تنحى المجتمعات الأكثر تطوّرًا والأعرق ديموقراطية إلى ترسيخ التنوّع والتعددية في مَواطنها ليس كمنة أو منحة، بل كحق أساسي يفرض على الدول المعنية واجبات الحفاظ على هذه الميزة وتثبيت التنوّع بمعزل عن الأعداد والأرقام.
يخطئ من يعتقد أن هذا التوجّه ينحصر بالدول الفدرالية، بل يشمل الدول المعروفة بأنظمتها المركزية، كمثل فرنسا وإيطاليا، حيث تتمتع مناطق على غرار بريتاني وكورسيكا في فرنسا وسردينيا وصقلية ووادي أوستا في إيطاليا باستقلال ذاتي بنسبة أو بأخرى، أو باعتراف بتمايزها على صعد عدة.
لا بل إن حقوق المجموعات الثقافية أي المختلفة إتنيًا أو لغويًا أو دينيًا عن الغالبية، باتت تُلحظ أكثر فأكثر في الدساتير، وأحيانا تُفصَل لها مساحات من الأراضي تعود لها حصرًا، كما في أوستراليا والولايات المتحدة وكندا وسواها، إلى ضمانات أخرى تؤمِّن حمايتها إجتماعيًا وتراثيًا.
وفي ضوء ما تقدم، وعلى خلفية التطوّرات الأخيرة، وفي ظل الحالة الانفتاحية التي تقودها عربيًا المملكة العربية السعودية، فإن الوجود المسيحي في لبنان والمشرق لا بد أن يتحول تدريجًا من معضلة ومشكلة تبرز بين حين وآخر، إلى واقع ثابت ومحصّن على مستويات عدة، بما يوفر الاستقرار له وللمجتمعات التي ينتمي إليها، عبر تكريس حقوق المجموعات على اختلافها وإدراجها في الدساتير والقوانين، وحتى في المناهج التربوية والثقافية.
فما حصل في غزة، أثبت أن المسيحيين في القطاع، وعلى رغم ضمور أعدادهم، عانوا ما عاناه سواهم وساهموا في صمود الأهالي. ولفت الدور المهم الذي لعبته مؤسساتهم القليلة نسبيًا من كنائس وجمعيات ومنظمات خيرية في تقديم كل مساعدة ممكنة. ولعلَّ إسم المستشفى المعمداني الذي تردد كثيرًا يؤكد على هذا الواقع، وذلك كله في ظل تحكّم حركة حماس الأصولية بشكل خاص بالمشهد الغزاوي.
أما التطوّرات الدراماتيكية في لبنان، فأكدت على المعنى الحقيقى لعبارة الغنى في التنوّع، إذ شكلت المناطق المسيحية الآمنة نموذجًا معبِّرًا على صعيد احتضان النازحين على الصعد كافة، من دون أي إعتبار للخلافات السياسية والعقائدية، بل إن المناطق المحسوبة على “القوات اللبنانية” كانت الأفضل اهتمامًا وأداء وعناية بالنازحين باعتراف الأبعدين قبل الأقربين.
أما في المغزى السياسي، فالمسألة قد تكون أدق وأعمق، باعتبار أن التطوّرات أثبتت أهمية التعددية، وبلورت تمايزات جذرية أحياناً في التركيبة اللبنانية وفي المقاربات السياسية بخلفياتها الثقافية، وهذا الواقع إن دلّ على شيء، فعلى أن التنوّع لا يلغي الوحدة، وأن الوحدة الوطنية لا ينبغي أن تلغي التمايز والتنوّع. ولذلك فإن عبارات على غرار “الاندماج والانصهار في بوتقة واحدة” تخالف المنطق، وتعني في حقيقتها إلغاء التنوّع والخصوصيات التي لا ترتبط بالسياسة بقدر ما ترتبط بالتاريخ والإرث الثقافي ومجموعة من الحقائق الموضوعية.
وفي الواقع، لم يعد يكفي التغنّي بالعيش معًا وبالعيش المشترك والاعتماد على ما نص عليه الدستور من أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، ولا يكفي التمسّك اللفظي بالشراكة وبالميثاق الوطني كتجربة فريدة، بل إن الحاجة باتت إلى ضوابط عملية ودستورية وقانونية وضعية تؤكد على التنوّع والمساواة بين مختلف المكوّنات اللبنانية، وعلى أهمية احترام خصوصيات الآخر وهي كثيرة ولا تستتبع النزاع بقدر ما تقود الى التفاعل الإيجابي عندما تتوافر لها الضمانات المثبتة رسميًا وعمليًا.
إن المسيحيين في لبنان ليسوا مجرّد حاجة، بل هم أحد ركني الميثاق الوطني، وبالتالي إن حضورهم بكامل مواصفاته الميثاقية في الدولة هو حق وواجب، وقد أظهرت التجارب الأخيرة أن ضعف المكوِّن المسيحي يعني ضعفاً للبنان بمختلف مكوّناته، وأن الشراكة المسيحية الحاسمة في القرار الوطني والسياسي تمثل صمام أمان، وقبل ذلك نموذجًا يهم العرب الحفاظ عليه لأنه يدعم توجّهاتهم من أجل تطوير مجتمعاتهم وتعزيز فرصها في مواكبة العصر مع التمسّك بالتقاليد والموروث الثقافي بعيدًا من التوظيف في الرهانات السياسية والصراعات الفئوية.
وها هي التجربة السورية تفرض إعادة النظر في مفاهيم مغلوطة سادت مدة طويلة وأثبتت الوقائع زيفها وسقوطها، على غرار عنوان تحالف الأقليات، والذي كاد في مراحل معيّنة أن يودي إلى القضاء على الأقليات وعلى التنوّع في سوريا كما في سواها.
لقد راهن نظام الأسد طويلاً على ادعاء رعاية التنوّع في ظل علمانية مزعومة تبيّن أنها كانت مجرّد غطاء لمذهبية متوحشة، فرضت سطوة العلويين المرتبطين بالأسد على الآخرين، وتعاطت مع المسيحيين كمتاريس أكثر منهم كشركاء فعليين في الوطن والسلطة، والأمر نفسه ينسحب على العراق، والنتيجة التراجع الكبير لأعداد المسيحيين في سوريا، وتوريطهم تصنيفاً في خانة أنصار النظام البائد، وهو ما يجافي الواقع في جانب منه، فمعروف أن عددًا من رموز الثورة والمعارضة في الخارج كانوا مسيحيين، وأن النظام الأسدي تعاطى مع أركان الكنيسة بفوقية وتشكيك دائم، وما زالت الأسئلة تطرح الى اليوم عن سبب الوفاة المفاجئة للبطريرك الياس الرابع معوّض الذي أزعج النظام بتوجّهاته المتحرّرة نسبيًا، علما أن البطريرك الخلف إغناطيوس الرابع هزيم كان موضوعًا تحت الرقابة على صعيدي التحركات والإتصالات. ولا يمكن التغاضي عما حصل مع البطلة الأولمبية في سباعية ألعاب القوى غادة شعاع المسيحية الأورثوذكسية، والتي أراد النظام أن يستغلها للدعاية له وبلغت ضغوطه عليها حد إعتقالها مدة لا بأس بها لينتهي بها المطاف باللجوء إلى أوروبا.
وفي الخلاصة يمكن القول، إن معاناة المسيحيين في المنطقة أزهرت اهتمامًا أكثر جدية وتفهّمًا أكبر على الصعيد الدولي، وهو ما يستشف من الضمانات التي فرضها الأميركيون مسبقاً على “هيئة تحرير الشام” وقائدها أحمد الشرع بحماية الأقليات ولا سيما المسيحية، وتجنّب الصدامات الكبيرة مع العلويين والأكراد إلا في حالات الضرورة أو لدى بروز محاذير خطرة.
كان يقول أحد البطاركة المسيحيين المشرقيين في العراق، إن المسيحيين في الشرق الأوسط بخير طالما المسيحيون في لبنان أقوياء وبخير. وهذه المعادلة لا بد أن تعود وتسود، مع انكسار هلال النفوذ الفارسي، وأصحابه الذين أرادوا التنوّع مجرّد ديكور وغطاء لمشروع الهيمنة المذهبية وحلم تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية.
أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة
كتب أنطوان مراد في “المسيرة” ـ العدد 1760
التحوّلات الإقليمية ترسِّخ الحضور المسيحي
إعتراف عربي ودولي بالحقوق، وتركيبة ضامنة في لبنان
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]