الدايم دايم على أبوابنا.. افتح لبنان

حجم الخط

دايم دايم

اممممم عبقت رائحة الزلابية! الزلابية، ما هذا الاإسم القاسي الغريب، يسأل ابن المدينة. طفلة، كنت أخاف من شكلها ولا أتذوقها، وكانت ستي تصر أن تطهوها قبل العويمات التي أحب. “طب ليش يا ستي ما بتعملي عويمات، أطيب بكتير؟” أسألها بعتب وأشعر وكأن الزلابية أصابع رجل من أبناء الكهف نسيه الزمن في هذه الدنيا. “الزلابية كرمال المعمدان يسلملي” كانت تجيبني وتهرع الى العجينة، اذًا مار يوحنا بالدقّ، ويبدو أنه كان يحب الزلابية “ولك لاه يا ستي، المعمدان بس وصل يسوع تـ يتعمّد بنهر هيديك البلاد (قصدها نهر الاردن)، دلّ بأصبعة على يسوع وصرخ هادا هوي حمل الله، والزلابية ع شكل أصابع المعمدان” تقول خبرية ستي، وأهرع أنا غير مقتنعة لأردد تلك الردية العتيقة، التي كنا نلعلع فيها ساحات الضيعة ليلة الدايم دايم “زلابية يا زلزبول بتطعميني يمّا بقول. عويمات يا عويمات باكلك وما في خود وهات. سمبوسك يا سمبوسك شو طالع ع بالي بوسك. معكرون يا معكرون بدي آكلك ولو طلعلي قرون”.

هي ليلة الغطاس إذًا، والضيعة تنتظر تلك الليلة السحرية الغريبة. البيوت معجوقة بتحضير الأطايب وما هو أهم بكثير، تنتظر مرور يسوع عند النوافذ المخرمة بدانتيل الحنين ذاك. ثمة سحر غير مرئي، أو لنقل ريح ما تعصف بتلك الليلة، حتى ولو كان الهواء في إغفاءة عميقة. ثمة انتظار يلفح القلوب، انتظار يد تقرع الأبواب من دون صوت، ريح تهب وتتطاير البرادي من دون هواء، عبق عطر من دون جسد يحملها، عيون مغرورقة بحنان السماء كلها من دون أن نراها. “ليش يا ستي هالقد معجوقة صارت الساعة تسعة وبعد ما نمتي” نسألها بدهشة، هي التي لم تتجاوز يومًا الساعة التاسعة لتبيت في فراشها حتى ليلة الميلاد، الا ليلة الغطاس “بدي أنطرو يمرق ويبارك المي والعجينة، بدي أقعد هون عالشباك لأسمع دعسات إجريه”، كانت تقول بإيمان مطلق، وكانت ستي على حق، لأن نحن حتى اللحظة، نفعل كما كانت هي تفعله تمامًا، لبنان كله يقف ليلة الغطاس عند عيون ستي في انتظار حفيف المسيح عند شغف النوافذ، ينتظر حفيف الدايم دايم ليشرِع له الأبواب.

كل شيء جاهز في انتظاره، عُلقت العجينة بلا خميرة الى السنديانة العتيقة، نكاية بشجرة التين التي تمردت عليه وما انحنت له، ونعرف أن الشجر كله سينحني لحظة عبوره، والعجينة ستتبارك وترفخ لأنه زرع فيها خميرة حبه. عند النوافذ اصطفت أكواب المياه وبعض من قطع نقدية وهو يبارك المياه والرِزق، في حين تتراقص أضواء الشموع المدروزة قربها لأنه هو نور من نور ولا يليق الا أن نستقبله بالنور، ويشعشع البيت كله مع الشموع لاستقباله.

هذه عاداتنا وتقاليدنا في تلك الليلة، والأهم هذا إيماننا الذي نراه أمام عيوننا يتجلى بأبهى صورة.

12 ليلًا، تستكين فجأة عواصف كانون، لا صوت رعد ولا برق ولا مطر، كأن الحبيبات تتوقف في منتصف الطريق بين سماء وأرض، تستكين الرياح وتخبئ عواصفها في عبِ الغيم، تنحني الجبال ويتواضع الجبروت، وحدها البرداية المخرمة تتمايل فجأة، ثمة من تلاعب بها، ثمة من عبر فترك طيفه الحنون يمر على وجه الدنيا، فاغرورقت عيون الأرض بدمعها الرقراق، وفجأة هبت تلك الريح وتراقصت شعلة الشموع عند النوافذ، ركعت ستي على الأرض “افتحوا البواب افتحوا البواب مرق الرب” صرخت، صلّت مسبحتها مخطوفة مغمضة العينين، شربت من المياه التي تباركت وذهبت صبية في غاية الجمال لتنام قرب حلمها بيسوع ثم عانقته وذهبت معه الى حيث الضوء دايم دايم…

12 ليلًا تقرع أجراس الكنائس فرحًا، وكأن المسيح هو شخصيًا من يمسك بحبل الجرس ليطنطن بالحب على ناسه، وتذهب المدينة والضيعة الى قداس منتصف الليل، وهناك عند المذبح على ضوء مغارة الميلاد، يروي لنا الأبونا حكاية يوحنا المعمدان وعلاقته بيسوع، وتقول الحكاية إن اللقاء الوحيد الذي جمع الشابين هو عند نهر الأردن، حيث تعمد الرب على ايدي المعمدان وظهر لأول مرة الثالوث الاقدس بأقانيمه الثلاثة: الآب والابن والروح القدس على شكل حمام فوق رأس المسيح.

في اليوم التالي، أي يوم عيد الغطاس، يحمل كاهن الرعية المياه المباركة، ويدور في الضيعة يبارك البيوت بيتًا بيتًا، وعند كل بيت “تفضل يا بونا بركة العيد”، وما إن يخرج حتى نبدأ بضبضبة مغارة الميلاد التي تباركت وتضبضبت الى حلم الميلاد الآتي…

ينتظر لبنان ليلة الغطاس، كل سنة يقرع المسيح أبوابه، ولولا الدايم دايم ذاك، لكان اختفى لبنان من زمان، واندثرت قيمه وكيانه ووجوده الحر في هذا الشرق، لكن الرب لم يتركه، كل ليلة غطاس يعبر أمام نوافذه، ليعلن عليه البقاء والأمل، يقرع المسيح في ليلة الغطاس أبواب لبنان، تتماوج ستائره، تتمايل شموعه المدروزة على القلوب الطافحة بالإيمان، تتبارك العجينة وترفخ وتنحني الدنيا للطيف العابر على وجهها. نؤمن أنه يمر ويبارك ويبتسم لنا، منذ 2025 عامًا وهو يفعلها، ومذ ذاك الزمن ونحن نلحق به في ساحات العمر علّنا نمسك بطرف ثوبه، نؤمن أنه ينظر الينا من دانتيل النوافذ، نؤمن أنه يرانا ننحني والجبال تنحني والكبرياء ينحني، وكل متجبِر متكبِر ينحني لعاصفة الحب تلك صاغرًا، نؤمن أن عاصفة حب تهب علينا في تلك الليلة، وما علينا سوى أن نشرع لها ابواب القلوب لتسكن فينا الى الأبد.

الدايم دايم عند أبوابك لبنان، افتح له الأبواب والنوافذ والقلوب، ولتكن العجينة الرافخة من دون خميرة، خميرة الأيام الآتية على حلم الدايم دايم يا سيدي المسيح…

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل