لم تختلف التداعيات والمخاوف والمحاذير التي طغت بعد سقوط نظام بشار الأسد عن تلك التي طغت وطفت بعد سقوط دكتاتوريات مشابهة في مصر وتونس والعراق وليبيا، ولم تختلف المخاوف والتخويفات التي سبقت ورافقت ولحقت بسقوط الدكتاتوريات وأشباهها في العالم.
لم يعتقد أحد في لبنان كذلك أن تكون قراءة التابعين لنظام بشار الأسد وحلفائه في لبنان، لهروبه فسقوط نظامه، علمية منطقية طبيعية، تملي عليهم مراجعة أخطاء النظام الهارب وخطاياه، كما لم يعتقد أحد أن يكون العونيون فرحين بمن اعتبروه مؤخرًا وعن خطأ وخطيئة متعمّدة ومصلحة سياسية ضيقة، حامي المسيحيين بوجه الأصولية الاسلامية والتكفيريين.
بعد سقوط بشار الأسد سارع الإعلام العوني والممانع الى تجهيز أرضية تخويف المسيحيين في لبنان وسوريا والتركيز على “أصولية وإسلامية” البديل عن الأسد، متناسيًا طبعًا تألق وتقدم وتفوق أصولية وإسلامية مشروع حزب الولي الفقيه في لبنان وأشباهه في غزة والعراق واليمن وإيران… ومتناسيًا طبعًا ما كان قد شهد عليه رأس الحالة العونية ومؤسسها العماد ميشال عون من تحت قبة الكونغرس الأميركي وأمام شيوخه في 17 أيلول 2003 قائلًا ناصحًا مصوّبًا مستشرفًا:
“النظام السوري قام على النار والدم… لا يمكن للمرء، منطقيًا، أن يفصل النظام السوري عن الإرھاب… إن الأنظمة الديكتاتورية هي السبب في نشأة الأصولية، من يتستّر على الانظمة الدكتاتورية بحجّة الخطر الأصوليّ ساذج وأحمق”… واستكمالًا وقبل أن يصبح في مقدمة المتستّرين على نظام الدكتاتور الدكتور بشار الأسد، قال العماد عون متوجهًا الى هذا الأخير في 9 تشرين الأول 2004: “إن النظام السوري يحتفظ ببؤر المخيمات وسلاح الميليشيات وسيف الأصوليات كصواعق جاهزة للتفجير… إن الأسد تذرّع بحماية المسيحيين لكنه كان السبّاق الى قتلهم وتهجيرهم… وحدها الحقائق ستنتصب وراء الرئيس السوري وأمامه، وينتهي عصر تشويه التاريخ”.
وفي هذا الإطار يلتقي موقف العماد عون السابق مع موقف “القوات اللبنانية” الثابت من المؤسس البشير الى سمير، إذ يقول الرئيس الشهيد بشير الجميل في نفس الإطار: “إذا اتى نظام غير هذا، أنا أشك أن يقترف نصف ما اقترفه هذا النظام بحق اللبنانيين ولا أعتقد أن يأتي نظام أضرب من الذي أتى”… وهذا ما ثبت عليه سمير جعجع تحت شعاره الإيماني “ما بصح الا الصحيح”.
تصديقًا كذلك على كلام عون حول احتفاظ النظام الساقط بـ”سيف الأصولية” قبل أن يلحس مؤسس التيار كلامه بصفقة عودته الى لبنان وانضوائه في محور الممانعة بعد توقيعه وثيقة التفاهم مع ممتشق “سيف الاصولية” حزب إيران في لبنان، نعود الى النموذج الدليل على تأسيس واستثمار واستعمال نظام الأسد لما يسميه اليوم الممانعون ـ العونيون الخطر الأصولي التكفيري والذي تمثّل بمرسوم العفو الرئاسي رقم 61، الذي حمل توقيع الرئيس بشار الأسد في 31 أيار من العام 2011 والذي أطلق معه مئات من المحكومين المجرمين المدانين، ولم يكن هؤلاء الذين أُفرج عنهم جنودًا ومقاتلين وحسب، بل كان من بينهم قادة لجماعات متطرفة “تكفيرية” (كأحرار الشام وجبهة النصرة ـ التي أصبحت لاحقًا “هيئة تحرير الشام”، وقيادات تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام ومن أبرزهم علي الشواخ، المعروف باسم أبو لقمان الذي أصبح والي الرقة، عاصمة التنظيم في سوريا، والمسئول عن عدد من عمليات قطع الرأس، والمساهم بعمليات تمويل التنظيم… وأبو مالك التلة وأبو محمد الجولاني ونديم بالوس وبهاء الباش وقائد جيش الإسلام زهران علوّش وحسان عبود أحد زعماء أحرار الشام وأحمد عيسى الشيخ أحد قادة ألوية صقور الشام… وغيرهم كثيرون أطلقوا بمراسيم سابقة ولاحقة للمرسوم 61.
نستذكر كذلك في الإطار نفسه، شاكر العبسي الأردني الجنسية الذي لم يُرحّل الى الأردن بعد إطلاقه بعفو رئاسي سابق لمرسوم الـ61 من سوريا بل الى لبنان، ليسيطر على مخيم نهر البارد ويعتدي على الجيش ويقتل جنوده وليضع نصرالله العبسي والمخيم، خطًا أحمرَ بوجه الجيش اللبناني… يجدر التنويه هنا أن شاكر العبسي هرّب سالمًا غانمًا من لبنان ليظهر في سوريا ومن بعدها العراق، تمامًا كما هرّب أبو مالك التلي ومسلحي داعش مكيّفين معزّزين من لبنان تحت حماية “الحزب”، ليستعملوا لاحقًا في إدلب ومن بعدها العراق، إضافة الى سقوط حجة التخويف من الاصوليين التي سقطت معها وقبلها حجة ذهاب “الحزب” لمحاربة هؤلاء، دفاعًا عن لبنان والمسيحيين فيه حسب ما روّج له مدّعّي تمثيل المسيحيين من العونيين… إذ يكشف أمين عام الحزب الراحل نصرالله في 18 تشرين الأول 2015: “نقاتل منذ أكثر من 4 سنوات بوجه المشروع التكفيري وقدمنا الشهداء…”
في حين أنه في العام 2011 على ما تؤيده الوقائع، لم يكن هناك لا مسلحين ولا تكفيريين ولا من يقاتلون ولا من يكّفرون… ومن الوقائع أيضًا ما قاله نائب الرئيس السوري آنذاك فاروق الشرع في 17 كانون الاول 2012 في مقابلة مع صحيفة الأخبار: “في بداية الأحداث كانت السلطة تتوسل رؤية مسلح واحد أو قناص على أسطح إحدى البنايات، الآن السلطة وبكل أذرعتها تشكي حتى إلى مجلس الأمن الدولي ـ كثرة المجموعات المسلحة التي يصعب إحصاؤها ورصد انتشارها”.
هنا لم يأت الشرع في العام 2012 على ذكر تكفيريين ولا متطرفين ولا أصوليين من ضمن المسلحين… والذين لم يكونوا حقيقة وفعلًا الا “الجيش السوري الحر” المنشق عن الجيش الأسدي.
ولمن يريد أن يلتزم معايير صحية وصحيحة في التعاطي مع النظام السوري الجديد العتيد، أن يعود الى وصفة بطريرك الاستقلال مار نصرلله بطرس صفير في التعاطي مع نظام الاسد الساقط ومن مكوناتها الأساسية على لسان البطريرك:
“لن أزور سوريا الا وطائفتنا معنا، وهذا الأمر صعب في ظل توجس المسيحيين من النظرة السورية الى لبنان، ما الذي تغير لأزور دمشق اليوم؟ عندما كانت سوريا هنا لم نذهب… خروج السوريين من لبنان أبقى على نفوذهم نتيجة تقيد البعض بوصايتهم، ولكن النضال يجب أن يستمر من أجل قيام الدولة”.
وردًّا على سؤال متى ستزور قصر المهاجرين؟ أجاب: “وأين يقع قصر المهاجرين؟… ليس لسوريا (نظام الأسد) حلفاء في لبنان بل عملاء”.
انطلاقًا من آخر استشهاد لصفير يبطل العجب من عدم قدرة المتضررين على كظم غيظهم من سقوط النظام.