القوّات اللبنانيّة تولد وتتجدّد وتتحرّر

حجم الخط

القوات اللبنانية

المشروع السياسي الذي لا يقترن بالقيم الإنسانيّة يتحوّل إلى مشروع للشرّ. أمّا المشروع السياسي الذي يرتبط بالأبعاد الانسانيّة القِيّميّة فيرتقي بإنسانه إلى سلّم الكمال الإلهي. هذا السّلّم الذي يصبو إليه الإنسان طالما وجد في هذه الحياة. ولكن هذا لا يعني بالطبع أن يتحوّل المشروع السياسي إلى ترجمة للأصوليّة الدينيّة مهما اختلف شكله أو انتماء هذا الفكر الدّينيز

من هنا بالتّحديد، تتجلّى المفاهيم الميلاديّة المسيحيّة في المشروع السياسي الذي يتتوأم مع روحيّة الميلاد. هذه الرّوحيّة التي تقوم على مبادئ التجدّد والتحرّر والتواضع. هذه المبادئ المستقاة من الولادة “الميلاديّة”. هذه الولادة التي جدّدت وجه الأرض. هذه الولادة التي فرضت التّسامح مبدأ لهذه الحياة الجديدة. هذه الولادة التي حرّرت الإنسان من نير التّشيّؤ الذي صنعه بنفسه لنفسه. هذه الولادة التي حرّرت الإنسان من تبعيّته للشرّ الذي مثّله بطمعه الماديّ والسلطويّ التسلّطيّ. هذه التبعيّة التي وصلت إلى حدّ الاستعباد والذميّة والارتهان.

يبقى أنّ الانسان الذي اختار المشروع السياسي الذي انبثق من روحيّة الميلاد، قد نجح بتحرير ذاته بذاته. واستطاع أن يتجدّد، لأنّ فكره السياسيّ، لم يأسره في جدران ذاته. ومَن يقبل التحرّر والتجدّد بهذه الرّوحيّة فروحه حتمًا متواضعة. لا يقبل التكبّر ولا المتكبّر. ولا يستطيع أن يُرتَهَنَ لأحد أو لأيّ مشروع سوى المشروع الذي يؤمّن له هذه الحرّيّة الشخصيّة الكِيانيّة.

وحتّى لو اتّخذ التّاريخ مسارًا انحداريًّا على حساب الانسان، فيجب أن نتذكّر الآية 18 في المزمور 118 التي تقول: “تَأْدِيبًا أَدَّبَنِي الرَّبُّ، وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي”. وهذا الواجد السّرمدي يعرف تمامًا متى يتدخّل في مسار التّاريخ لتصويبه. حتّى لو كانت الأضاحي البشريّة ثمينة جدًّا.  فيجب أن نثق بإرادة الرّبّ. كيف لا وهو الذي علّمنا أن نقول “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”.

وما ورد في صلاتنا الرّبّيّة وحده كفيل بأن نؤمن بأنّ مشيئة الرّب تكون على الأرض أيضًا، وليست في السماء وحسب.  لكنّ الساعة التي نضعها في معصمنا غير تلك التي تسير بحسبها الإرادة الإلهيّة. وربّ القوّات السماويّة يعرف كيف يجعل من عدالة السماء تلك النّسمة الباردة التي تعصف في صحاري عدالة الأرض الجهنميّة. ومَن لا يؤمن بعدالة السماء لا يستطيع أن يلوم المؤمنين بها، لأنّه لا يملك ما يكفي من الايمان ليُسلِمَ، بل إسلامُهُ بالإرادة الربّيّة يبقى مشروطًا بما يريده إنسانُه الماديّ في هذه الفانية.

ولأنّنا لسنا من هذا العالم، لا نؤمن بعدالته. ونؤمن تمامًا أنّ المسار الذي رسمه ربّنا، إن أسلمنا به، نسلم عن حقّ ـ حتى لو كانت تضحياتنا جِسامًا ـ لأنّ هذه التضحيات هي القرابين التي نرفعها لنسلّم أمانتنا أفضل ممّا استلمناها. ماذا وإلّا سنبقى قابعين في دورات التّاريخ الفارغة، ولا نحسب سوى أرقامًا في التأريخ لأنّنا نكون قد أسقطنا بفعلنا ذواتنا بذواتنا من التّاريخ.

لذلك كلّه، “القوّات اللبنانيّة” تولد وتتجدّد وتتحرّر في الميلاد اليوم كما دائمًا. وتودّع عامًا مليئًا بانكسارات بعضهم وانتصاراتها. والأكثر نصف قرن مورست بحقّها أشنع الممارسات، وحار بعض قليلي الإيمان في استمرار سرّ وجودها. وذلك لأنّهم لا يؤمنون بمسار الميلاد في تأريخ التّاريخ. المسألة بسيطة جدًّا، لكنّها قاسية وصعبة ومليئة بالتضحيات والعرق والدّموع والدّماء، سرّها بكلمتين اثنتين فقط: ” لتكن مشيئتك”.

ولأنّ قيادة “القوّات اللبنانيّة” آمنت بهذا المسار الميلادي في التّاريخ عرفت تمامًا كيف ومتى تقول هاتين الكلمتين. وفي نهاية المطاف صحّ الصحيح وكانت مشيئته. تدخّل لتصويب مسار التّاريخ الذي حرفه ظلم البشر. وتدخّله بحسب توقيته لا بحسب توقيتنا. لكنّنا لأنّنا عرفنا كيف نسلِمُ لهذه الولادة الميلاديّة، تجدّدنا بروحه، وتحرّر مشروعنا السياسي، وانتصر الحقّ على الباطل.

نودّع هذا العام بعدما تحقّقت هذه الولادة.  لكن حذارِ أن نسكرَ بنشوة الانتصار. فهذا انتصار جزئيّ، يبقى ناقصًا، إن لم نكملَ مسارَهُ. ونحن عازمون على الاستقرار على الاستمرار فيما بدأه أجدادنا وآباؤنا حتّى نؤمّنَ البقاء والاستمرار والدّيمومة للبناننا بصورته الجديدة.

ينتظرنا عام مليء بالتحديات. ونحن لها. وسنكون حيث لم يجرؤ غيرنا أن يكون لأنّنا كنّا وقتما هربوا كلّهم تاركين نساءهم خلفهم، وناكرين شهداءهم وأسراهم. واستمرّوا بنكرانهم هذا يوم وضعوا يدهم بيد الشيطان ليسموا بمشيئتهم هم لا بمشيئة الرّبّ. ونالوا أجرهم على الأرض عندما لبسوا الأرجوان وتنعّموا كلّ يوم مترفّهين. أمّا في السماء، فلنا ملء الإيمان أنّهم سيستصرخون ربّ القوّات لنبلّ طَرَفَ إِصْبِعِنا بِمَاءٍ وَنبَرِّدَ ألسنتهم التي أنكرته، لأَنّهم مُعَذَّبون فِي ذلك اللَّهِيبِ.

سنتعزّى نحن، وهم سيعذّبون. وبيننَا وبَينَهم هُوّة عظيمة قد أُثْبِتَتْ، حتّى إنّ الَّذين يُرِيدون العبور مِنْ ههُنَا إِليْهم لاَ يَقْدِرُون، ولا الَّذِين مِنْ هُنَاك، حيث هم يحترقون، يجْتَازُونَ إِلَيْنَا. لم يسمعوا يومًا صوت الرّبّ يبكّتُ ضمائرهم. بل صمّوا آذانهم ليعتلوا الكراسي والمنابر. بحّت حناجرهم بالنكران. وما نضبت دموع أمّهات أسرانا في السجون السوريّة. فهم لم يؤمنوا حتّى بوجودهم بعد عودة بعضهم منها. فكيف سيؤمنون بالقيامة؟!

هذا سرّ إيماننا بقضيّتنا. نموت ويحيا لبنان. نموت لنعبر بلبناننا حيثما أراده ربّ القوّات أن يولد ويتجدّد ويتحرّر. نموت لنعبر إلى الحياة الأبديّة، ولا نموت لنحيا الملذّات الأرضيّة في أماكن خياليّة. وإن متنا نقوم بعد ثلاثة أيّام لأنّنا ميلاد وعبور فقيامة. نحن ولبناننا. هذا سرّ إيماننا.

إقرأ أيضًا

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل