين هي شرقكَ الأخير وبيت لحمك الأخيرة، رعيانها يسهرون على قطيعك الصغير طوال هجعات الليالي، وفَرشُ مزاودها قمحٌ يغمركَ طفلاً ويخلِّدُ جسدكَ خبزًا يعطى لنا للحياة الأبدية!!!

هلل هلل هللونوي

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل